خرافة الأدب الأوربي



* د. مجدي يوسف

من المعلوم للكافة أن فكرة الأدب الأوربي قد صارت تتمتع بقبول واسع النطاق في الأوساط الأكاديمية الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ذلك أنها صارت تشكل بديلا للصراعات التقليدية التي طالما احتدمت بين الآداب القومية في الغرب بما يحمله كل منها من تعارض لصور الذات بإزاء بعضها البعض، وخلاف حول التأريخ للحقب الأدبية لكل من الآداب الغربية الخ (من الأمثلة على ذلك الخلاف التقليدي بين مؤرخي الأدبين الفرنسي والألماني، فما يدعوه هؤلاء أدبا رومانسيا يصر أولئك على اعتباره كلاسيكيا، وهكذا دواليك).

من هنا فقد استقبل بحماس في أعقاب الحرب العالمية الثانية في الغرب كل من كتاب “المحاكاة” لـ إريخ آورباخ (1946)، و”الأدب الأوربي والعصور الوسطى اللاتينية” لـ إرنست روبرت كورتيوس (1948)، و”نظرية الأدب” لـ رينيه فيلك، بالاشتراك مع أوستن وارن (1949). فكل من هذه الأعمال الثلاثة يدعو بحماس لما يدعوه “أدبا أوربيا” بالمفرد!
ومن ثم فلا عجب إن اعتبرت هذه الكتب الثلاثة، بما في ذلك مؤلفيها، دعوة لفكرة وحدة غربية في مجال الأدب. ولعل مرجع ذلك أن الأدب يلعب دورا لا يستهان به في تشكيل اتجاهات الشعوب بإزاء بعضها البعض، وصور الذات لكل منها في مقابل صور الآخر. وقد بلغت هذه العملية شأوا كبيرا من خلال “ترجمة” الأعمال الأدبية عن طريق الوسائل السمع بصرية إلى أعمال تحدث أثرا بالغا في وعي الشعوب على مستوى العالم أجمع.
وعلّه لا يغيب على فطنة القارئ أن ثمة أمرا يجمع بين هذه الكتب الثلاثة، وهو ما يقدمونه من حجج على أن هنالك ما يمكن تسميته “وحدة توليفية بين الآداب الغربية”، على حد قول إيريخ آورباخ، أو جماليات بلاغية مشتركة تحظى بها الآداب الغربية على مدى التاريخ كله، وإن تأسست بصورة خاصة على العصور الوسطى اللاتينية، وهو ما يصر عليه كل من إرنست روبرت كورتيوس ورينيه فيلك.
فـ إرنست روبرت كورتيوس يقدم للترجمة الانجليزية لكتابه “الأدب الأوربي والعصور الوسطى الأوربية”بقوله:
“ليس كتابي هذا نتاج اهتمامات محض بحثية بالمعنى العلمى للكلمة (…) إنما نمت فكرته من خلال اهتمام بالحفاظ على الثقافة الغربية”.
وعلى الرغم من اعترافه بأن وازعه في هذا العمل لم يكن علميا خالصا، فقد قوبل كتابه بترحاب كبير من الأكاديميين الغربيين كما احتفل به مشاهير الكتاب من أمثال ت . إس . إليوت الذي سارع بعبور الحدود الألمانية بمجرد إعادة فتحها في عام 1947 ليلقى صديقه كورتيوس في بون.
يستطرد كورتيوس في مقدمة كتابه المذكور قائلا:
“ليس هذا الكتاب موجها للعلماء والباحثين، وإنما لعشاق الأدب، أي للمهتمين بالأدب باعتباره أدبا”.
ولهذا السبب بالذات صار رينيه فيلك شديد الاهتمام بمدخل كورتيوس مشاركا له في الرأي كأتم ما تكون المشاركة، وهو ما يتبدي من كتابه “نظرية الأدب”، الذي ألفه بالاشتراك مع وارن، والذي صار مرجعا تفيض الإحالات إليه من كثرتها. فبالنسبة لـ فيلك، ما الأدب إلا كيانا موحدا لا يقبل التجزئه، كما نلمس الأمر نفسه لدى كورتيوس، فيما عدا أنه يختزل الأدب (الأوربي) بأن يحيله إلى العصور الوسطى اللاتينية معتبرا إياها إرثا غربيا. لذلك فلا عجب من أن يشير فيلك إلى كتاب كورتيوس قبل أن يحيل على مؤَلف “آورباخ”، مع أن هذا الأخير قد صدر قبله بعامين.
