وجوه التحوّل في القصّة القصيرة التونسيّة خلال الألفيّة الثالثة


*عبّـــاس سليمان

خاص- ( ثقافات )

“للنّساء وجع آخر” لـ “نجاة ادهان” أنموذجا
نتناول التحوّلات التي عرفتها الأقصوصة في تونس منذ بداية الألفيّة الجديدة انطلاقا من أنموذج هو مجموعة: “للنّساء وجع آخر” لـ :”نجاة ادهان” الصّادرة عن دار “رسلان” للنّشر سنة 2014 والممتدّة على 160 ص وبها اثنتا عشر أقصوصة يتقدّمها تصدير بسطرين بإمضاء الكاتبة نفسها: “وللنّساء وفي النّساء كثير من الفرح.. لكنّنا غالبا ما نسرقه وندفنهنّ أحياء..”
*مظاهر التحوّل في مجموعة “للنّساء وجع آخر “

-العتبات 
لا شكّ أنّ اختيار عنوان يلائم كتابا – أيّ كتاب- أمر على غاية من التّعقيد والمسؤوليّة فمن شروط العنوان أن يكون جامعا مقنعا مغريا جذّابا … وجدير بالملاحظة أنّ الأمر يصبح أكثر تعقيدا عندما يتعلّق بمجموعة قصصيّة إذ النّصوص عديدة والمحاور مختلفة وأزمان الكتابة متباعدة. ولئن كان السّائد اختيار عنوان من عناوين الأقاصيص التي يحويها الكتاب فإنّ ما أمكننا رصده في مجموعات الألفيّة الثّالثة على وجه الخصوص ومنها المجموعة التي بين ايدينا أنّ الاتّجاه أصبح يميل إلى ابتداع عنوان جامع شامل ينسحب تقريبا على روح المجموعة مع ما في هذا التّوجّه من عسر وتعقيد .
“للنّساء وجع آخر” هو عنوان هذه المجموعة وله بعناوين نصوصها صلات شكليّة ومضمونيّة . يكفي مثلا أن نذكر عناوين مثل : “أمومة مبكّرة” صك :17 و”في عيدها الاربعين” ص:31 و”معركة خاسرة”ص : 71و”بعض الأنوثة يؤلم”ص : 99 و”يحنّ القلب”ص : 111 و”فاتحة الكلام … خيانة”ص: 121 لنتبيّن ما بين العنوان الخارجي والعناوين الداخليّة من وشائج .
وما دمنا بصدد الحديث عن التّحوّلات التي مسّت العناوين سنشير إلى أنّ عناوين المجموعات القصصيّة الجديدة أصبحت لافتة للانتباه لعدولها عن المألوف والبساطة والسّذاجة والافتضاح وإعراضها عن الاقتصار على صيغة المركّب الإضافي أو المركّب النّعتي أو الاكتفاء باسم من أسماء شخصيّات واحدة من الأقاصيص ولتعويلها على المجاز بما لا يجعل العنوان في حدّ ذاته نصّا أو لغزا يستدرج القارئ نحو التّفكير فيه وتأويل معانيه ويجذبه إلى الكتـاب . 
العنوان عتبة أولى قد تغريك بتجاوزها إلى ما بعدها من غرف وأبواب ونوافذ وقد تثنيك عن ذلك فتعرض عن القراءة قبل حتّى أن تشرع فيها .
وما نقوله عن العنوان ينسحب على الغلاف …جلّ أغلفة المجموعات القصصيّة الصّادرة بعد سنة ألفين أصبحت قائمة على الرّمز بما يغري بمحاولة قراءة الصّورة وتفكيكها قبل حتّى المرور إلى النّصوص وبما يفسّر انفتاح كتّاب القصّة على إبداعات الفنّ التّشكيلي وتوسّلهم به لضمان الالتفات والانتباه إلى كتبهم من خلال واجـهاتها أوّلا .
في صورة الغلاف الذي بين أيدينا صفحة مكتوبة بخطّ اليد كتابة عقود البيع أو الزّواج القديمة يلطّخها لون بنيّ يكاد يمحو كتابتها وتتقاطر حولها وفوقها نقاط حمراء كبيرة تحيل على لون الدّم القاني … صورة تتناغم مع العنوان في دلالات الوجع وعلاماته وتحفّز القارئ على تأمّلها وتأويلها .

-مدارات الأقاصيص :
نقتطف من أقصوصة “حمّى الحرف” ص: 5 الشّـاهد التّالي :”كم تخاف أن تهجرها الكلمات مع الخطى. تعرف جيّدا تفاصيل هذا الوجع حين تحتلّها الكلمات وتدعوها إلى جنّة الورق لكنّها تعلن العصيان مرغمة فلا تســتجيب ” ص : 7. 
لم تعد الّلغة أداة نورد بها حكاية أو نصف بها مشهدا أو ننقل بها حواريّة بل أصبح مدارها القصّة نفسها… اللّغة تتحدّث عن اللّغة …الخطاب يدور حول الخطاب …كلام على الكلام …تفكير حول الفكرة …تردّد حيال النــصّ نفسه .
لم يعد مردّ الحيرة باطن الشّخصية ولا سلوكها ولا علاقاتها ولا مآلها إنّما مردّها القصّة نفسها: بأيّ لغة ستكتب وحول ماذا ستدور وكيف ستبنى وكيف نتوسّل الكلمات أن تأتي والأفكار حتّى لا تنضب … وتصبح قيمة كتابة نصّ في قيمة إنجاب طفل و يصل بناء الأقصوصة إلى مرحلة الخلق : “بديع أن تدرك مرتبة الخلق بكلّ ما فيها من رغبة في الفناء في الحرف .” ص : 8 .
كتابة النصّ في حدّ ذاتها تصبح موضوع الأقصوصة بما يعنيه ذلك من إعراض أو عدول عن المواضيع العاديّة التي مُجّت وعن اختيار شخوص معتادة وبداية تتتالى إثرها الأحداث لتصل إلى قفلة فيها كسر لانتظار القارئ أو انفتاح على مصائر كثيرة محتملة … تنحصر عناصر الأقصوصة في السّاردة التي تعاني صعوبة ولادة نصّها وفي قلمها الذي تستجديه فيتمسّك بالمكابرة وفي الورقة التي تظلّ بيضاء عذراء في انتظار حبر لا يأتي – عجز عن الكتابة يذكّرنا بأنواع أخرى من العجز – وفي فنجان قهوتها تتوسّل به دون جدوى … “تهرب إلى فنجان قهوتها .تمتدّ أصابــعها إليه .تتحسّس حرارة الحياة فيه علّ الحروف تتناثر حولها ثانية.” ص: 14. 
نحن إذن أمام وجه جدّة يتحول معه الكاتب إلى ناقد وتتحوّل فيه الأقصوصة في حدّ ذاتها إلى موضوع للبحث والتّفكير .
ويمكننا في ذات الصّدد أن نقف على وجه تحوّل آخر نلخّصه في التفات القصّة إلى الانتصار للنصّ الأدبيّ. ففي نصّ “لقاء” ص: 44 ، يلقي شاعر قصيدة تنال إعجاب الجمهور ويتعالى التّصفيق احتفاء به وبها ثمّ يُفسح المجال للنّقاش وتتناول الكلمة إحدى الحاضرات فتفاجئه بكلامها عن “الشّعر وصوره وعن أصل الكلمة وعن أشياء كثيرة لم تخطر باله ولم يتهيّأ للإجابة عنها .”ص :45 
يدفع الشّاعر الإعجاب بناقدته إلى طلب لقائها ويكشف الحوار استثنائيّة هذه المرأة في أسئلتها وردودها ومواقفها. 
تبدأ أقصوصة “لقاء” ص: 44 هكذا : “للتّوّ أنهى إلقاء قصيدته ، شعر أنّه قد نثر حروفا كثيرة في المكان ،لم ينتظر طويلا حتّى اجتاحته موجة تصفيق كبيرة أدر ك بها أنّه قد أحسن القول وأنّه قد أعاد للشّعر مجدا ظنّ الكثيرون أنّه قد انتهى … “ص: 44
ويلي كلام الشّاعر هذا عن قصيدته ما قالته إحدى المواكبات لأمسيته تعليقا على ما سمعت :” لكنّها سرعان ما فاجأته .تحدّثت عن الشّعر وعن صوره وعن أصل الكلمة …” ص: 45
نحن أمام نصّ قصصيّ يكتب لينتصر للشّعر وللنّقد وللمشهد الأدبيّ. أليس هذا طريفا فعلا ؟أليس هذا وجها من وجوه التحوّل ؟
مشاغل الأقاصيص :
لعلّ من وجوه التحوّل التي أمكننا رصدها الهروب إلى القصّ ملاذا لبسط مشاغل لم يجد لها القائمون بشؤون السّياسة والحقوقيّون ورجال والعدالة و ناشطو المجتمع المدني .ولعلّ المشغل الأهمّ في أقاصيص هذه المجموعة مشغل المرأة فكأنّ الكاتبة أيقنت أنّ ما لم يؤخذ بالقوانين قد يستردّ بالأدب وعبر هذه الأقاصيص التي تلفت الانتباه بدء بعنوانها “للنّساء وجع آخر” إلى أنّ للنّساء أوجاعا تختلف عن أوجاع الرّجال وإلى أنّ للنّساء أوجاعا لم تخفّ ولم تتناقص ولم تنته رغم ما يقال هنا وهناك عن المساواة بين الجنسين وعن حرّية المرأة وما نالته من مكاسب. لكأنّ “نجاة ادهان” تتجرّأ على القول إنّ القصّة القصيرة بما فيها من تكثيف وإيحاء وتأثير سيّما إذا صاغتها امرأة خبيرة بأوجاع النّساء باعتبار جنسها قد تفعل في مجتمع لا يزال ذكوريّا ما لم تفعله القوانين وادّعاءات المساواة والحداثة والحقوق. ها هنا شاهد فيه تسآل ملحّ ومؤثّر يأتي على لسان أنثى : ” كيف لناقصة – في إشارة إلى ناقصات عقل ودين – أن تدعو إلى بديل آخر؟ كيف لناقصة أن تطال الكمال فتثبت أنّ علّة الوجود لا تعترف بقوانين الأجساد وانّ اللّه لا يمكن أن يكون ظالما فيخلقها أنثى ثمّ يجعلها أقلّ مرتبة وللآخر أن يستعبدها كما يشاء فينوبها في حقّ الحياة …”ص : 153 .
نحن إذا أمام نوع من الكتابة أعلن تلميحا أنّه فقد الثّقة في كلّ السّبل الأخرى وأنّه قادر على التّعويل على نفسه لا فقط لبسط هموم الذّات إنّما أيضا لطرح قضايا كونيّة ومشاغل حضاريّة كبرى .
توظيف اللّغات: 
في نصّ “بعض الأنوثة يؤلم”/ ص:100 تتساءل الحبيبة ص:107 :”لِمَ لَمْ يعد حبيبها يغنّي لها صباحا :
le ciel prétend qu’ il te connait ,il est si beau, c’ est sûrement vrai ,lui qui ne s approche jamais ,je l ai vu pris dans tes filets. 
سؤال طرحته بعد أن سكنها ورم أبعده عنها وكان يمكن أن توظّف أبياتا من الشّعر العربي أو أن تكتفي بالإشارة إلى عنوان الأغنية أو مغنّيها أو أن تترجم مقطع الأغنية هذا غير أنّها لجأت إلى الفرنسيّة لتنقل الكلام كما جاء وكما كان يغنّيه لها حبيبها وكما كانت تسمعه وكما لا يزال محفورا في ذاكرتها بما يعنيه ذلك من انفتاح للأقصوصة على لغات أخرى متجاوزة إدماج كلمة أو مثل إلى إيراد مقطع غنائيّ كامل .

الاشتغال على اليوميّ :
سنعتبر الاشتغال على اليوميّ وعلى التّفاصيل الدّقيقة واحدا من وجوه التحوّلات التي عرفتها أقصوصة الألفيّة الجديدة ، فلئن عرف هذا الجنس في عمومه قبل التّاريخ المذكور أو في القصص القديمة لهاثا مستمرّا منذ البدء نحو النّهاية كأنّما خاتمة القول أو مآل الأحداث أو مصير الشخصيّة الأهمّ هو مبتغى الكاتب و مدار انتظار المتلقّي وكأنّما القاصّ يحكي بغاية الإخبار عن النّهاية … لئن كان ذالك كذلك فإنّ ما رصدناه في قصص ألفيّتنا الجديدة اهتمام واضح باليوميّ واشتغال دقيق على التّفاصيل كأنّما القصّ يستمدّ أهمّيته من قدرته على النّبش في الزّوايا والعاديّ وكأنّما القصّة الجديدة قيمتها في ثناياها لا في مآلاتها وكأنّما اقتدار القاصّ إنّما يظهر في صبره على تعقّب دقائق الأمور ومكوّنات اللّحظة وصفا وسردا وحوارا .
سنستدلّ على سبيل الذّكر بمقتطف ورد في أقصوصة “معركة خاسرة “:حين تغسل ثيابه تتعمّد أن تفركها مرارا .شيء مّا كأنّه التصق يأبى التّلاشي… شيء مّا عليه أن يمحى لتشعر أنّ الثّياب نظيفة ولتطمئن نفسها إلى أنّها قادرة على قتل خوفها” ص :74.
أمّا الشّاهد الثّاني والشّواهد على انكباب القصّة على اليوميّ وتفاصيله عديدة فنأخذه من أقصوصة “بعض الأنوثة يؤلم” : “صارت يده الباردة تؤلمها أكثر كلّما امتدّت نحـــــوها .ليده وخز موجع .وخز أنامل مشقّقة حينا ومؤلمة حينا آخر. هذه اليد تعرفها . هذه اليد لا تحبّها …ص 108
-ظاهرة تعدّد الأصوات:
لا نشكّ في أنّ حضور هذه الظّاهرة قد تواتر في نصوص الألفيّة الثّالثة ولا شكّ لدينا أيضا أنّه وجه من وجوه التحوّل الفضل فيه عائد إلى اتّكاء السّرد على المسرح خاصّة وعلى السّينما . وقد حضرت هذه البنية الجديدة- البنية الحواريّة- في نصوص ما بعد سنة ألفين عموما وفي النّصوص التي اخترناها أنموذجا لورقتنا هذه على وجه الخصوص بشكلين اثنين:
محاورة الذّات ذواتا أخرى ومحاورة الذّات نفسها بما في ذلك من دلالة على انزياح السّرد عن الوصف الخارجي منحازا إلى استبطان ما يدور داخل الذات من صراعات ومشاعر ومواقف دافعا بذلك القارئ نحو ذروة التّأثّر أو التوتر وسنقتصر على أقصوصة: “أمومة مبكّرة” 19/ 29 لنشير إلى ظاهرة تعدّد الأصوات بشكليها أي بشواهد عن الذّات تحاور ذاتها وعن الذّات تحاور ذوات أخرى. حوارات صاخبة متوتّرة بين السّاردة وأمّها وجدّتها ويحضر فيها بالغياب جنين توهّمته الأمّ حيّا في أرحام ابنتها من جهة والأب من جهة أخرى سلطة عليا تحار الأمّ كيف تنقل إليه خبر الفجيعة التي لا تعدو كونها حلما .
تداخل الواقعي بالرّمزي :
من وجوه التجديد الأخرى تداخل الرّمزي بالواقعيّ والحلم بالحقيقة والتّصريح بالتّلميح والوضوح والإغماض بما يجعل دلالات بعض الأقاصيص مخاتلة كدلالات اللّوحات الفنيّة أو الشّعرية يحتاج الأمر لفهمها إلى البحث عن مفاتيح نعالج بها ما استغلق من المعاني والمقاصد. الأمر يقتضي عندئذ أن لا نعوّل على اللّغة المعياريّة نظرا لحياد الكلام عن معانيه التي وضعت له أو وضع لها إلى معاني المجاز . يقول “فيصل درّاج” / الواقع والمثال/ دار الفكر الجديد /ص 125 : “النصّ الأدبيّ ملتبس متعدّد الدّلالات وإرجاعه إلى دلالة واضحة وشفّافة يقود إلى إلغائه كنصّ .”
ونحن نردّ أسباب هذا الوجه من وجوه الجدّة إلى 
– مراهنة الكاتب على قرّاء جدد هم أصلا النّخبة أو الصّفوة باعتبار أنّ القراءة انحصرت فيهم تقريبا .
– اعتبار الكاتب أنّ القصّة لم تعد مجرّد حكاية تحكى ومساحة للتّسلية والمؤانسة والمتعة بل مساحة مكابدة ذات بعديْن بعدها الأوّل مبدعها الذي لم يعد مستسهلا الكتابة وبعدها الثّاني متلقّيها الذي بات عليه أن يقرأ بإمعان نظر وتدبّر وتفكير.
تعيش السّاردة حلما يتمكّن منها حتّى ليصبح ساكنا فيها كحقيقة ثابتة … ترويه لأمّها فيكون العقاب على الحلم شديدا … كيف لبنت أن تجرؤ على الحلم بأنّها عاشت تجربة حمل ؟ : “أقسم أنّني رويت لها حلما …كان جميلا جدّا فلم أستطع كتمانه. أقسم أنّني لم أطلب الحلم. أقسم أنّي لم أسكن حلمي أيّ رجل .أقسم أنّني لم أفكّر يوما أن أكون أمّا .ص :26.

بنية الأقصوصة :
ممّا يمكن أن نعدّه تجديدا وقوفنا في المجموعة موضوع ورقتنا وفي مجموعات قصصيّة تونسيّة أخرى على أقاصيص عديدة تنطلق من قفلاتها أي أنّها تحمل خاتمتها في سطورها الأولى. والأمر يقتضي حينئذ أن يصبح النصّ نصّ التفات يرتدّ إلى الوراء ليستردّ البدايات وما تلاها. نحن بهذا الوجه من وجوه التّجديد أمام إمكانيّة قراءة القصّة من سطرها الأخير ارتدادا إلى بدايتها دون أن يطرأ على القارئ تشويش ولا غموض .
ولعلّ استفادة القصّ من فنون المسرح والسّينما في هذا الوجه من وجوه الجدّة واضح لا غبار عليه . 
يكفي الرّجوع إلى أقاصيص مثل : “أمومة مبكّرة” و”لقاء” و”معركة خاسرة” وقصص أخرى لنتبيّن وجه الجدّة أو التحوّل الذي أشرنا إليه .
على سبيل الخاتمة : 
في خاتمة هذه الورقة يجدر بنا أن نذكّر أنّ اشتغالنا على مجموعات قصصيّة تونسيّة صادرة بعد سنة ألفين قد أوقفنا على وجوه تحوّل وتجديد لئن كنّا لا ندّعي أنّنا وقفنا عليها جميعا ولا أنّها بدأت بالضرورة مع هذا التاريخ بالضبط فإنّنا نؤكّد تواترها بعده وظهورها بأكثر جلاء وقد رصدناها في الأغلفة والعناوين ودوران النصّ حول نفسه والهروب إلى القصّ ملاذا لبسط قضايا حضاريّة كبرى مجّها السياسيّون ولم يهتدوا فيها إلى حلول بما يعنيه هذا الهروب من توسّل بالقصّ علّه يكون أكثر تأثيرا من القوانين كما رصدناها في توظيف اللّغات وإدراج مقاطع بغير العربيّة وفي التفات النصّ القصصي إلى الدّفاع عن نفسه وعن أجناس أخرى ومنها الإطناب في الاشتغال على اليوميّ بتفاصيله المملّة ومنها تداخل الواقعي بالرّمزي والحقيقة بالحلم بما يجعل القارئ أمام إمكانات تلقّ وتأويل عديدة مختلفة ومنها اختيار بعض الأقاصيص الانطلاق من نهاياتها في نزوع إلى كسر بنية الأقصوصة العادية وانتظارات القارئ ومنها أنّ القِصص تجاوزت الانغلاق على نفسها وعلى الفردي والذّاتي لتنفتح على الهمّ المجتمعي والكوني فالزّمن فيها يتعدّى لحظة الحدث أو لحظة القصّ والمكان ليحيل إلى أمكنة أخرى ومدارات خرجت عن المألوف والممجوج . ذلك يعني أنّ الكاتب لم يعد منغلقا على نفسه يشكو حاله إلى القرّاء بل مستفزّا لقارئه داعيا إيّاه ليكون الكاتب الثّاني الذي ينهي بطريقته ما بدأه النص. 
ولا شكّ أنّنا لم نأت على كلّ مظاهر التحوّل ولكنّنا نأمل أن نكون قد اشرنا إلى أهمّها. 
يمكننا القول إنّ الأقصوصة بسعيها المستمرّ نحو التّجديد قد ضمنت لنفسها الاستمرار جنسا أدبيّا قادرا على منافسة الأجناس الأخرى إنشاء واهتماما كما ضمنت جمهور قرّاء ونقّاد ومتابعين .
إنّ وجوه التحوّل التي ذكرناها خرجت بالقصّة القصيرة التّونسية من مساحة حكي إلى مساحة رأي .

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *