أسئلة كثيرة متعلقة بالجرائم النازية في ألمانيا ظلت مهيمنة على الأجيال المتعاقبة خاصة جيل ما بعد الحرب، وقد استطاع الروائي الألماني برنارد شلينك، وهو قاض وأستاذ قانون أيضا أن ينقل هذه الأجواء إلى روايته “القارئ”. وصدرت الرواية أول مرة بالألمانية عام 1995 ثم أعقبتها نسخة بالإنكليزية عام 1997، فحققت رواجا كبيرا داخل ألمانيا وخارجها، كما أفضت إلى إنتاج فيلم سينمائي مشترك بين ألمانيا وأميركيا عام 2007، قامت بدور البطولة فيه الفنانة البريطانية كيت وينسليت التي حصلت بسببه على جائزة أوسكار لأفضل ممثلة للعام 2009.
العشق المحرم
رواية “القارئ”، التي صدرت ترجمتها العربية في العام 2016 عن دار روافد المصرية، ترجمة تامر فتحي تدور في ثلاثة أجزاء، الجزء الأوّل منها يحكي عن علاقة الفتى مايك برج وهو في الـ15 من عمره بهانا قاطعة التذاكر في شركة المترو وكيفية نشوب علاقة بينهما منذ لحظة مساعدة هانا للفتى بعد تعرُّضه لوعكة صحيِّة بعد عودته من المدرسة.
ويرصد الراوي (مايك) في هذا الجزء مشاعره نحو هانا التي صار متعلَّقا بها، وراح يختلق الأكاذيب ليتخلَّف عن موعد الغداء الثابت ليحظى بلحظة الامتلاك التي يحقّقها لهانا، ثم بعد فترة استطاع أن يكتشف هذه اللحظة ويمتلكها، ومنذ تلك اللحظة يتوحدان سويا في الاكتشاف وهي لحظة النشوة والجسد، لتتواصل العلاقة النابعة من حاجة كل منهما للآخر. فقد كانت لمايك وسيلته للتحرُّر من روتين العائلة، أما هو فكان بالنسبة إلى هانا النافذة التي أطلَّت منها على روائع الأدب التي كان يقرأها لها، فكان البديل لها عن حرمان لذَّة القراءة والكتابة، ومن ثمَّ أخذت العلاقة بينهما شكلا تبادليّا يقرأ لها أولا ثم يُمارسان الحبّ ثانيا، وفجأة حدث الانفصال باختفاء هانا من حياته ويفشل في العثور عليها أو لا يعرف إلى أين ذهبت؟
ينصرف الراوي عن هانا التي فقدها وإن كان طيفها يلازمه، بعد آخر لقاء رآها فيه عندما جاءت إلى حمام السباحة الذي يشارك فيه أصدقاءه لهوهم، بملابس غريبة، حيث كانت مرتدية جوربا قصيرا وقميصا مربوطا عند أطرافه. ظلَّت هذه الصورة التي ارتسمت في مخيلته محفورة مع الصُّور الأخرى التي احتفظ بها منذ أن رآها وهي ترتدي الجورب، ولحظة الحمَّام والنوم بجواره، والاستماع له عندما يقرأ لها من الأوديسة وكتب الأدب. وفي لحظة غيابها قطع الفتى مايكل شوطا في دراسته، والتقى بفتيات لكن كانت هانا وصورها السبب في فشل أي علاقة جديدة.
وفي الجامعة تبدأ نقلة جديدة في الأحداث، حيث أستاذه يعمل سيمينارا عمليا لأحد دروسه عن طريق تكليف طلابه بحضور جلسات محاكمات مجموعة من النساء في منتصف العمر كن يخدمن في حراسات قوات الأمن الخاصة بمعسكر أوشفيتز (الذي كان بمثابة معسكر إبادة لليهود الألمان)، وأثناء حضوره لهذه المحاكمات، يلتقي بهانا من جديد، ولكنها كانت إحدى الحارسات المتهمات بقتل السجينات في المعسكر، لكن هذه المرة تختلط مشاعر الحب القديمة بمشاعر جديدة مختلطة بعقدة الذنب الألماني تجاه قضية الإبادة.
موعد مع الماضي
يستحوذ الجزء الثاني من الرواية على المحاكمات والمناقشات حول المذنبات، كما يسرد الراوي شاهدتين للناجيتين من المعسكر، فيقدِّم الرَّاوي بعين الشّاهد العيان أجواء المحاكمة وتحفُّز القاضي الذي يمثِّل جزءا من المجتمع الألماني الذي كان يدين ما حدث، فيصف مشاعره المتحفّزة، وكذلك حالة العنف التي رأى الناس عليها أثناء رحلته إلى المعتقل، وأيضا محاولة إحدى الحارسات إلصاق التهمة بهانا، خاصة بعد سؤال القاضي لهنّ، لماذا لم تفتحنّ الأبواب؟ وجوابهن: بأنهنّ كنّ مشغولات بعد القصف بالمجروحين مِن أفراد القوات، لكن السجل الذي عُثر عليه في أرشيف “فافن إس إس” قال عكس ما ذكرن، فالسّجل أشار إلى أن السّجينات تخلفنّ لانتظار نهاية الحريق، لمنع أي منهن من الانتشار ولمنع أي محاولة للهرب تحت غطاء لهيب النار، لكن الشيء الغريب أنه أشار إلى موت السجينات.
وكان في أجواء المحاكمة الكثير من الترقُّب والتحفز لإسقاط الخصم، ونجح الراوي، رغم حالة الانحياز التي أبداها لهانا شميتز، في نقل صورة واقعية لهذه المحاكمة وهو ما يكشف عن حالة الجدل التي حظيت بها محاكمات معسكر أوشفيتز، فالسرد يزاوج بين الغنائية عبر تأملات في طبيعة العلاقة بين الراوي وهانا، والحوار الذي غلب على فترة المحاكمة. وجاء اعتراف هانا بكتابة التقرير بمثابة الثغرة التي نفضت الغزل، فهي لم تعرف الكتابة والقراءة، لذا كانت تحتاج دائما لمن يقرأ ويكتب لها.
ولم يكن اعترافها بجريمة لم ترتكبها هو الشيء الوحيد الذي أرادت من خلاله ألا ينكشف سرِّها، بل أبعدت مايكل عنها حتى لا ينفضح أمرها، وبالمثل رفضت الترقية في مصنع سيمنز وحصلت على وظيفة حارسة وأيضا رفضت التدريب لتكون سائقة قطار كما أخبر مديرها في العمل، لأن وجودها كقاطعة تذاكر لا يكشف أمرها.
الجزء الثالث والأخير جاء بعد انتهاء المحاكمة والحكم على هانا بالسجن مدى الحياة وعلى الأخريات بأحكام متفاوتة، وإنهاء الراوي للفترة الجامعية وزواجه من زميلته بالجامعة جيرترود، ثم انفصاله عنها وابنتهما جوليا في الخامسة من عمرها، لكن الأهم هو الشروع في مساعدة هانا بإرسال الشرائط لها، والتي استفادت منها عبر التعلُّم. لكن الغريب أن هذا الجزء يكشف عن المشاعر المتضاربة التي كان يحملها مايكل لهانا، فلم يحاول زيارتها أو إرسال رسالة لها بعدما أخبرته أنها تعلّمت القراءة والكتابة. وكان مايكل يؤدّي دور الواجب كمثقف في عملية محو أميتها، إلا أنه لم يستطع أن ينسى الجريمة التي اقترفتها، وهو ما كان حائلا بينهما، وعندما شعرت هانا بذلك فضَّلت الانتحار، خاصّة بعد زيارته الوحيدة لها بعد دخولها المعتقل.
وتطرّقت الرّواية إلى مفهوم العدالة وكيفية تحقيقها مهما طال الزمن، إلا أنّه في الحقيقة فإن الرواية أدانت مُنفذ الأوامر دون أنْ تدين الجلاد الذي أعطى هذه الأوامر، وقد تقاطع مع الخط السياسي والرومانسي خط اجتماعي، حيث تتطرق الرواية إلى العلاقات الأسرية، وخاصة أسرة مايكل ووالده الفيلسوف الذي ألّف عن كانط ونيتشه والبرودة في التعامل مع أبنائه، وهو ما انعكس على الفجوة التي خلقها في شخصية مايكل الذي انسحب من البيت إلى هانا. لكن أهم ما تطرحه الرواية هو الإرادة، وهي تلك التي حوّلت هانا مِن أمية إلى متعلِّمة. وكذلك المصالحة وقد تجلّى هذا في نهاية الرواية، حيث يعترف الراوي بالسبب الذي كان وراء كتابته للرواية، ويتساءل عن دوافع تلك الكتابة، وعن دوره في حياة هانا هل كان سببا في ما حدث لها؟ هل أحبها فعلا؟ وفكرة التطهّر التي عبّرت عنها الرواية وإن كانت بعيدة عن فعل التراجيديات؟
حاولت الرواية أن تتعاطف مع الحالة اليهودية، لكن جاءت مشاهد الفتاة الناجية لتكشف عن عنصرية مقيتة تكنها الفتاة رافضة التصالح، وأيضا حالة من الاستعلاء في رفض منح هانا صك الغفران والتباهي بالشخصية اليهودية وعدم وجود أمية كما أظهرت.