ولعل هذا التوجه الانتقائي يعكس مدى التقارب الذهني بين كورتيوس بمنهجه الميتافيزيقي الماقبلي وولعه بالأنماط الأولية عند كارل جوستاف يونج وتابعه فيلك ذي الاتجاه الكانطي الجديد. ولعل ذلك يدعونا من باب أولى أن نناقش ما ذهبا إليه، قبل أن ننتقل لمناقشة آورباخ.
فكلا من كورتيوس وفيلك (بتعطيش الفاء) يشترك مع الآخر في أمر واحد، لا يلبث أن يصبح بدهيا من خلال محاجتهما بأن الأدب لازماني، بل حتى مع اعترافهما بأنه يصدر عن أحداث تاريخية لكل منها خصوصيته، وعندما يضيفان إلى ذلك تأكيدهما بأن ما يميز الأدب هو أدبيته، أي جمالياته التي تعلو على أية عوامل أخرى. ولعل هذا هو السبب الذي يجعلهما لصيقين بالدرس الفقه لغوي للظواهر الأدبية، مما يحدو بهما لتحليل موتيفات الأدب، وصيغه البلاغية، وأغراضه الخ .. التي ينظران إليها على أنها ثوابت في النصوص الغربية الحديثة. فهذه “الثوابت” في تقديرهما لا تشكل جماليات الأدب وحسب، وإنما هوية أدبية مشتركة بين كافة اللغات والثقافات الأوربية.
ويبدو أن كورتيوس قد عثر على مفتاح رئيس للثوابت التي نادى بها أساسا لتلكم الهوية التي هو زعيم بها عندما تعرف على نظرية كارل جوستاف يونج في الأنماط الأولية، هذا بالإضافة إلى إصراره على أن العصور الوسطى الأوربية تشكل مصدرها الرئيس. ولعل المقطع التالي يوضح ما يذهب إليه على نحو لا يحتمل اللبس:
“إن تجانس الشواهد من خلفيات على هذا القدر من التباين يشير بوضوح إلى أننا هنا بصدد نمط أولي، أو بالأحرى صورة متأصلة في لاوعي جماعي بالمعنى الذي ذهب إليه كارل جوستاف يونج (..) . فقرون الحضارة الرومانية المتأخرة تغص بالرؤى التي كثيرا ما لا تفهم إلا باعتبارها إسقاطات لما قبل الوعي”.
ثم يستطرد قائلا :
“إن يونج يخبرنا أننا نلاقي الأنيما (التي هي إضفاء الحياة الروحية على الأشياء المادية) في أشباه الآلهة من الأزواج الحاملة لصفات الأنوثة والذكورة في آن. وتعود تلك الثنائيات الإلهية إلى الميثولوجيات البدائية السحيقة من ناحية، وإلى الشطحات الفلسفية للغنوصية والفلسفة الصينية الكلاسيكية (كذا ! م. ى.) من ناحية أخرى. بل يمكن أن نؤكد فيما يتعلق بها أنها تشترك في عالميتها مع وجود الرجل والمرأة. من هنا نصل إلى نتيجة مفادها أن الخيال وثيق الإرتباط بهذا الموتيف على نحو يجعله مضطرا لأن يسقطه دوما ومن جديد في كافة الأماكن والأزمنة.
يتضح من خلال مناقشة هذه الصورة ذاتها، صورة آلهة السماء والأرض (يشير النص الألماني إلى أزواج الآلهة الحاملين لصفات الذكورة والأنوثة في الوقت نفسه) ذلك التوجه اللاتاريخي القائم على المتوازيات والعولميات الذي يشاطره فيه رينيه فيلك.
وينكر هذا التوجه أهمية الخصوصيات الاجتماعية الثقافية في مجال إنتاج الأدب واستقباله، مع أنه يسلم بوجودها، ولكنه ينظر إلى الإنسان من منظور فلسفي أنثروبولوجي، ومن ثم إلى الظواهر الإنسانية الثقافية باعتبارها مجرد صفات مجردة تتعلق بـ “الإنسانية” في المطلق، كالسعادة، والحظ، والصداقة، والحب .. الخ.
أما بالنسبة لـ كورتيوس فهذه المواضع المشتركة تتعلق بالشروط الأولى والأولية للوجود البشري، ومن ثم فهى بالنسبة له خارج إطار الزمان، ولكنه يعود ليتحفظ قائلا بأن بعضها قد يكون كذلك بدرجة أكثر، والبعض الآخر بدرجة أقل.
وعلى الرغم من محاولاته ليكون على شيء من الحذر في تعميماته، إلا أنه يضفي طابعا مثاليا على الخصائص البشرية بتجريدها عن سياقاتها الاجتماعية الثقافية الفعلية. فحسب توجهه النظري يمكن النظر إلى الشباب (إذا ما أخذنا فترة نهايات الستينيات مثالا) على أنه ثوري بطبيعته. ولكنه بينما كان الشباب في بلاد الشمال التي تتمتع برفاهية نسبية، كألمانيا وفرنسا، يحتج على التوجه الاستهلاكي للمجتمعات الغربية، فإن أقرانهم في دول الجنوب كانوا يثورون ضد مجتمع الفاقة والعوز.
من هذا المثال نتبين أن الثورة ليست هي الثورة، وهو ما يدعونا إلى استيضاح خطأ التوصيفات المجردة التي يتبناها كورتيوس، مؤسسا إياها على نظرية كارل جوستاف يونج في علم النفس التحليلي.
الحقيقة أنى لم أكن واعيا منذ البداية بما يتضمنه الموقف النظرى لكل من “كورتيوس” و”فيلك”. فقد لعبت الصدفة دورها في أن أصبح ناقدا لذلك التوجه، وهو ما حدث على النحو التالى:
بعد مضي ثلاثة أعوام على تدريسي الأدب العربي المعاصر في جامعة كولونيا، حيث كنت أقوم بإجراء المقارنات بين التيارات الأدبية في البلاد العربية والأوربية، قررت كلية الآداب في الجامعة المذكورة في عام 1968 أن “توسع” من مجالي التخصصي بأن صاغته صياغة جديدة على النحو التالي “الأدب العربي المعاصر وعلاقته بالأدب الأوربي”.
وأعترف أني عندئذ لم أفهم علة تسمية الكلية لتكليفي بتدريس الأدب العربي المعاصر في مقابل الأدب الأوربي، بدلا من الآداب الأوربية (بالجمع). ولكني مضيت أعقد المقارنات الأدبية إلى أن وقعت في أوائل السبعينات على أعمال “إرنست روبرت كورتيوس”، و”إيريخ آورباخ”. وكنت في ذلك الوقت قد تركت جامعة كولونيا لأحاضر في جامعة بوخوم.
أثناء ذلك كنت قد تعرفت شخصيا على “رينيه فيلك” في مؤتمرات الجمعية الدولية للأدب المقارن التي جعلت أواظب على المشاركة فيها منذ عام 1967. وكان “فيلك”، على غير طابعه الحماسي “هورست روديجر” (أستاذ الأدب الألماني ثم المقارن في جامعة بون في تلك الفترة)، يتميز بقدر غير قليل من المكر والدهاء مع تمسك شديد بفكرة “الأدب الأوربي”، التي كان أحد أقطابها.
ومنذ ذلك الحين، وخاصة بعد التعرف على كتاباته صرت ناقدا للفكرة التي صار يروج لها أكاديميا، وهي التى تزعم أن ثمة وحدة تضم الآداب الغربية مع بعضها البعض. كما تبينت في الوقت ذاته أن ذيوع فكرة الأدب الأوربي قد كشف لي حقيقة أنه حتى دور العلم ومؤسسات البحث العلمي في يومنا هذا ليست خلوا من المصالح والأفكار السائدة في مجتمعاتها، مع أنها تحرص على أن تؤكد العكس من ذلك! وبينما سادت منذ الحرب العالمية الثانية كتب “كورتيوس” و”آورباخ” في أقسام فقه اللغة بالجامعات الغربية (التي لم أكن قد اختلفت إليها للدرس كشأن الراحل إدوارد سعيد)، إلا أنها كادت أن تكون مجهولة بالنسبة لدارسي فقه اللغة العربية ونظرية الأدب في الجامعات العربية.
ولكني باعتبارى وافدا من خارج المنظومة التعليمية السائدة في الغرب، فقد أمكنني أن أرى الخطأ المنهجي في محاجاتهم، ذلك الخطأ الذي كثيرا ما لا يلحظ في الدوائر العلمية الغربية.
______
*ميدل إيست أونلاين

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

تعليق واحد

  1. إلى الأخ محمد الذى أوسعنى سخرية بسبب دعوتى لتأمل الظواهر باعتبارها تاريخية ، وليست مطلقة فى لحظيتها ، أقول: أن موقف الأخ محمد من دعوتى لا يبتعد كثيرا عن التيار السائد فى مجتمعاتنا العربية المعاصرة، وهو الذى ينظر إلى تفوق الغرب ، لا سيما فى تقنياته، على أنه دليل على تخلفنا نحن العرب المجدثين. فكل ما هو غربى عندنا صار “مقدسا” لا يقبل النقاش، وكل ما لدينا الآن من حلول “متخلف”. وهو موقف بحاجة لإعادة النظر، لاسيما وأن هنالك من مؤيديه كتاب عرب لهم شهرة ذائعة كالراحلين فؤاد زكريا، وصادق جلال العظم على سبيل المثال، بل يمكن أن يضم إليهما طه حسين نفسه فى شبابه، وعلى وجه التحديد فى كتابه عن الشعر الجاهلى. فسواء كان ما ذهب إليه فى هذا الكتاب من اكتشافه، أو إعادة إنتاج لما ذهب إليه “مارجوليوث” بإزاء الشعر الجاهلى، فالمنهج واحد، وهو النظر للظاهرة من خارجها، وليس من خلال التفاعل الناقد لمنطقها من داخل الخطاب السائد فى مجتمعاتنا. وهو ما جعل طه جسين يتراجع أمام الرأى العام الرافض لتفسيره “العلمانى” ، او بالأحرى المتعالى على الخطاب العقائدى السائد فى مجتمعاتنا، وهو ما لم يفعله فؤاد زكريا فى نقده للفكر العقائدى عندنا، ولا صادق العظم فى “نقده للفكر الدينى” من منطلق متحيز للمذاهب الغربية الحديثة. وهو ما سار على منواله آخرون اشتهروا ، وإن كان أثرهم فى مجتمعاتنا العربية جد متواضع. بينما لا ننسى أن العرب نفسه لم يتطور على هذا النحو الفجائى، بل عن طريق تفاعل قوى الإنتاج الجديثة فيه مع الأفكار الدينية السائدة فى عضره. هكذا كان إسهام “ديكارت” الذى صار نموذجا للعقلانية الفرنسية، من خلال مسعاه ل”إثبات وجود الله” بأدلة هندسية مستمدة من التطور المادى للمجتمع الفرنسى فى القرن السابع عشر، ولم يكن تعاليا مسبقا منه على الخطاب العقائدى السائد فى مجتمعه. وهو ما فعله على نحو آخر ابن رشد فى نظره لتراثنا العقائدى مما جعل البعض يتخذونه “مثالا” يجب أن يحتذى اليوم ( مراد وهبة على سبيل المثال)، وإن كانت تلك الدعوة لا تجد آذانا صاغية لدى الكثيرين لا سيما فى مؤسساتنا العقائدية، وذلك ليس بسبب مجرد تمسكها بالتراث المحافظ ، وإنما لعدم تفاعلها مع القاعدة الإنتاجية فى مجتمعاتنا بما يحمله ذلك من تجاوز لجلول أجدادنا. ورؤاهم المفارقة لواقعنا المعاصر.
    وبهذه المناسبة أود أن أعلق على تهكمك على شخصى فى تعليقك على دراستى : خرافة الأدب الأوربى، بأنه ليس ففط ظالم لباحث عاش أستاذا بالجامعات الألمانية لعدة عقود، وترجم الكثير من الدراسات عن الألمانية فى مختلف التخصصات، ولا سيما فى فلسفة العلوم ( راجع إسهاماته فى مجلة “فكر وفن” الألمانية منذ 1963 حتى 1971)، كما أن له منذ منتصف السبعينات أعمال ناقدة للمركزية الأوربية ، خاصة فى نظرية المعرفة بالمعنى الفلسفى فى ست لغات أوربية، فضلا عن العربية، وبعضها ترجم للصينية، وصدر عن دار نشر جامعة بكين، أما تلك التعليقات التهكمية فأخشى أنها لا تضيف للجوار القائم على منهجية بحثية ناقده، وهو ما أرجوه من قرائى . فإنى أرى ، على العكس مما هو سائد فى مجتمعاتنا الحالية من ترديد للرأى الواحد، أن الاختلاف فى الرأى يكسب للود قضية.. مع تحياتى.
    مجدى يوسف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *