وأنا هنا ما زلت أرقب في انتظار

خاص- ثقافات

*مريم لحلو 

القطار
سيُحكم عليك أن تظل مربوطا في هذا القطار عشر ساعات كأي سجين منسيّ، دون أن ينفعك التذمر أو النظر المتردد نحو مطلع الشمس.ترضى بواقعك الكئيب.تجلس جلستك الوقورة المعهودة التي فرضتها على نفسك فرضا.سأرى عينيك خلف الزجاج الكثيف لنظارتك التي تقيك الشمس و لك فيها مآرب أخر.
ستتابع،بفضول، أبطال “منيف” بعيونك الصغيرة الماكرة ،وأكاد أجزم أنك تود لو هدمت فم ذلك السمين ذي الرائحة الشبيهة بروائح العجلات المطاطية المحروقة في “كوشة” حمام .. وهو يرى أن الآثار مجرد حجارة وقصور مهدمة.
ولعل ذهنيتك الشرقية الصميمة، رغم أنك قضيت شرخ شبابك وجزءا من كهولتك في أوروبا، ستجعلك تنفر من ذلك الفنان العالمي الذي يحلو له الركوب في القُطر فقط من أجل محادثة  “جالا” بعد أن سرقها برضاها من شاعرك المفضل “إيلوار”.ويزداد غيظك وأنت ترى رأسها يميل على كتفه ويدها نائمة في يده.فهل هناك عاقل،في نظرك،يصطحب زوجه في سفر؟
يلهيك “هركول بوارو” بتأنقه الزائد، وعينيه القطيتين ،وحركاته السينمائية المتقنة وهو يحقق في قضية مقتل راتشيت..ولعلي لمحت ظلا من الذعر لون بشرتك بالصفرة مخافة أن تتهم بهذه الجريمة التي وقعت قبل أن يولد حتى والداك.
تراقب بعين خفية كافكا و هويتهد ومورافيا وهم يتأملون ويحاولون تسويد الأوراق البيضاء الكثيرة بأبطالهم القطاريين.ترف عيناك قليلا وتعذر صديقك الروسي عندما تسبق العطور الفتيات والسيدات اللواتي ابتعدن كثيرا عن الوقار وقد خرجن بثياب تصلح فقط لغرف النوم.ولعلك تمنيت  لو أضاف بعضا من هايكوياتك الليلية “لديوان الإغراء”.
لكن، يحول نظرك إلى آخر المقطورة صوت الشركسي الهادر الذي علا على صوت الأستاذ والأفندي، والتلميذ المشاكس والعمدة الإقطاعي. ثم الحوار البيزنطي الذي حمي وطيسه بينهم مما أفقد “أحمد تيمور” صوابه فهرب من أقصوصته  غير مبال  بدوي القطار وصفيره وأبطاله يهرولون وراءه في محاولة بائسة للحاق به.
تمشي هذه السحلية المعدنية الضخمة على مهلها..في كل محطة تلقي بيوضها وهي تحول المدى إلى مسوخ تصفق لها الريح..فترثي لشاعر “جيكور” المستلقي في إحدى مصحات لندن وهو يصرخ ألما وشوقا وآلاف القطر التي تمر عليه ،طول الليل، لا يصله منها  إلا العواء .
كل أولئك الأبطال،الصامتين والصاخبين والإشكاليين جلسوا متجاورين. تأسرهم لغة سارديهم،لا يسمحون لأنفسهم بالخروج عن النص حتى وإن كان عطر الفاتنين والفاتنات يملأ خياشيمهم ،والتنانير القصيرة والعضلات المفتولة تلهيهم عن حواراتهم. تراهم يكتفون بنظرة عابرة،وبهزة رأس أسيانة، لا مبرر لها داخل نصوصهم الأصلية ،فيتعرضون لأبشع نقد من دارسين غير مجربين.
دون سابق إنذار، حدث ارتطام قوي، رجنا أنت وأنا فقط لأن باقي الشخصيات كانت خارج الزمن تواصل عملها بدأب الموتى.خرجت عن سكونك وطارت الذبابة التي كانت تعلو خرطومك،وانتبهت لوجودي والحق أني رأيت علامات الأسى العميق تظلل وجهك وأنت تشهد حقيقة ما جرى لأنا كارنينا بأم عينيك.
عندما ننزل الدركات المعدودة، نجد نازك ومحمود ينتظران قطارا لا يأتي تقول دامعة هي:
وأنا هنا ما زلت أرقب في انتظار
وأودّ لو جاء القطار..
وأودّ لو جاء القطار..
ويتحسرهو:
مَر القطار سريعا
مر بي ، وأنا
ما زلتُ أَنتظر
وأنا أيضا مازلت أنتظر..أنتظر أبطالي الخاصين أبطال مريم قدور.
______

أديبة من المغرب.

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *