*رشا عدلي
دائماً كانت لغة العلم ولغة الأدب على طرفي نقيضٍ، ففي الوقت الذي نستطيع فيه ترجمة الحقائق العلميَّة من لغةٍ إلى أخرى دون إضافة شيءٍ أو نقصانه، ﻻ نستطيع أن نترجم عملاً فنيّاً أو نصّاً أدبيّاً من لغته الأصلية إلى لغةٍ أخرى دون أن يفقد الكثير من الطابع الخاصِّ به، مهما حرص المترجم على توخِّي الحذر والدقَّة. والتناقض بين العلم والفن لا يعني المفهوم الخاصَّ لكلٍّ منهما، ولا الفرق بين المحتوى، ولكنه يأتي أصلاً من منبع كلٍّ منهما، فالعلم هو لغة العقل، والفنُّ هو لغة الحدس الذي تلعب الرؤى الذاتيَّة الدور الأوَّل فيه، ومن خلال هذا التناقض البيِّن يأتي التحليل النفسيُّ للأدب والفن.
والتحليل النفسيُّ للأدب ﻻ يقوم على العمل الأدبيِّ، لأن هذه العملية قد خرجت تماماً من نطاق التحليل النفسي باعتراف فرويد، عندما قال: (التحليل النفسيُّ ﻻ يملك أن يكشف عن طبيعة الموهبة الفنيَّة، وﻻ يستطيع أن يبيِّن الوسيلة التي يستخدمها الفنَّان، أما العمليَّة النفسيَّة فهي تُعنى بدراسة شخصيَّة الفنان/الأديب، من خلال إنتاجه بشكلٍ كليٍّ)، ويقول فرويد عن الفنِّ والفنَّانين، ليصل الفنَّ بالتحليل النفسيِّ: (إن هناك طريقاً يعود بالمرء من مملكة الخيال إلى دنيا الواقع، فالفنان هو الآخر شخصٌ ذو استعداد منطوٍ، وليس بينه وبين العصاب شقَّةً بعيدةً، وهو شخصٌ تحفِّزه نزعاتٌ عنيفةٌ، فهو يصبو إلى التكريم والشهرة ومحبة النساء، لكن تُعوِزه الوسائل إلى تلك الغايات، لذا فهو يعزف عن الواقع، شأنه في ذلك شأن كلِّ فردٍ لم يستطع أن يحقِّق رغباته، ويلجأ للخيال لتحقيق هذه الرغبات، وكلُّ الناس تلجأ إلى الخيال، ولكن الفنانين لهم قدرةٌ خاصَّةٌ في تفريغ هذه الأحلام لعمليَّةٍ إبداعيَّةٍ، فيجعل من خياله صورةً تعبِّر عنها أفكاره، ويصبغ على هذه الأفكار أشكالاً مختلفةً من الإمتاع، لتصفي الخيالات والرغبات من الكبت، ويقدِّم عمله للجمهور، فيحظى بمحبَّته واحترامه، وبذلك يكون قد حقَّق مأربه من رغباته المكبوتة، ويكون قد ظفر عن طريق خياله بما لم يوجد من قبل إلا في خياله، التكريم والقوة ومحبة النساء).
وبما أن العمل الفنيَّ مظهرٌ من مظاهر السلوك، فيمكن محاولة تفسيره بمفاهيم التحليل النفسيِّ، ومحاولة ربط شخصيَّة الفنَّان بأثره الفنيِّ، من خلال الطريقة الرمزيَّة التي يعبِّر بها في عمله، لا سيما عن بعض دوافع السلوك الشعوريَّة وغير الشعوريَّة، فالعلاقة المزدوجة بين الأديب وعمله ذات اتجاهين. إذاً يمكن من تحليل العمل وتفسيره إلقاء الضوء على بعض اتجاهات الأديب وصراعاته النفسية.
ويرى فرويد أن المبدأ الأساسيَّ في عمليَّة التحليل النفسيِّ للعمل الأدبيِّ هي حتميَّة السلوك، أي أن أفكار أيِّ شخصٍ وعواطفه وتصرفاته وأفعاله في لحظةٍ ما، تتوقَّف تماماً على تطوُّر دوافعه الشخصيَّة وتشكيلها، خلال الخبرات التي سبق أن عانى منها، كما أنها تتوقَّف على كيفيَّة إدراكه الموقف، وهذا المبدأ الأساسيُّ يؤدِّي إلى تأكيد الدور المهمِّ الذي تقوم به الطفولة في مراحلها الأولى. وتنقسم لنوعين أساسيَّين في تكوين الشخصية: فمن جهةٍ هناك النزعات الغريزيَّة، وأهمها العدوانيَّة والجنسيَّة، ومن جهةٍ أخرى طبيعة الموقف السيكولوجي والإنساني.
وعلاقة التحليل النفسيِّ بالأدب علاقة وثيقة وقديمة جدّاً، إذ أننا نجد أن فرويد تعلَّم من دوستوفسكي وسوفليكس، وقد أشار أكثر من مرة إلى أن الأدباء هم أساتذته، فهم الذين أدركوا بحسِّهم الأدبيِّ وبصيرتهم الفنيَّة، ما توصَّل إليه في منهجه العلميِّ.
ويؤكد فرويد على أن الإبداع هو تحقيق الجوانب اللاشعورية في حياة الفنان، فينتج لنا أعمالاً تستثير انفعالاتنا، وهي بالنسبة لنا ﻻ تتخطَّى واقع الوهم والخيال، ولا تعدو عمليَّة تطهيرٍ كالتي تحدَّث عنها أرسطو قديماً. وكان ليوناردو دافنشي هو أكبر مثالٍ على تأييد نظرية فرويد بين الفنِّ والكبت الجنسيِّ، إذ ارتبط ليوناردو ارتباطاً زائداً بأمِّه، فشل معه في إقامة علاقةٍ طبيعيَّةٍ مع الجنس الآخر، وظهرت عنده ميولٌ شاذَّةٌ تجاه الجنس الآخر، وهذه الاتجاهات تجلَّت بوضوحٍ في لوحاته، كابتسامات بطلاته العذريَّة، ومن أشهرها ابتسامة الموناليزا، وكذلك مزجه الملامح الذكوريَّة بالأنثويَّة، كما ظهر في لوحته يوحنَّا المعمدان. ومعنى ذلك أن الفنَّ بالنسبة لليوناردو لم يكن سوى تسامٍ مع غرائزه الجنسيَّة. والفنانة التشكيلية الأمريكية ماري كاسات التي سافرت لفرنسا لدراسة الفن والعمل به في أواخر القرن التاسع عاشر، وهي واحدة من الفنانات الشهيرات في عالم الفن؛ عوضت حرمانها من الأمومة برسم لوحات لأطفال رضع تحملهم أمهاتهم، حتى توقف إنتاجها على هذا الشكل فقط. وكل من الهولندي رامبرانت والإنجليزي جون أتكينسون، عانيا نفس المعاناة بموت أولادهما في سن صغير، فجاءت لوحاتهما معتمة، وتنبعث منها كآبة وسوداوية. وفي مجال الأدب لم تكن الرواية الشهيرة (آنا كارنينا) للروائي الروسي ليو تولستوي سوى تفريغ عن مخاوف مكبوتة للعلاقة التي تربطه بزوجته التي تصغره بالكثير من السنوات، وتتمتع بالشباب والجمال. وكذلك أفصحت روايات كثيرة للروائية الإنجليزية فرجينا وولف عن ما يدور من صراع نفسي داخلي أنهته بإنهاء حياتها وانتحارها غرقاً. وفي روايتها الفنار عبرت هذه الكاتبة عن المشاكل التي صادفتها في طفولتها، وفي روايتها الشهيرة السيدة دالواي كانت بطلة العمل هي شخصية أم الروائية. وفي أعمال الأديب الأمريكي إرنست همينجوي وجدنا جو العزلة والانطوائية، وقد طغى بشكل كبير في أعماله الأخيرة، عندما ساءت حالته النفسية وأدت به للانتحار.
وفي كتابه (التحليل النفسيُّ للفرد)، طبَّق أستاذ وعالم النفس السويسريِّ جان باجييه نظريَّة فرويد، وأوضح أن الإبداع الفنيَّ مثله مثل الأخطاء اللاشعوريَّة، ومثل الأحلام والجنون، وهو انفجارٌ ﻻ شعوريٌّ يحدث في الحياة الطبيعيَّة للمرء، عن تلك التي لم يستطع الرقيب كبتها. والدليل على ذلك، أن ميول الفنان العميقة، وطاقته الجنسيَّة المكبوتة؛ ﻻ بد أن تسبق العمل الفنيَّ، وسرعان ما تظهر فيه وتزهر وتزدهر معه. وهكذا تجلَّت عقدة أوديب في حيرة هاملت قاتل أبويه، الذي أسكرته الغيرة والمحبة العميقة.
وأوضح عالم النفس الدانماركيُّ إريك أريكسون، في كتابه (الفن وآثاره)، أن التعبير الفنيَّ هو مخزونٌ لم يتِح العالم الخارجيُّ المحيط للفنان بأن يخرجه، فالألم والحرمان في نظر أريكسون ينشِّطان العملية الإبداعيَّة، ويذكيان الخيال، وتقلُّ القيمة الإبداعيَّة للفنان كلما عاش في يسرٍ ورغدٍ ورخاءٍ، فالإبداع الفنيُّ يعوِّض الفنان عما حرمته منه الحياة، فالفنُّ يحلُّ محلَّ ما حُرِم منه في الواقع. والحبُّ العذريُّ في رأي أريكسون، هو الذي يغذّي العمليَّة الإبداعيَّة. وفي رأي المحلِّل النفسيِّ الشهير، أن الفنان عندما يخضع لجلسات علاجٍ نفسيٍّ، ويشفى من مكبوت رغباته وأمراضه النفسيَّة؛ تقلُّ قيمة إنتاجه الإبداعيَّة، وفي بعض الحالات يترك الفنان العمليَّة الإبداعيَّة كلَّها. ففي رأيه أن السعادة والسلام الداخليَّ ﻻ يتَّفقان مع العمليَّة الإبداعيَّة، وإن كان هناك الكثير من الأشخاص يعانون من الحرمان وﻻ يعوضون ذلك بالإبداع، فهذا لأنه في المقام الأول ﻻ بدَّ من وجود موهبةٍ فنيَّةٍ.
ويرى كارل يونج العالم السويسري ومؤسِّس علم النفس التحليليِّ، أن العمل الفنيَّ نتاجٌ يصدر عن ضروبٍ عديدةٍ معقَّدةٍ من النشاط النفسيِّ. وعلى الرغم من أنه بوسعنا أن نستخرج من عمل الفنان بعض الدﻻئل، نستطيع بها أن نحلِّل شخصية الفنان؛ إلا أن هذه الأمور غير مؤكَّدة، وﻻ تعدو كونها مجرَّد فرضٍ، لذلك فلن يستطيع المحلِّل النفسيُّ أن يفسِّر الإبداع الفنيَّ تفسيراً علميّاً، كما تُفسَّر المظاهر السلوكيَّة، ولن ترقى البحوث النفسيَّة إلى فهم جوهر الفنِّ بوصفه نشاطاً نوعيّاً خاصّاً.
وعلى الرغم من اختلاف الآراء واتحادها في بعض النظريَّات، إلا أن علماء النفس أجمعوا على أنه يجب على العمل الإبداعيِّ أن يسمو بنفسه فوق حياة الفنان الشخصيَّة، لأنه رسالة تنبع من قلب وروح الفنان، وتتَّجه نحو قلب الإنسانيَّة وروحها. فالفنان في نظر علماء النفس ليس مخلوقاً عاديّاً، فهو يبدع أعماله عن قصدٍ وتفكيرٍ ورويَّةٍ، وتتحكَّم به أداةٌ لاشعوريَّةٌ عليا، هي اللاشعور الجمعيُّ، ولذلك فإن عمل الفنان ﻻ بدَّ أن يشبِع الحاجة الروحية للمجتمع الذي يعيش في كنفه، ويصبح بمقدوره أن يوظف آﻻمه ومعاناته في نتاجٍ إبداعيٍّ جيِّدٍ يقدِّمه للبشريَّة ويخلد فيها.
_______
*المجلة العربية.
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
خرافة الأدب الأوربي* د. مجدي يوسفمن المعلوم للكافة أن فكرة الأدب الأوربي قد صارت تتمتع بقبول واسع…