خاص- ثقافات
*عبلة جابر
صدرت رواية سلمان رشدي “أطفال منتصف الليل” عام 1981، باللغة الانكليزية عن دار Jonathan Cape في لندن ، تحكي الرواية عن رحلة الهند على مدى 60 سنة من الانتداب البريطاني مرورا بالاستقلال وحتى الانقسام. تم تعريب الرواية للمرة الأولى في دمشق. كما أنها قد تحصلت على عدد من الجوائز العالمية كان أهمها جائزة البوكر بالإضافة لجائزة البوكر التي تمنح لأفضل رواية على مدى سنوات ، كما تم إدراجها على قائمة البي بي سي لأكثر الكتب قراءة ، عدا عن إدراجها على لائحة أفضل روايات القرن العشرين.
تم تحويل الرواية إلى فيلم في عام 2012 من إخراج Deepa Mahta و تم عرضه للمرة الأولى في تورنتو الكندية، شارك فيه عدد من الممثلين العالميين من بريطانيا كندا والهند ، هذا وقد تحصل الفيلم على عدد من الجوائز.
تعتبر رواية أطفال منتصف الليل ملحمة الهند الحديثة ، تُغطي الرواية وعلى مدى صفحاتها ال 670 صفحة حقبة تاريخية طويلة تبدأ بعام 1915 وحتى عام 1977، تطغى عليها الواقعية السحرية، لاسيما وأن الهند تعتبر بيئة خصبة لنمو الخرافات، السحر ، الشعوذة والخزعبلات العديدة، كيف لا وهي التي تحتضن في أرضها أكثر من مليار إنسان، تختلف ثقافاتهم ، دياناتهم ولغاتهم.
تمزج الرواية ما بين السيرة الذاتية والسرد التاريخ ، يتراوح السرد فيها ما بين التقديم والـتأخير، يغلب عليه ضميرالأنا المتكلم السارد “سليم سيناء” وهو يروي مذكراته وسيرة عائلته على بادما- راعيته -والتي تصبح زوجته في آخر الرواية بناءً على رغبتها الخاصة، رغم معرفتها بعجزه الجنسيّ.
يولد سليم سيناء ، في ليلة الخامس عشر من آب لعام 1947، وهي ليلة استقلال الهند، هكذا لصدفة قدرية يقترن تاريخه الشخصي بتاريخ الأمة بكاملها، ليختزل سلمان رشدي الهند كلها في عائلة أحمد سيناء وصهره آدم عزيز. بعبقريته استطاع سلمان رشدي توظيف حكاية الأسرة وعلى مدى 5 أجيال لتكون عدسة نرى الهند من خلال انعكاساتها عليهم.
كُتبت الرواية على شكل ثلاث كتب، لتُجسد ثلاث مراحل تاريخية مهمة وفاصلة في تاريخ الهند، الكتاب الأول والذي يُغطى الحقبة الأطول والأعقد حيث يبدأ من عام 1915 أي فترة الانتداب البريطاني وحتى عام 1948 متضمنةً استقلال الهند وفترة حربها الأولى مع الباكستان، يتخللها حكايات جده آدم عزيز وجدته نسيم، مرورا بحكايات باقي أفراد الأسرة وحكاية أمه –ممتاز- مع زوجها الأول نادر خان وقبل أن يتحول اسمها إلى أمينة سيناء. خلال سرد التاريخ العائلي لا ينسى سلمان رشدي التطرق لواقع الهند والصراعات ما بين الهندوس والمسلمين والتركيز على الحدث الأهم وهو إعلان استقلال الهند وولادة سليم سيناء وبقية أطفال منتصف الليل، والذين سيمثلون أرضية فنتازية خصبة للرواية بسبب المعجزات أو لنقل الهبات التي منحوها لولادتهم في تلك الليلة الفارقة.
أما عن حكاية مولده والتي تشكل العقدة الأولى في الرواية ، فسليم سيناء الابن هو ليس ابنا حقيقيا لوالديه، سليم الذي يتعايش مع هوية غير هويته، يشبه مخاض أمة الهند بهويةٍ مزورة لا تشبهها هكذا ستبقى منفصمة تصارع حروبها وانقساماتها العديدة والتي تستمر حتى النهاية، فماري بيرييرا الممرضة المسيحية، تقرر أن تتلاعب بالقدر عبر تبديل المولودين شيفا وسليم، لتمنح كل واحدٍ منهما قدر الآخر، هنا تظهر لدينا الثيمة الأخرى للرواية والتي تستمتر حتى آخر صفحاتها وهي ثيمة القدر فهل هي جبرية حتمية أم أنها اختيارية متغيرة.
سليم سيناء يولد قبيحا بأنفٍ كبير، وجهه الذي يتكشف له مع الوقت أنه انعكاسا لخارطة بلاده الكبيرة، أستاذ الجغرافية الطبيعية الذي يقرأ في ملامحه خارطة الهند، ليشير إلى كل جزءٍ فيه راسما الخارطة على حدوده، ليقاطعه أحد التلاميذ فيسأله، أستاذ ماذا عن البقع، فيجيبهم أنها الباكستان ، تذكروا دائما أن الباكستان لطخةٌ في وجه الهند. لتتضح الثيمة الثالثة في الرواية وهي الصراع بين الهند والباكستان وإن صح التعبير صراع الأديان.
أما الكتاب الثاني الذي يبدأ في عام 1948 وينتهي عام 1966 ، ليتضمن حدثا عائليا جديدا ومهما وهو ولادة شقيقته القردة النحاسية والتي تتحول عبر مسار الرواية إلى جميلة المغنية، ليعكس مسارا جديدا في تاريخ الهند وتاريخ العائلة التي تهاجر إلى كراتشي في الباكستان، الكتاب الثاني والذي يحمل في طياته مأساة سليم سيناء واكتشافه لأطفال منتصف الليل وموهبته الخارقة في قراءة أحلام وأفكار الآخرين هكذا ليغلب عليها الطابع الفنتازي، خسارة سليم سيناء لموهبته في قراءة أفكار الآخرين ، ليكتشف سرّا آخر وهو حاسة الشم الرهيبة التي يتمتع بها والتي يستطيع من خلالها أن يشتم رائحة العواطف والأفكار والرغبات ليسلط سلمان رشدي من خلالها الضوء على طبقية الهند ومآسي الفقراء والصراعات الدينية، عدا عن أزمة الهند ومناوشاتها المستمرة مع الباكستان لتقع الحرب الثانية ما بينهما، والتي تنتهي بخسارة سليم لعائلته كلها عدا جميلة التي يفقد أثرها والتي تكون أيقونة للوطنية، جميلة التي يقع في عشقها لتشكل العقدة الثانية في الرواية، والحب الحرام والذي هو ليس حراما في أصله، لاسيما أن سليم ليس شقيقها الحقيقي، فخلال فصول الكتاب الثاني، تكشف ماري التي صارت مربيته عن سرها الكبير بل خطيئتها التي لا تُغتفر هي التي تلاعبت بقدر شخصين اثنين شيفا وسليم.
الكتاب الثالث والأخير يبدأ عام 1970 بتحول جذري في شخصية سليم سيناء هو الذي يفقد ذاكرته وعائلته على حدٍ سواء، ليصير بوذا حسب ما لقبه الآخرين، بوذا الذي يتمتع بحاسة شمٍ خرافية قادرة على تتبع الأثر، استطاعت أن تمنحه فرصةً ليخدم في الحرب ، ولكنه خدم مع الطرف الخطأ دون علمٍ منه، في هذا الفصل يلتقي بوذا – سليم- ب بارفاتي الساحرة ، إحدى أطفال منتصف الليل، هي التي تتعرف عليه، ليستعيد من خلالها ذاكرته تدريجيا، تحاول بارفاتي الساحرة أن تستدرجه إليها بكل حيل السحر والهبات التي تمتلكها غير أنه يبقى عاجزا عن حبها ومنحها ما تريد لاسيما حين يسيطر عليه شبح جميله أخته.
تتشكل في الفصل الثالث العقدة الأكبر من خلال علاقة بارفاتي الساحرة مع نده شيفا ، هي التي تستحضر شيفا إلى حي السحرة من خلال تعويذة سحريّة وطقس فانتازي، تحبل منه، وتتأزم العلاقة بينهما لتعود من جديد إلى سليم وفي أحشائها جنين من شيفا، هكذا لنعود إلى ثيمة القدر من جديد ما بين التلاعب والجبر. وكأن الحياة مسرحا هزليا بل وعبثيا جدا. فسليم سيكون أب لطفل ليس من صلبه لكنه الحفيد الحقيقي لوالده أحمد سيناء. يطلق على ابنه -الذي يولد في ليلةٍ تاريخية ومفصلية من تاريخ الهند وهي ليلة الخامس والعشرين من حزيران لعام 1975 في منتصف الليل- اسم آدم سيناء، ليكون استكمالا لتاريخ العائلة الذي ارتبط بالهند. يتخلل الفصل الثالث الكثير من الأزمات السياسية أهمها حالة الطوارئ التي يتم اطلاقها للمرة الاولى في الهند، فساد المجلس الوزاري متمثلا برئيسة الوزراء السيدة أنديرا غاندي والتي يطلق عليها لقب الأرملة واستطاع سلمان رشدي توظيف شخصها بسماتها الفيريائية كفرق شعرها الشهير ما بين الأسود والأبيض لتكون رمزية قوية لجانبين يتصارعان في داخلها جانب الشر والخير ولتحمل أيضا في طياتها عصرا جديدا في الهند لاسيما بعد الانقسام الذي شهدته البلاد.