باتت وظيفة الفلسفة في عصرنا أقلَّ شأناً عما كانت عليه في عصور سابقة. فالناس مشغولون بالصعوبات الحياتية اليومية، والعولمة الاقتصادية فرضت أساساً نسقاً تفكيرياً مُعيناً من خلال الأدوات والمستحدثات التكنولوجية، ما أفضى إلى غياب التنوع الفكري الذي يُعّدُ حاضنة للأسئلة الفلسفية. من هنا تأتي مشروعية السؤال عن دور الفلسفة في العالم اليوم ونحنُ نعرفُ مُحددات التفكير لدى الإنسان المُعاصر. هل يمكن توسل الفلسفة لتخفيف حدة القلق والاحتقانات النفسية؟ هل تكون الفلسفة آلية لفهم أو احتواء المتناقضات التي يشعر بها الفرد؟ هل يمكن الفلسفة أن تُعزي الإنسان في واقع لا عزاء فيه؟
هنا، بعيداً عن إشكالية التعريف والالتواءات المفاهيمية يحاولُ آلان دوبوتون، الكاتب السويسري المقيم في بريطانيا، عبر كتابه «عزاءات الفلسفة» (دار التنوير، ترجمة يزن الحاج) أن يضع الفلسفة في صلب حياتنا اليومية انطلاقاً من ستة محاور، مستخدماً الإرث الفلسفي لستة فلاسفة عاشوا في عصور مُختلفة بهدف مقاربة الهموم البَشَريَة.
اجتنب المؤلف مسألة تعريف الفلسفة كأنّه تَمَثلَ لنصحية جيم هانكنسون الذي يرى أن «الفلسفة شيء يجب أن تحاولَ دائماً تجنّب شرحه» لما يحملهُ من الاختلافات بين المدراس والنظريات. ولكن، ما يجمعُ بين هؤلاء الفلاسفة الذين نلتقيهم في كتاب دوبوتون هو فرادتهم في النظرة إلى الحياة بمسرّاتها وآلامها.
ينطلق المؤلف بالحديث عن فيلسوف أثينا سُقراط الذي وقف ضد الآراء السائدة، فأراد أن يبرهن على أن معيار صحة الأفكار ليس إجماع الغالبية عليها إنما مطابقتها قواعد المنطق، ومن ثمّ يذكر محاولات سقراط بهدف تصحيح بعض المفاهيم من خلال محاوراته ومساءلته للأثينيين فهو كما يقول المؤلف كان قريباً من أهالي أثينا في كل شرائحهم ومكوناتهم الاجتماعية. ومع أن سقراط كان يمطرهم بالأسئلة، غير أن هذا السلوك لم يُزعجهم، فلم يمتعض الأثينيون بل تحمسوا لها. ثم ينتقل آلان دوبوتون إلى محاكمة سُقراط وهيئة المحلفين وهم قد تأثروا بصورة سقراط الكاريكاتورية التي رسمها أرستوفانيس.
يُشيرُ الكاتبُ إلى أن أفراد هذه الهيئة كانوا أشخاصاً فاسدين لذلك لم يتنصلْ سُقراط عن مبادئه، بل تقبل الحُكم بجرأة ويقول صاحب الكتاب أنَّ سقراط لا يُعَلِمُك كيف تتملص من حُكم الإعدام بل هو مثال مُتطرف عن كيفية الاحتفاظ بالثقة في موقف فكري يواجه مُعارضةً لا منطقية.
اتُهم سُقراط بأنه يفسد عقلية شباب أثينا، لكن كل ما قام به سُقراط هو طرح الأسئلة حول سُلطة المفاهيم السائدة كما وجد للفلسفة فضاء جديداً غير أروقة المختصين والدارسين، إذ صارت الفلسفة جزءاً من اهتمامات الناس في الأسواق والأماكن العامة. لقد عاش زاهداً عن بهرجة الحياة مُتقشفاً وكانت شجاعته في مواجهة الموت ملهمة للرسامين والفنانين.
يضمُ الكتابُ في فصله الثاني آراء ورؤية فيلسوف اللذة أبيقور، فهو يحدد وظيفة الفلسفة في تخليص الإنسان من معاناة العقل. الفلاسفة برأي أبيقور هم أطباء الروح، يُفسرون أسباب اليأس والإحباط لدى الإنسان كما تنقذنا الفلسفة من نماذج السعادة الخاطئة. ويرى أبيقور أن «اللذة هي المنطق وغاية الحياة السعيدة»، إذ ينفي وجود طريقة أُخرى غير اللذة لإدراك الخير. إضافة إلى ذلك، فإنَّ مفهوم الصداقة يعد من المكونات الأساسية في فلسفة أبيقور.
ألّف أبيقور 300 كتاب في شتى المجالات. وما يهدفُ إليه أبيقور قد لا يختلفُ عن منهج سقراط لأنَّ صاحب فلسفة اللذة أراد إلحاف الفلسفة بطابع عملي وتحويلها أداة لمعالجة القلق والخوف وفهم ما يجبُ على المرء تَبَنيَّه أسلوباً للحياة.
لا تنحصرُ اختيارات المؤلف في الفلسفة اليونانية الكلاسيكية بل ينصرفُ في قسم آخر من كتابه إلى الفيلسوف الروماني سينيكا، الذي راح ضحية نزوات نيرون دون وجود دليل يدين سينيكا، عدا أنه عَمِل لمدة خمس سنوات معلماً للإمبراطور. لكنّ الفيلسوف واجه القرار الذي نص على أن ينتحر بالهدوء، وما انفك يواسي زوجته باولينا قبل تنفيذ الأمر الإبراطوري. عانى سينيكا كثيراً في حياته فُنفي إلى جزيرة كورسيكا وخاب أمله في حقل السياسة. عالج المشاكل الناجمة عن الأفكار الخاطئة، وهو يعتقدُ بأن الغضب ليس نتيجة لجموح في المشاعر بقدر ما هو نتاج لما استقر في عقليتنا من التصورات غير السوية.
قبل الوصول إلى فلاسفة الحداثة يَمرُ مروراً غير عابر على آراء المفكر الفرنسي مونتينه. يبدو الإنسان كائناً تدركه حالات العجز على كل المستويات، إذ تثقف مونتينه بفلسفة من سبقوه واطلع على ما دُوَن عن سُقراط كما قرأ ما قدمه أبيقور حول السعادة وراق له سينيكا. اعترض على آرآء شيشرون في شأن فوائد النشاطات الفكرية، لأنه يعتقدُ أن الإنسان (لا سيما من يَشْتَغِل في مجالات الفكر) قد يكون أقل سعادة من غيره، والكائنات الأخرى تعيش حياة أكثر انتظاماً من الكائن البشري الذي يتعرض للمُعاناة.
الأكثر من ذلك ينتقدُ مقاييس الذكاء وأساليب التعليم وتلُقين التلاميذ في المدارس، وهو يسخر ممن يتخذ التعقيد في الأُسلوب معياراً للتعمق الفكري، بل يرى أن ما يُقْرأُ بسهولة نادراً ما يكونُ كُتِبَ بسهولة. يُنبهنا أيضاً إلى أن الأفكار المهمة متوافرة في كل حياة. وعلى الرغم من تواضع قصصنا، يمكننا توليد أفكار عظيمة.
يختار الكاتب آرثر شوبنهاور وفريدرك نتيشة نموذجين للفلسفة الحديثة، ويورد في بداية القسم المخصص لشوبنهاور جملة لصاحب «العالم إرادةً وتَمثُلاً» تنمُ عن تشاؤم كبير بالحياة، ومنْ ثم يتناول جانباً من الظروف والبيئة التي نشأ فيها الفيلسوف. كان شوبنهور معاصراً لهيغل، ودرس الاثنان في الجامعة نفسها، غير أن شوبنهاور في ذاك الوقت لم يبلغ مستوى صاحب فلسفة «المُطلق» في الشهرة. ولما التقى شوبنهاور غوته أكد له ضرورة إعطاء القيمة للحياة. عاش شوبنهاور حياة مترفة غير أنه ما فتئ يمقتُ الحياة، فهو يعتقد بأن «ليس للحياة قيمة جوهرية أصيلة لكنها تستمر بفعل الرغبة والوهم». يعتقد شوبنهاور أن الجانب الذي يتفوق فيه الإنسان على الحيوان هو أن الإنسان يرتاد المسارح ويستمع إلى الموسيقى ويتذوق الشعر ويحب ويستطيعُ تحويل الألم من خلال الفن والفلسفة إلى معرفة.
يَخْتمُ آلان دبوتون كتابه بتناول فلسفة نتيشه الذي عرف نفسه بأنّه «ديناميت». قد يكون هذا الجزء من الكتاب أكثر تشويقاً من غيره، بحيث يقدم فيه الكاتبُ – بأسلوب سلس – معلومات وفيرة عن حياة صاحب «أفول الأصنام»، ويعرض مراحل حياته، عندما كان شاباً ووقع تحت تأثير شوبنهاور وبات يلخص فلسفته في الرسائل التي يبعث بها إلى أُخته وأُمه. لكنّ سرعان ما خرج من هذا الطور بفعل أيام قضاها في إيطاليا في ضيافة مالفيدا فون مايزنبوغ. كان نيتشة في تلك الأيام يضحكُ بصوت عال وبسعادة عميقة، ويلتفت إلى اهتمامات نيتشه بالموسيقى والفن التشكيلي وشعوره بالاغتراب، إذ يصف نفسه بأنه قُدر عليه أن يعيش كناسك قلما يجد من يتبادل معه الحديث. ولا يتجاهلُ المؤلف تجارب عاطفية لدى نيتشة، الذي يَعْترفُ بأنَّ العلاج الوحيد للمرض الذكوري في ما يخص ازدراء الذات هو أن تُحبه امرأة ذكية. لا يمكنك قراءة ما هو معروض عن نيتشه من دون أن تشعر بالرغبة في مراجعة إرث هذا الفيلسوف. لم يكن اختيار المؤلف هذه الكوكبة من الفلاسفة عبثاً، بل هم حلقات مترابطة في سلسلة تطور المفهوم الفلسفي.
_______