خاص- ثقافات
لا ريب أنّ فن القصّة أقصر مسافة سردية بين ضفّة الواقع وضفّة التخييل وهذا القصر أشبه بحدٍ ذي نصلين، فمن ناحية يكون كمبضع الجراح ومن الناحية الأخرى يصبح فاضحاً لعورات السرد/ الحكاية، فالقاصّ يدرك أنّه لا يملك إلا رمية واحدة من قوسه؛ فأمّا يصيب الدريئة أو يخطئها، فهو لا يملك حظوظ الروائي، فإن ترهل فصل من الرواية أسنده آخر بجودته. هذه الصفة لفن القصة تجعلها في مركز السهل/ الصعب، فالقاصّ لا يعالج فضاءات زمنية ومكانية كبيرة ولا يتتبع حيوات الشخصيات في كل تفصيلة بل يختار شريحة لها صفات العينة المخبرية التي تصبح لها مفاعيل الرمز وتشجّر دلالاته.
زرقاء عدن مجموعة قصصية لليمنية لارا الضراسي، صدرت من خلال الكتاب الشهري الذي يرافق مجلة الرافد، تعالج فيها وضع المرأة اليمنية من خلال رصد واقعها الاجتماعي و الذاتي عبر زوايا مفصلية دقيقة تسمح برؤية رمزية يُستظهر من خلالها الكثير من القيود التي تكبل المرأة عن تحرير ذاتها ونمو شخصيتها ونضوج فرادتها وفرديتها.
تتضمّن المجموعة سبع عشرة قصة بعناوين أشبه بطعْم الصنارة، فالعنوان لدى لارا من ناحية يمهد كعتبة نصية محرضة للدخول في حيثيات الحكاية كمثال على ذلك نختار :” الدحباشي – تكسي عدن – سيناريو ” والهدف من ذلك تأمين الرغبة والمشاركة من قبل القارئ للقصة بحيث يتتبع التفاصيل والإشارات ليخلص مع نهاية القصة بالعبرة المشتهاة ومن ناحية أخرى يأتي العنوان ليخاتل الحكاية ويدعمه بذلك السرد الحامل للحكاية وهذه المخاتلة هدفها تأمين خاتمة مزدوجة تفتح النهاية على تداع حرّ لظلال القصة وكمثال على ذلك نذكر :” ملاريا – زرقاء عدن – جئت بعار السرقة “.
لغة القصص في المجموعة، تأتي بمنحى شعري لتؤمّن للسرد الرشاقة في التقاط نقاط علّام لشريحة الحكاية المنتقاة بعناية من محيطها، فتطعيم اللغة النثرية باللغة الشعرية يخفّف من عبء المباشرة في القصّ ويسمح لها بالمناورة لتقول المسكوت عنه عبر صدى الكلام لا صوته، فتتلاعب بالرقابة وتنجو من شباكها، وندلّل على ذلك في مبتدأ قصة ” لعنة ” حيث الطفل “مختار” الذي عهد له شيخ القبيلة بحراستها في غياب رجالها في الحرب، نجده يتعامل مع الباردوة كرجل يتعامل بحميمية مع أنثاه، فالطفل أنضجته الحرب دون أن يدرك ورمت بطفولته بعيداً :” يعشقها … ينام معها ويحشرها بين يديه وقدميه، يصعب التعرّف على حدوده من خلجانها، كان يحلم بها ولها يمسكها كأنّها حياته ” ونستزيد من ذات القصة ونختار أحد أجوبة ” مختار ” للمرأة زبيدة التي تجادله كي يترك البارودة ليعود لطفولته أو ليكون رجلها مستقبلاً، فلقد فقدت الأمل بعودة زوجها، فيجيبها الطفل مختار:” سيعود يا زبيدة، سيشتاق إليك ويعود، أنت جميلة جداً”.
لارا تؤكّد في قصصها أنّ مجابهة القيود لا يكون بكسرها بل بصنع المفاتيح لها، فالقوة لا تجبّها القوة بل عبر تفريغها من عبادة ذاتها، ففي قصة ” في انتظار .. ظلّ ” يرفض المجتمع ” بنت الذيبة ” لأنّها نجت من الطوفان رغم انشغال أمّها بإنقاذ أخوتها الذكور! فترضعها أنثى الذئب وعليه تصبح النجاة من الموت قيداً عليها وعندما تطلب أن يزوّجها إمام المسجد ليكون لها ظلّ رجل بعد أن تجنّبها جميع ذكور القرية يجيبها الإمام بأن تتوقف عن البحث عن ظلّ لها لكن تشي الحكاية بمقولة أخرى فالظّلّ الذي تبحث عنه ” بنت الذيبة ” لا لتجلس في فيئه أي الزوج بل ظلّها ذاتها، وجودها المقموع لأنّها لم تتزوج.
زرقاء عدن؛ هي القصة التي وسمت لارا الضراسي بها مجموعتها القصصية؛ تحكي القصة عن فتاة ولدت بعيون زرقاء وجلد أبيض وكأنّها من علاقة محرمة قامت بها الأم مع أجنبي ممن يرتادون ميناء عدن لكن لا إثبات على ذلك. هذه الطفرة رُفضت من مجتمعها وعوملت كبنت الحرام ومع ذلك أنقذت ” زرقاء عدن ” مجتمعها من أهوال كثيرة كهجوم كقطيع من الجمال الهائجة وما يحمل من دلالة على الصحراء وإيجاد قارب أبيها الذي اختفى في البحر وعندما تفعل ذلك ويعود الجميع ومن ضمنهم الأب لا يجدون ” زرقاء عدن ” في القارب لقد اختفت، هكذا تتخلى مدينة عدن كميناء عن اتصالها بالعالم الخارجي وتنكفئ على ذاتها من جديد. إنّه حال اليمن كله.
تشبه قصص المجموعة أثر الفراشة، حيث تتوالد التداعيات مع كلّ رفّة/ قصة تُقرأ؛ فتنتج أثر العينية المخبرية كرمز عن المنطقة المنتقاة منها؛ هكذا تجسر لارا الهوة بين الواقع والرغبة بقوله عبر التخييل بطريقة ذكية ولماحة.