الحبّ على مذبح الأغنية الدارجة

خاص- ثقافات

*محمد مراد أباظة

بغضِّ النَّظر عن أسلوب الـ(فيديو كليب) بلقطاته السريعة المتلاحقة التي تهدِّد المشاهد بالإصابة بالحَوَل والدوخة والغثيان، والذي بات (مؤسسة استهلاكية) مهمتها تشييء الجسد الإنساني (الأُنثويّ) بطريقة مجّانية، تلك الطريقة التي بترت صلة الفن بأبسط غاياته الحقيقية، فتجاوزت مقولة (الفن للفن) الذي كان مستَنكَراً، إلى حدٍّ ما فيما ما مضى، وأوغلت في دهاليز (الفن للربح والشهرة) بميكافيلية فظة؛ وربما أيضاً لتحقيق غايات أخرى تكمن وراء الأكمة!!.

وبغضِّ النّظر عن (طنطنات) تلك النماذج الغنائية المتناسخة بحيث يصعب على المستمع تمييز لحن أغنية من لحن أخرى، والمنَكَّهَة بألحان يونانية وتركية وهندية و… (ملطوشة)، وبغضِّ النَّظر أيضاً عن جحافل المغنّين والمغنّيات الذين لا علاقة لغالبيتهم صوتاً وأداءً بالغناء والطَّرَب، عدا علاقتها، ربما، بالمواء أو النقيق أو بما لا ندري من أصوات العجماوات الأخرى… والذين تُفقِّسهم شركات التفريخ الفنّية ومسابقات الفضائيّات العتيدة!!، بمعدَّل مغنٍّ ومغنّية في اليوم إن لم نقل في الساعة، وهو ما يجعلنا نحتاج إلى معجم موسوعيّ مصوَّر يتضمَّن أسماء هؤلاء وصورهم وصورهن كي نميِّز بين وجوههم ووجوههن (الممكيجة) وملامحهن المعدَّلة بالنفخ والشفط والشدّ والمطّ.. لماذا؟ كي لا نشعر بالحرج حين نُسأل أو نَسأل، لمجرد الفضول، عن اسم هذه المغنية أو ذلك المغني، في بعض الجلسات التي نُحشَر فيها بين من يتميزون بثقافة (فيديو كليبية) فنية عالية.

بغضِّ النَّظر عن ذلك كلِّه نقول: لا شكَّ في أنَّ الحياة بلا حبّ ستكون صحراء مقفرة جافة مظلمة مسدودة الآفاق، وأنَّ الحبّ من المشاعر الإنسانية النبيلة التي تسمو بالمخلوق البشري إلى مراتب روحية-نفسية ناصعة متألقة، لذا كان من البديهيّ أن تتناول القصائد والأغنيات والحكايات موضوع الحبّ، سواء أواقعية كانت أم أسطورية، منذ أقدم العصور.

غير أنَّ ما هو مستغرَب ومثير للتساؤل هو أن نصوص أغلب الأغنيات الدارجة، منذ سنوات، اختصرت واختزلت وحجَّمَت وقزَّمت، بل و(بهدلت) مفهوم الحبّ، وحنَّطته في تغزُّل المرأة بالرجل وتغزُّل الرجل بالمرأة، وفي ذكر كل منهما لجمال الآخر ووسامته ومحاسنه الجسدية… وكأن مشاعر المحبة والمودّة الأخرى بين بني البشر انتفت تماماً، فاغتصبت مادّيةُ الحسّ سموَّ الشعور الإنساني، واحتل الوله بالجسد وتفصيلاته مكانَ التعلُّق السامي بالروح، حتى وصل الأمر بأكثر كتّاب تلك النصوص إلى درجة الدعوة المكشوفة للـ(…..) على لسان بعض المغنيات والمغنين، ناهيك عن نصوص الأغاني التي تتغزّل كلماتها بالحيوانات (بحبك يا حمار) والخضار والفواكه.

لقد هُمّش دور الصوت بشكل شبه تام، ليحتلّ جمال الوجه وتضاريس الجسد واللفتات الناعسة والحركات المائسة و(……) والـ(لوك) ذلك الدور، وهنا نتساءل: هل كان مطربو ومطربات ما قبل عصر الفيديو كليب من الجمال والوسامة والمؤهلات الجسدية ما جعلهم يتربعون على عرش الغناء ويتوسدون قلوب المستمعين؟ هل كانت أم كلثوم وفايزة أحمد وسعاد محمد و.. و.. بارعات الجمال ممشوقات القدود ذوات نظرات ساحرة؟ وهل كانت تتوفر في محمد عبد المطلب وعبد العزيز محمود ومحمد قنديل وعبد الحليم حافظ وغيرهم الشروط الجسدية التي تؤهلهم لاعتلاء عرش الجماهيرية؟
وهنا نسأل: أليست ثمة مواضيع ذات مضامين أخرى، خارج نطاق الهوى والغرام والهيام والعشق والدله والوله و..و.. تستحقّ اهتمام كتّاب الأغنية ليتناولوها؟ ألا يمكن للإنسان أن يطرب إلا للأغاني التي تتغزّل بعينَي الحبيب وصوته وضحكته ومشيته وطوله وعرضه وسمرته وشقرته وما لا أدري…؟ ألا تستحقّ مثلاً علاقات الأخوة والصداقة وذكريات الطفولة الجميلة بعفويتها وشغبها البريء والطبيعة وجماليات الحياة الأخرى الراقية؟ ألا تستحق تجارب الحياة المؤثرة في النفس من كتاب النصوص لفتة ما؟ من منا، مثلاً، لا يستمتع ويطرب ويحلِّق بوجدانه وروحه مع الأغنية الرحبانية-الفيروزية؟ من الذي لا تحرِّك فيه تلك الأغنية مشاعره النبيلة وعواطفه السامية؟ (أنا وشادي- عم يلعبوا الولاد- تلج تلج- شمس الأطفال- دَرَج البيت- بيتك يا ستي الختيارة- عم تضوّي الشمس- أعطني الناي وغنِّ- وحدن- القمر بيضوّي عالناس- شَتّي يا دنيي شَتّي- أسامينا- شمس المساكين- و… و….).. حتى إن كلمتي (حب) و(حبيبي) في الأغنية الفيروزية، خلافاً لآلاف الأغاني الأخرى، تثير العواطف النبيلة نفسها. كمثال، هل النص التالي مجرد نص غنائي؟

(تعا تا نتخبّا
من درب الأعمار
إذا هنّي كبروا
نحن بقينا زغار
و -انْ- سألوا وين كنتوا
وليش ما كبرتو انتو
منقولّن نسينا
واللي نادى الناس
تا يكبروا الناس
راح ونسي ينادينا).
فأين أنتم يا كتّاب النصوص الغنائية؟

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *