عصير فراولة

خاص- ثقافات

*سوسن الشريف

أصرت صديقتي على أن تصحبني إلى عالم الناضجين، بعد دهشتها المرعبة بحالة التأخر العمري –على حد قولها- الذي أعيشه. لا يعجبها خجلي، ولا احمرار وجهي حتى الآن، وترى أن هذه أشياء يجب التخلص منها في سلة المهملات كأحذية قديمة، وكل محاولاتي لإقناعها بأن هذا رد فعل طبيعي بيولوجي لا دخل لإرادتي فيها، تُنكر بشدة، وتكفر بكل الأدلة العلمية التي تؤكد ذلك. كل ما يشغلها كيف أنني لم أدخن ولو سيجارة واحدة، ولم اتذوق طعم القبلة.

رأت أن أول الطريق لأضرب عصفورين بحجر، أن أتحلى ببعض الجرأة، وأتعلم كيف أجذب الرجل بدخان سيجارة ملونة ببصمة شفتي. طلبت مني أن أذهب وأشتري بنفسي السجائر، وقبلها جعلتنني أتذوق سيجارة بطعم الشيكولاتة، ولأنني أحب الشيكولاتة، أعجبتني، والغريب لم تنتابني نوبة الحساسية القاتلة كما يحدث عند تواجدي بمكان فيه مدخنون. اتفقنا على أن يكون الغد بداية حياة جديدة، وسأحضر معها حفلة لأحد الأصدقاء في منزله، تركتني وذهبت بعد أن اختارت لي فستانًا مناسبًا، وهي تضحك بخبث وتقترح أن ارتديه كما هو، ولا أشوهه برداء فوقه أو تحته يغطي المناطق المكشوفة من جسدي. وأنا أرتدي الفستان تذكرت اقتراح صديقتي، بأن ألبسه كما هو، راق لي، إذا كنت سأتمرد فليكن تمردًا حقيقيًا وجرئيًا.

أول مواجهة ستُعينني على التخلص من الخجل، النزول إلى الشارع بهذا الفستان بمفردي، وانتظار التاكسي الذي طلبته. كنت أتمنى أن يكون هذا في الصباح، حيث أرتدي نظارتي الشمسية، أراقب الجميع، وأنظر في أعينهم بحرية، لم ينظر إليّ أحد باستغراب، في الغالب لم يعرفني أحد، فقط نظرات إعجاب، وهذا منحني شعورًا بالثقة وبعضًا من الشجاعة.

دخلت الحفل متوارية، أتحاشى بقع الضوء، أبحث بجنون عن صديقتي، ما أن رأيتها حتى تشبثت بيدها كغريق، فغرت فاها وهي تُعبر عن إعجابها بما فعلته. عرفتني على الجميع، حاولت الاندماج معهم بصعوبة، شيء ما غريب ثقيل على نفسي، الأمر ليس ممتعًا لهذه الدرجة، ولا يستحق المغامرة. قدم لي أحدهم شرابًا أحمر، حسبته عصير فراولة لكنني وجدته عصير طماطم بالتوابل، كدت ألفظه في وجهه، لا يحتمل الموقف مفاجأت، تخيل أنك تهيئ فمك لتذوق فراولة حلوة، تجد نفسك تشرب كوب سلاطة، عرفت فيما بعد أنه مشروب روحي اسمه “بلودي ماري”، عبارة عن عصير طماطم وليمون وفودكا. تعجب من انزعاجي، وأخبرني أنه لم يحب عصير الفراولة قط، عرض أن يأتي لي بعصير برتقال، عندما تذوقت به بعض المرارة شعرت بالقلق من أن يكون به خمر، أوضح لي أنه عصير مُعلب مستورد، ويمكن هذه المرارة بفعل المواد الحافظة.

كان شخصًا لطيفًا، ظل معي طوال الحفلة، كنت أتغاضى عن لمسه ليدي من وقت لآخر، في البداية كنت أشعر بتشنج، حاولت مقاومة مقاومتي للتغيير، حتى الرقص، بدا لي غريبًا وكأنني لم أرقص قط، لكن بالفعل لم أرقص قط مع رجل. بدأ الجميع في الانصراف، واحدًا تلو الآخر، وقد بدأت آلف المكان وصاحب المكان، الذي ترك الجميع وكنت شغله الشاغل، لمح هو رغبتي في عدم الانصراف، فعرض عليَّ البقاء وسيقوم هو بتوصيلي للمنزل. نظرت لي صديقتي بضحكة غامضة، قائلة “عاجبني انك بتتعلمي بسرعة”، لم أفهم، سألتها عن مقصدها، أكملت طريقها بعد ما رمتني بضحكة وغمزة. انفض الجمع من حولنا، سألته لماذا لا نذهب وقد خلا المكان، فقد كانت حجته أن ليس من اللائق أن يترك صاحب الحفل منزله وبه ضيوف، مع أنه لو أختفى لساعات لن يلفت نظر أحدًا من الموجودين، فالجميع منشغل بالجميع.

جلس بجواري متسائلًا عن سبب العجلة، أعطاني كوبًا أخر من عصير البرتقال الُمر، علمت فيما بعد أنه ممزوج بالفودكا أيضًا، أمسك بيدي، رفعها لشفتيه، أقترب أكثر، راح يملس على شعري الطويل، وأنا أرتعش تحت يده. سألني بصوت خافت “خايفة؟! ضربات قلبي تتسارع، كسيارة على منحدر، ولا يمكنها التوقف، أو تغير مسارها. كنت مستكينة بصمت، لا بهدوء، سألني لماذا أنا مستسملة هكذا، وضع قبلة على جانب شفتي، لم أتحرك. ابتعد ناظرًا لعيني الممتلئين بالدموع، سألني عن رغبتي فيه، لم أعرف بما أرد، قام منفعلًا وقال “امال انتي جيتي هنا ليه؟ وقعدتي مستنية الناس كلها تمشي ليه لغاية ما بقينا لوحدنا ليه؟”، طلب أن نذهب ليوصلني لمنزلي، وطوال الطريق أصبنا بحالة من البُكم.

قبل أن أنزل من السيارة أمسك بيدي، ثم ملس برقة على ذقني ليجعلني أنظر إلى عينيه الجذابتين، وهمس في أذني “أنتي اكتر واحدة باردة شفتها في حياتي، واكتر واحدة صُحبتها مملة في الحفلات، ضيعتي لي وقتي على الفاضي، لولا خايف من لسان صاحبتك اللي جابتك كنت سيبتك في الشارع ومتعبتش نفسي في توصيلك حتى للعمارة اللي جنبنا”. أشرق وجهي بابتسامة حقيقية لأول مرة في هذه الليلة، شعُرت بسعادة غريبة، كأنني توضأت وصليت ركعتين لإزاحة هم ثقيل، كم يكون الفشل مبهجًا أحيانًا. اُصيب هو بحالة من الجنون، أمسك بيدي بقوة، حتى الألم لم أشعر به، ظللت محتفظة بضحكتي، وهو يصيح فيَّ “أنتي مجنونة، قلت له “بل أنا فاشلة، وسعيدة بهذا الفشل، لن أنس أنك أول من اكتشف هذه الصفة الجميلة لدىَّ”.

جذبني إليه يمنعني من النزول قبل أن أفسر له ما حدث، أخبرته أنه سيجد الإجابة عندما يعرف الفرق بين عصير الفراولة، والبلودي ماري.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *