بيرم التونسي: حكاية المنفى والجوع

*د. حسن مدن 

ولد بيرم التونسي في الإسكندرية، وفيها قضى طفولته وصباه وشبابه. ذاق اليتم مبكراً. والده توفي وهو في الثانية عشرة من عمره وأمه توفيت وهو في السابعة عشرة. كان أبوه وعمه يملكان مصنعاً لنسج الحرير في حي الميدان بالمدينة ورثاه عن جده الذي أتى الإسكندرية وهو عائد إلى تونس بعد أداء فريضة الحج، ويبدو أن المدينة أَسرته فقرَّر الاستقرار فيها.
نجح ورثة عمه في حمله على التخلي عن حصته في مصنع النسيج واستحوذوا عليه كاملا. كان على الفتى بيرم أن يتدبر أمور الحياة بعد ذلك، فافتتح محلا للبقالة راج رواجاً لا بأس به، وكان ورث عن والده بيتا ونصف بيت، كما يقول في مذكراته، تولى صهره تحصيل الإيجار عنهما ما مكَّن بيرم من الانصراف نحو تثقيف نفسه بالقراءة والاطلاع.
مع تقدم ثقافته أخذت تجارة المحل تضمحل، فاضطر لإغلاق البقالة، وحاول أن يحترف مهنة الصيد، مهنة أهل الحي الذي فيه يقيم، لكنه بعد أول طلعة للبحر في ليلة باردة ومظلمة وعاصفة أيقن انه لن يفلح كصياد أيضا، خاصة وأنه لم يكن يعرف السباحة.
لم يخلق الرجل ليكون عامل نسيج أو بقالاً أو صياداً أو أي شيء آخر. خُلق ليكون شاعراً، وشاعراً فقط. ساءت أحواله بعد ذلك، خاصة وأن سكان ما ورثه من عقارات بسيطة عن والده يماطلون في دفع الايجارات الهزيلة التي لا تغطي حتى العوائد التي يتقاضاها المجلس البلدي وكان الأجانب يومها هم أصحاب النفوذ والسطوة في المدينة، وكانت المبالغ التي تجري جبايتها من المؤجرين تنفق على تطوير أحيائهم الراقية.
من وحي ذلك، ألهمته قريحته بكتابة قصيدة: «المجلس البلدي»، وأرسلها إلى إحدى الصحف التي كانت تصدر في الإسكندرية يومها فنشرتها على صدر صفحتها الأولى.
من أبيات القصيدة التي ذاع صيتها فيما بعد: «قد أوقع القلبَ في الأشجانِ والكمدِ /‏هوى حبيبٍ يُسمّى المجلس البلدي/‏ ما شرّد النومَ عن جفني سوى/‏ طيف الخيال، خيال المجلس البلدي». حتى يقول: « كأنّ أمي أبلّ الله تربتها /‏ أوصت فقالت: أخوك المجلس البلدي/‏ يا بائع الفجل بالمليم واحدةً /‏ كم للعيال؟ وكم للمجلس البلدي؟»
لاحقاً طبع بيرم القصيدة في كتيب باعه بخمسة مليمات للنسخة، راج رواجاً عظيماً، حيث طبع منها مائة ألف نسخة. كانت تلك القصيدة إيذانا بولادة الشاعر العظيم الذي بتنا نعرف.
تلك القصيدة بالفصحى، ولكن بيرم عرف أكثر بأشعاره بالعامية المصرية، وكان أحمد شوقي يخشى على الفصحى من عامية بيرم التونسي، لأن حلاوة شعره العامي كانت تجعل الناس ينصرفون عن الشعر الفصيح.
وهذه شهادة بليغة من أمير الشعراء تدلل على عذوبة ما كتبهُ بيرم، ومنها قصيدته الجميلة: «ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين»، التي غناها صالح عبد الحي، لتصبح إحدى الأغاني الخالدة، شعراً ولحناً وأداء، في الذاكرة الموسيقية والغنائية العربية انتقاماً من مواقفه الوطنية المناهضة للاستعمار ولفساد القصر الملكي أمر الملك فؤاد بطرد بيرم التونسي من مصر وترحيله إلى فرنسا، التي مكث فيها عشرين عاماً من النفي والغربة ومكابدة الشوق إلى مصر. فيما بعد روى الشاعر وضعه البائس في باريس وهو يعاني من الفاقة وضغط الحاجة بعد أن ضاقت به السبل. فقد كان يدبر أحواله المعيشية في المنفى من خلال «شيك» أسبوعي يرسله إليه مدير الجريدة التي كان يشارك في تحريرها من منفاه، ولكنه، أي المدير، صار يتباطأ في إرسالك الشيك، فأخذ يرسله مرة كل أسبوعين، ثم مرة كل ثلاثة أسابيع دون أن يتغير المبلغ.
ضاقت بالشاعر الدنيا، فبالكاد أصبح المبلغ كافياً لتسديد أجرة الغرفة التي يقطنها في سطح منزل عتيق، هي نفسها التي كان يحبس نفسه فيها ليكتب المواد التي يرسلها إلى الجريدة، ومع الوقت لم يجد ما يسد به رمقه، وصار ينام ليال دون أن يذوق طعم اللقمة. «في مثل هذه الحال يشعر الإنسان أن النوم يغني عن الطعام بعض الغناء، فبقيت في الفراش أنظر من النافذة إلى السماء المكفهرة ولا أعرف إن كان الوقت ضحى أو مساء، وكلما سمعت وقع الأقدام على السلم حسبتها خطوات ساعي البريد جاء بالخطاب (المضمون)».
وحين يهبط الشاعر إلى الشارع، فيرى في المحلات منظر اللحوم والأجبان والخبز فيبدو له أجمل وأشهى من منظر المجوهرات والفراء والمنسوجات الفاخرة، ويصف كيف كان يجد نفسه واقفاً أمام واجهة الحلواني يتفرج على الفطائر المنقوشة في ذهول، قبل أن ينتبه ويحسب أن الناس تراه وتعلم حقيقة جوعه، فينصرف خجلاً.
إلا أن أبلغ ما رواه بيرم، من تجربته المريرة هذه، هو حال الجوع، الذي له، برأيه، ثلاثة أدوار. الدور الأول وفيه يشتهي الجائع كل شيء حتى الحشائش وأوراق الشجر، والدور الثاني وهو مغص والتواء في الأمعاء، والدور الثالث وهو الغيبوبة والأحلام والهذيان. وبعد جولة خائبة في الشارع يعود إلى غرفته ليخيل إليه أن البرد فيها أقسى منه في الشارع. وفي حالٍ عصبية يقلب «الكنبة» بحركة عنيفة كالمجنون فتلوح له بصلة تلمع قشرتها الذهبية تحت النور، «والبصل لذيذ إذا شوي على النار»، لكنه لا يملك لا الوقود ولا الثقاب. لكن كان عليه رغم ذلك أن يتصرف.
أعدَّ الوقود من المواد التالية: 1- قاموس عربي– فرنسي، 2- ديوان «أبي العتاهية»، 3- عدة خطابات من الأصدقاء والعائلة. ثم طرق باب صاحب المنزل سائلاً إياه عدداً من الثقاب، أطرق هذا لحظة ودخل ثم عاد ومعه عود واحد فقط من النوع الملبس بالفوسفور الذي يوقد بالحك على أي جسم صلب، ولكنه أبى أن يشتعل على جانب الموقد الحديدي والشاعر يحكه برفق وكياسة، حتى طارت رأسه كله دون أن يشتعل.
عاد بيرم إلى صاحب البيت فلما رآه يطلب عوداً آخر أغلق الباب في وجهه بعنف، لكن أحد الجيران الذي كان صاعداً على السلم لحظتها أنقذه فقدم له علبة كبريت كاملة. «ارتكزت البصلة العزيزة بين قصائد أبي العتاهية ورسائل سيد درويش والعقاد إليه وصعد اللهب يدفئ الحجرة وينيرها، إلى أن احترقت جميع الأوراق، بحث عن البصلة فوجدها قد سقطت من بدء اشتعال النار في أسفل الموقد دون أن تلامس النار سوى قشرتها، «ولكن الدفء وحده، يقول الشاعر، في بلد باردة يعد لقمة كبرى».
ونحن نعرف بيرم التونسي الشاعر وكاتب كلمات الأغاني الشهير التي خلد بعضها صوت أم كلثوم، وفي هذا السياق يجدر بنا الوقوف أمام دراسة أعدتها الباحثة فرجينيا دانيلسون، وأصدرها المركز القومي للترجمة في مصر في كتاب ترجمه عادل هلال عناني، لاحظتْ فيها أن بيرم التونسي الذي وصفته بالزجال والهجّاء السياسي الشهير كتب لأم كلثوم نصوصًا استخدم فيها عبارات التقطها من على ألسنة الطبقة العاملة المصرية ووضعها في تراكيب بارعة.
لاحظتْ الباحثة أن بيرم لو أراد تصوير امرأة تنتظر حبيبها، سيقول إنها وضعت يدها على خدها تعبيرًا عن الأسى، فيما لو عبر أحمد رامي عن الحال نفسها للمرأة فسيكتب ما معناه: أنها جلست وحدها في غرفتها تحدق في القمر على جري الشعر الرومانسي.
وفي كلمات أدق كان بيرم يستخدم الألفاظ القوية والمباشرة التي تستخدمها المرأة المصرية العاملة، وليس المرأة الأرستقراطية التي تعيش بمنأى عن الحياة العامة.
ثمة وجه آخر لبيرم التونسي هو وجه الكاتب الصحفي، ففي كتاب «الصحافة الفكاهية»، تحدث مؤلفه عبدالله أحمد عبدالله عن مجلة «الأمام» التي كان يملكها أحمد زكي أبو شادي الشاعر المعروف ورئيس مجلة «أبوللو» التي كان أمير الشعراء أحمد شوقي رئيس الشرف فيها، والمرجح أنها هي نفسها التي كان بيرم يرسل مقالاته إليها من غربته ومنفاه القاسي في باريس.
مؤلف الكتاب يشير إلى أن بيرم كان يحرر هذه المجلة كاملة، وهي الواقعة في اثنتي عشرة صفحة من القطع الطويل، من منفاه في باريس، وكانت روح بيرم مبثوثة فيها عبر الزجل والشعر الفكاهي، والمقامة الفكاهية، إلى جانب الخواطر الساخرة الناقدة.
سنعرف أيضاً من كتاب عبدالله أحمد عبدالله أن هذه لم تكن المجلة الوحيدة التي حررها بيرم من منفاه، فقد سبقتها مجلة «الشباب» التي كان يملكها عبدالعزيز الصدر، وعلى صفحات هذه المجلة بالذات نشرت أولى قصائد الشاعر أحمد رامي، قبل أن يذيع صيته، حين دأبت السيدة أم كلثوم على اختيار قصائده كي تغنيها.
ما إن عاد بيرم إلى مصر من منفاه وآنس شيئاً من الأمن والاستقرار، حتى أصدر مجلة فكاهية أخرى، لكن لم يصدر منها سوى عددين أو ثلاثة، حيث حالت ظروف الحرب العالمية يومها دون استمرارها.

____
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *