هيجل بأعين جزائرية

*مونيس بخضرة

بدأ اهتمام الباحثون الجزائريون بالفلسفة الغربية مع الحملات العلمية إلى الجامعات الأوربية خاصة الجامعات الفرنسية وبعضهم توجه إلى أمريكا منذ سبعينيات القرن الماضي. والتي خلالها تعرّفوا على مكونات الفلسفة الغربية باختلاف مدارسها وتوجهاتها. علما أن قبل هذه الفترة كل ما كنا نعرفه عنها يأتينا عبر قراءات مشرقية خاصة المصرية منها، أما ما تعلق بالفلسفة اليونانية فكانت عبر القراءات التراثية لفلاسفة الإسلام.

إن احتكاك الباحثون الجزائريون المباشر بالفكر الغربي في الجامعات والمنتديات واللقاءات الفكرية، شجعهم بشكل كبير على الاشتغال على مواضيع الفلسفة الغربية في شقيها الزمني الحديث والمعاصر، وعبرهم بدأت تتسرب قضايا الفلسفة الغربية وروادها إلى الجامعات الجزائرية وعلى الخصوص إلى أقسام الفلسفة الأقطاب( الجزائر العاصمة، وهران، قسنطينة) بحكم قدم ظهورها، والتي على إثرها بدأت تتجذّر توجهات فكرية جديدة بين الأساتذة والطلبة، من الماركسية، التأويلية، التداولية والبرغماتية والنقدية(…) وقد شهد هذا الانفتاح ذروته مع انفتاح السوق الجزائرية على الكتاب الغربي مع مطلع الألفية الجديدة، وصار الكتاب الغربي في متناول القارئ الجزائري، إضافة إلى انتشار حركة الترجمة للنصوص الغربية من وإلى اللغة العربية، والتي زادت بشكل كبير من اتساع دائرة المقروئية والاهتمام بمعرفة حيثيات الفكر الغربي عبر رسائل ماجستير والدكتوراه.

إقبال الباحثون الجزائريون على الفلسفة الغربية له عدة مبررات، ولعل أبرزها هو التقارب الجغرافي وتشابك الثقافة المتوسطية الجامعة لفكر الضفتين، الشمالية والجنوبية، حيث أصوله ضاربة في عمق قدم الفلسفة ذاتها مع الفلسفة اليونانية وما عرفته آنذاك من تأثير شديد على العقل المغاربي، مرورا بالمدرسة القورنائية ودور أفلاطون فيها والقديس أوغسطين ورحلاته المتبادلة بين روما ومدينة بونا(عنابة حاليا) ورحلات أدباء الإسبان إلى الجزائر العاصمة، وأخيرا تظهر في علاقة فوكو بتونس ودريدا بالعاصمة الجزائرية وزيارة ماركس إلى الجزائر وألبير كامي وفرانس فانون، وهي كلها حدثت في شكل تجاذبات معرفية ونفسية تعكس علاقة الفكر بالأرض.

أنتجت اهتمامات الباحث الجزائر المعاصر بالفلسفة الغربية والفكر بصفة عامة روادا لهم توجهاتهم الخاصة فيها، عرفوا بمواقفهم وكتاباتهم حول قضاياها، ونخص على سبيل الذكر لا الحصر: “قريبع النبهاني” و”عبد الله شريط” حول الماركسية والفكر الاشتراكي عموما، و”الربيع ميمون” حول الديكارتية و”محمود يعقوبي” في المنطق والفلسفة التداولية و”عبد الرحمان بوقاف” في الفكر النقدي و”عمر مهيبل” في الفلسفة المعاصرة وغيرهم، وهم أساتذة مدرسة الجزائر العاصمة. أما الذين أظهروا اهتمامهم بالفلسفة الغربية من الجيل الأول في مدرسة وهران فنجد كل من: “محمد مولف”ي في الفلسفة الماركسية العلمية و”حمانة بخاري” بحكم تكوينه في أمريكا. والملاحظ أن حضور الفكر الغربي في مدرسة قسنطينة ظهر متأخرا مقارنة بوهران والعاصمة وأيضا بالفكر الإسلامي والذي بدأ يعرف فيها مؤخرا حضورا لافتا مع بعض الباحثين على غرار محمد جديدي وجمال مفرج مثلا.

المتتبع لقصة حضور الفلسفة الغربية في الفكر الجزائري المعاصر، سيرى مدى قلة اهتمام الباحث الجزائري بالفلسفة الهيجلية وامتدادها في الفلسفة المعاصرة، رغم أهميتها وتعدد توجهاتها من فلسفة الدين إلى المنطق مرورا بالتاريخ والفن والسياسة والأخلاق وما تحتويه من أسئلة جريئة تخص الأنوار والرغبة والإرهاب والحرية(…)، وأيضا رغم التأثير الشديد الذي مارسته الهيجلية على الفلسفة الغربية المعاصرة سواء في فرنسا بفضل مساهمات بعض الهيجليين من أمثال “ألكسندر كوجيف” و”جان هيبوليت” و”فرانسوا شاتلي” و”جان فال” وبعض القراء” كجون لوك نونسي”، والمشهد نفسه حدث في إيطاليا مع “غرامشي” وفي ألمانيا مع تلاميذة هيجل وفي بريطانيا وأمريكا مع “جون ديوي”. وفي كل الأحوال نرجع عدم انفتاح الباحثين الجزائريين على الهيجلية بالشكل المطلوب مقارنة بالماركسية مثلا رغم تقاطعهما بسبب عامل اللغة وتأخر ترجمة الفلسفة الهيجلية إلى اللغة الفرنسية التي يعتمدها كثيرون منهم، وأيضا إلى تعقد وغموض نصوصها وها ما اتفق عليه المتخصصون فيها. ورغم هذه المطبات إلا أنها كانت تدرس في أقسام الفلسفة وتخصيص لها عناية فائقة من بعض الباحثين رغم قلتهم، ونذكر منهم “عبد الرحمان بوقاف” الذي ساهم في تقديم كثير من المحاضرات حولها في قسم الفلسفة بالعاصمة خاصة وأنه أحد المتخصصين في الفلسفة الألمانية وتحكمه في اللغة الأصلية إضافة إلى بعض المقالات، وفي الجامعة نفسها نجد بعض الإشارات للكاتب “عمر مهيبل” خاصة في كتابه من “النسق  إلى الذات” عندما تناول فيه جدلية السيد والعبد عند هيجل. أما في جامعة وهران، فنجد الباحثة”رياحي محمدي رشيدة” التي تعد إحدى الأسماء الجزائرية التي تخصصت في فلسفة هيجل، حينما استغرقت سنوات طويلة في دراسة فلسفته، وهي مسيرة توجها كتابها”هيجل والشرق” الصادر عن دار ابن نديم سنة 2012، وكثير من المقالات تناولت فيها فلسفته، وأيضا الكاتب”بن مزيان بن شرقي” من خلال اهتمامه بفلسفة الحضارة وفلسفة التاريخ الكوني، وهي جهود أثمرت ترجمته لكتاب”جون ليوك نونسي” بعنوان: “هيجل/قلق السلب” الصادر عن منشورات البرزخ سنة 2010 وفي قسنطينة ظهرت الهيجلية في ترجمة “محمد جديدي” حول الإستعاملات الأمريكية ل”هيجل” التي نشرها على موقع مؤمنون بلا حدود، إضافة إلى جهود “مونيس بخضرة” من جامعة تلمسان، التي ظهرت في مسيرته العلمية بداية برسالة المجستير “الديالكتيك وفكرة نهاية التاريخ عند هيجل” وفي الدكتوراه”فينومينولوجيا المعرفة المطلقة عند هيجل” وبكتابين، الأول بعنوان: تاريخ الوعي الصادر الدار العربية ناشرون سنة 2009 والثاني بعنوان: فينومينولوجيا المعرفة، دراسة في فلسفة الظاهر الهيجلية عن دار كتاب العلم الحديث بالأردن سنة2013 إضافة إلى عديد الدراسات المنشورة في مجلات علمية مختلفة.

إن جملة المحاولات التي شقها الباحثون الجزائريون لفلسفة هيجل، حتما ستفتح أفقا جديدا للحركة الفلسفية الجزائرية، هي جهود قام بها مجموعة من الباحثين الجزائريين والتي استطاعت أن تنشأ حيزا فكريا لهيجل في عمق الفكر الفلسفي الجزائري المعاصر، والتي لا زالت مستمرة على جبهات عديدة، ساعدت بشكل كبير على إقبال الطلبة والباحثين على البحث فيها والاستثمار في مقومات الفعل الفلسفي الهيجلي بما يخدم أسئلة المجتمع الجزائري المعروفة بقلقها وتشعبها، وسط حراك الثقافي بدأت ملامحه تبشر بغد أفضل.
___
*إيلاف

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *