*د.خزعل الماجدي
لن نبالغ إذا قلنا إن الفلسفة الطاوية (أو التاوية) هي أول فلسفة وضعها فيلسوف في تاريخ العالم كله، فهي لم تكن ديناً في بداية نشأتها، بل حكمةً وفلسفةً واقعية لا مبالغات فيها ولا غل، ولا آلهة ولا تهويمات ميتافيزيقية. وهي تتجدد على مر الأيام، ويزدهي بريقها وجمالها البسيط الأخاذ، يعود لها فلاسفة الغرب والشرق ويعتبرونها ينبوع البشرية الأول في الحكمة العميقة.
لاوتسي Laozi, Lao- tzu (604- 531) ق. م، مؤسس أول فلسفة صينية، ويعتقد أن اسمه هو عبارة عن لقب معناه (السيد المحترم)، أو (السيد القديم). وهو ما دفع إلى الاعتقاد بأنه قد يكون شخصية غير واقعية جمعت فيها شخصيات فلسفية متعددة، وأن كتابه «الطريق إلى الفضيلة» هو أفكار لمجموعة من الفلاسفة.
لم يعتمد لاو تسي على الفكرة المعروفة في نشوء الكون والوجود، التي تدور حول إله خالق، بل قدّم فكرة جديدة وهي فكرة (الطاو أو التاو tao)، وهو بمثابة اللوغوس الذي اعتبره مصدر الموجودات في العالم، وهو القانون والنظام غير المرئي أو المحسوس، لكنه الموجود قبل نشوء العالم، لا يوصف، ولا يحده زمان أو مكان، وهو أقدم من الإله وهو الطاقة والنظام. وقد ظهرت منه ثلاثة موجودات على التوالي، ومن آخرها ظهر اللوغوس المكون من اليان واليانغ (السالب والموجب)، وهما يشكلان قطبي الجدل الفطري، ومنهما نشأت الأشياء وظهر العالم.
كانت هناك النظرية النسبية الأولى التي تنشأ من التحولات المتبادلة بين الأضداد، حيث أشار لاوتسي إلى أن الأشياء قد تتحول إلى نقيضها، وهذا يحدث دون قيد، وهو يعني أن الأشياء نسبية وليست مطلقة. هذه الفكرة النسبية سيطورها، لاحقاً، الفيلسوف تشوانغ تسي.
وهناك حركة التاو الدائرية: حيث الأشياء تعود إلى أصلها (تاو)، بعد أن تبلغ غايتها، ولم يؤمن لاوتسي بحركة الأشياء إلى الأمام إيجابياً. لقد رأى أن الأشياء تبدأ بسيطة، وأن (رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة)، ثم تصل إلى ذروتها في حالة من الاعتدال، ويرى أن بعد الاعتدال تبدأ بالتحول إلى نقيضها، ولذلك يجب الحيلولة دون ذلك بتوقيفها في طور الاعتدال قدر المستطاع وجني ثمراتها.
وهو يضرب على ذلك مثلاً في جدلية الموت والحياة، إذ يرى أن القوة والصلابة مصاحبان للموت، بينما الضعف واللين مصاحبان للحياة، والحفاظ على حالة اللين والوهن هي وسيلة لتجنب الموت والتغلب على القوى.
استغل السياسيون والحكام هذه الفكرة، بطريقة مجحفة، عندما رأوا أن على الشعب أن يترك الأمور كما هي، أو يدعها تتقدم، ولا يجوز التدخل القسري لأن هذا سيؤدي إلى النقيض والذهاب نحو الموت.
كانت التاوية هي الفلسفة الأولى في الصين وهي كفلسفة تسمى (تاوجيا)، نشأت مع أسرة تشو الشرقية، لكنها تحولت لاحقاً بعد 500 سنة إلى ديانة مع أسرة (تشو الغربية) بسبب استعمالها لمواجهة الكونفوشية كديانة طقسية والبوذية كديانة وافدة معبدية. وسميت الديانة التاوية (تاوجياو) وبقيت الفلسفة التاوية (تاوجيا) متزامنة، إلى يومنا هذا، مع الديانة التاوية (تاو جياو) وما يهمنا هنا هو الفلسفة التاوية.
مكونات الفلسفة التاوية
لكي نحول الكلام الذي ورد في الكتاب الأساسي للتاويّة (الطريق إلى الفضيلة) من صيغه الشعرية المشحونة بالحكمة إلى سياقات فلسفية، لا بد أن نلجأ إلى إعادة هيكلة له وفق النظام التقليدي للفلسفة الكلاسيكية، من أجل فرز مقولاته المتجانسة في كل حقل.
1. الكوسمولوجيا (علم الكون): الداو أو التاو كان في البداية (وو يي wuiji) وهو الموجود الذي سبق أي شيء، وكان في حالة غير مميزة وفي سكون.
حين تحرك الساكن كان هناك فيض تلقائي عفوي أنتج الموجود الأول، الذي أنتج الثاني والثالث بحركة الفيض العفوية هذه. الموجود الثالث أنتج المادة وجدلها.
المادة الأولى هي العناصر الخمسة (الماء، النار، الخشب، المعدن، التراب) وتسمى (ووشنج UXUXING). الجدل الأول هو (ين) أي السكون و(يانغ) أي الحركة وتسمى شيانغ Xiang، وينتج عن المادة وجدلها النماذج الأولى، وهي التكوين الثماني الذي ينتج عنه نموذج الأربعة وستين (مذكور في كتاب التغيرات).
تعمل كل هذه في التنفس الأول مكون (يوانجي Yuangi) الصادر عن الداو Dao، أي عملية التكوين التاوي. وبذلك يظهر الكون وتظهر الأرض والسماء، وفي السماء تظهر النجوم والكواكب، وعلى الأرض تظهر الأرقام والأجساد والنبات والحيوان والإنسان والموسيقا، وتترابط مكونات السماء مع الأرض، فعلى سبيل المثال يرتبط الشرق والربيع، والرقم 3 مع الرقم 8 واللون الأخضر (أو الأزرق) مع المشتري والكبد ونوتة جياو الموسيقية.
الجدل، رغم عناصره المتضادة، لكنه يحفظ وحدة الأضداد، وينتج كل هذه الأشياء والموجودات في تناغم وانسجام وارتباط.
تسمى الكوزمولوجيا التاوية بالكوزمولوجيا المترابطة، التي أخذت شكل النظام الشامل بين الموجودات والظواهر التي تحدث، ويحصل هذا وفقاً لمبدأ (الحافز والاستجابة)، وقد أخذ شكله الناصع هذا في نزعته شبه العلمية قبل أن تتحول التاوية إلى ديانة فتدخل فيها الآلهة وغيرها، حصل هذا في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد نتيجة لجهود الفلاسفة التاويين، وقبل أن تذهب التاوية في مجالات عملية وطقسية. الكون المترابط يوضح سير العمل في هذا الكون ويرسم طريقاً دائرياً، فالتاو عن طريق الداو تتخلق فيه الأشياء بواسطة التدفق العفوي، ثم تعود الأشياء إلى التاو عن طريق ما يسمى بـ(فانداو Fandao) إلى العودة إلى التاو. وهذا يمثل دورة الكون من التكوين إلى الفساد والعود إلى الأصل (تاو).
2. الأنطولوجيا (علم الوجود):
علم الوجود التاوي يتضمن قسمين هما الطبيعة وما وراء الطبيعة.
– الطبيعة (فيزيقيا): العالم هو شبكة العمليات المترابطة المتغيرة باستمرار والتي تحفل، دائماً، بظهور الأشياء من بعضها، والناس من بعضهم. الإنسان ليس منفصلاً عن هذا الوجود فهو جزء منه ومن حركته وقوانينه، وهو يملك القدرة على المبادرة والتجديد والإبداع والحرية في كل لحظة، وهناك تدفق مستمر يبدأ من الماضي ويستمر في الحاضر ويسعى لخلق الانسجام دائماً. لا الذاتية ولا الفردية الأنانية تعمل على صنع كل هذا، بل هناك توافق مع ما هو موضوعي. ونجاح الإنسان يكمن في الاحترام والتواضع. كانت التاوية مع الطبيعة ومع نموها التلقائي العفوي وتدفقها غير المحدود، وكانت تسمي ذلك بالتوازن والانسجام والتناغم، وكان لاوتسي يقول أن لا بد من ترك الطبيعة تأخذ مجراها الخاص، كل ما فيها مترابط مع بعضه، النباتات مترابطة مع المناخ والحيوانات مع النباتات، والمناخ والإنسان مع هذه مجتمعة، والكل يعيش مع الكل ويرتبط به.
– ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقيا): لم تحفل الفلسفة التاوية بوضع هيكل ميتافيزيقي ثيولوجي، بل وضعت نموذجاً متيافيزيقياً عقلانياً، وما حصل لاحقاً في تاريخها، حين تحولت من فلسفة إلى ديانة، هو الذي جعلها تتحدث عن إله أو آلهة وعن المعلمين السماويين.
كانت الفلسفة التاوية إذن فيزيائية (طبيعية) تمجد الطبيعة، وحين أصبحت ديناً أصبحت ميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) تبحث عن مكونات الغيب من آلهة وغير ذلك، وهو من وجهة نظرنا انحراف واضح جاء بسبب توغل الكونفوشيوسية في الجانب الديني وبسبب دخول البوذية إلى الصين ومنافستها للأديان والفلسفات الصينية الأصل، فقد تحولت التاوية إلى دين لتُرضي شهوة الناس ورغباتهم في تمثل الشكل الديني للمعتقد، وليس الشكل الفلسفي، ولذلك كان لا بد من آلهة وأساطير وطقوس ومعابد تاوية، وهي أبعد ما تكون عن التاوية وجوهرها.
3. الأبستمولوجيا (علم المعرفة):
في أطروحة الدكتوراه التي قدمها تيرنس بالمر (الخوف بوصفه مصدراً للمعاناة- وعلاج جديد) يقدم الباحث النموذج الأبستمولوجي للتاوية، هذا النموذج يظهر بوضوح بحثه عن الحقيقة والأكاذيب.
التاو يصنع الواحد ثم الواحد، يصنع الاثنين ثم الاثنين، يصنع الثلاثة، والثلاثة تصنع كل شيء. وهذا يعني أن كل شيء يُصنع من مصدر واحد هو (تاو)، وأن العلاقة بين الضدين هي المحرك الجدلي الأصلي، الذي يخلق مركباً من اثنين، وداخل كل عنصر جدلية تفرض وجوده ونقضه. ومن الضروري تدفق العناصر المتضادة في بعضها منعاً من فنائها.
أما ما يتعلق بموضوع (الخوف)، وهو أساس البحث، فالتاوية تضع ثلاثة أبعاد أو مجالات للخوف هي (الوعي، اللاوعي، الروحي)، فإذا كان لكل من هذه معاكسه، فإن الخوف في المجال المادي هو زناد الاشتعال أو رد الفعل على تهديد العالم المادي، والقلق في النفس هو سبب المعاناة النفسية والعاطفية في أشكال لا تعد ولا تحصى، بدءاً من نوبات الهلع والذهان. وكذلك في المجال الروحي الخوف هو عكس الحب الإلهي.
قد يكون من الحكمة، عندما تحاول كشف ديناميكية الحياة اليومية، النظر في الفرضية القائلة بأن هناك علاقة بين جميع المجالات التي تساهم في أشكال لا تعد ولا تحصى من التجرة الإنسانية (الثلاثة خلقت كل شيء).
لا خوف في الحب، ولكن الحب يطرح الخوف خارجاً، لأن الخوف هو العذاب، والحب يخشى أن لا يكتمل بوجوده.
4. الأكسولوجيا (علم القيم): ويشمل (الأخلاق، الجمال): الأخلاق التاوية: تتكون من مجموعة مبادئ أساسية هي (نكران الذات، الاعتدال، احتضان الغموض، عدم الاختراع، الانفصال، التواضع).
أ.نكران الذات Sellflessness:
تعتقد الطاوية بضرورة إعادة تعريف (الذات) أو (الأنا)، وترى أن الوقوف خارج الذات ومراقبتها هو مصدر معظم شعورنا بالتعاسة والوحدة، هدف التاوية ليس طمس الأنا لأن ذلك، ببساطة، أمر مستحيل، ولذلك لا بد من النظر إلى الذات كجزء من الكل داخل التاو وليس كجزء منفصل. عزل الذات وحدها يزيد الأنانية، والنظر إليها كجزء من الكل يؤدي إلى نكران الذات وقمع الأنانية.
ب. الاعتدال Moderation:
تكمن الحرية في الاعتراف بالقيود أولاً، ولا وجود لحرية قصوى لأن هذا وهم كبير، لا بد من الاعتراف بوجود مساحة خاصة بك لا يمكن تجاوزها كثيراً، ولذلك من الضروري جداً الاعتدال في كل شيء لكي تعيش سعيداً. عندما تتقدم تراجع قليلاً إلى الوراء. هذا هو الاعتدال.
ت. احتضان الغموض Embracing the Mystery:
الخوف ضروري لأننا من خلاله نبقى بعيدين عن الأخطار، والخوف يأتي، أيضاً، من عدم معرفتنا بالعالم وبما حولنا، وهذا أمر واقعي طبيعي. ولذلك لا بد من التعامل مع الخوف على أنه أمر واقعي مهم لنا، لا بد من احتضان الغموض الذي يحيط بنا، والتعامل معه على أنه جزء من ذاتنا الغامضة أيضاً. التاو يحتضن الغموض والخوف ونحن جزءٌ من التاو، ولذلك لا بد من احتضان الغموض والخوف والتمتع بومض الإشراق القليل الذي يظهر، بين الحين والآخر، من كل هذا الغموض.
ث. اللا إختراع Non- Contrivance:
يحذر التاو من الأخلاق المفتعلة والتلاعب بالوعي لأن الطبيعة تتحرك بتلقائية وعفوية وديناميكية، والأخلاق المفتعلة ستكون قاسية وضدها ومن أجل السيطرة، والإنسان لا يحتاج إلى السيطرة على الطبيعة أو السماح للآخرين بالسيطرة عليها. ولذلك يجب الكف عن اختراع كل ما يجعلنا نسيطر على عفوية الطبيعة وتدفقها الطبيعي، وكذلك الكف عن اختراع كل ما يجعلنا نسيطر على الآخرين، لأن في هذا وقوفاً ضد القانون الشامل للتاو.
ح. الانفصال Detachment:
كل شيء له قطبان، ولكي تملك أحدهما لا بد أن تتخلى عن الآخر، التأكيد الدائم لقطب واحد سيؤدي، يوماً، إلى الانقلاب ضده. ولذلك لا بد من الانفصال عن هذه الحتمية الحادة، لا بد من عدم التطرف المطلق لأحد القطبين وجعل الاعتدال وسيلة ذلك. يمكنك التعامل بإيجابية مع الحياة، ولكنك يجب أن تكون مستعداً للموت لأن ذلك سيجلب لك السعادة.
خ. التواضع Humility: يجب القيام بعملك من دون انتظار نتائج حاسمة، لا توجد نتائج حاسمة أساساً فكل شيء يتدفق ويتغير. ولذلك لا بد من التواضع لكي تكون الأمور أفضل.
5. الإنسانيات Humanities: وهي نظرة التاوية إلى مختلف أوجه الفكر الإنساني في السياسة والاقتصاد والمجتمع والنفس، وغير ذلك من المعالجات الإنسانية في الفلسفة التاوية.
ففي السياسة تعتبر التاوية ممارسة سلمية، لكنها ممارسة وقفت بوجه الحكومات الصينية التي أجحفت بحقوق الناس والمجتمع، ولكنها لا تفضل تغيير الأوضاع السياسية بالقوة. وتفضل تجنب الفرد التدخل في شؤون الدولة التي رأى أنها شريرة في الغالب.
أما الاجتماع التاوي فهو رؤية طوباوية للمجتمع قائمة على أساس وجود حاكم حكيم ونبيل له شخصية معنوية (دي) مستوحاة من السلوك الأخلاقي في المجتمع والبلاد، وتكون الدولة فيه مثالية وصغيرة وقليلة السكان، ولا بد من تجنب التقدم التكنولوجي المتسارع وتفضيل العيش البسيط عليه. وقد احتفظت التاوية، على مدى تاريخها، برؤية طوباوية للمجتمع المنظم والمتناغم ولا بد من احترام الذاتية الفردية، واعتماد الزراعة كوسيلة أساسية للحفاظ على طبيعة المجتمع وحياته، ولا بد من الحفاظ على علاقة سليمة مع الطبيعة بدءاً من جسد الإنسان ثم منزله ومحيطه، ولذلك كانت مبادئ الطاوية خير نصير للبيئة فهي تؤكد أن البشر مخلوقات طبيعية ولا بد لهم من أن يعيشوا في وئام وتوازن مع الطبيعة، وهي ضد التنمية المتسارعة القسرية التي تؤدي إلى خلل في العلاقة مع الطبيعة والتي قد ينتج عنها كوارث بيئية.
يقودنا هذا إلى الفكر الاقتصادي للتاوية، فهي ترى أن الزراعة خير مصدر للاقتصاد وأن التوازن الاقتصادي يقوم على أساس الاكتفاء وليس الإفراط.
مراقبة الذات.. تعاسة
تعتقد الطاوية بضرورة إعادة تعريف (الذات) أو (الأنا)، وترى أن الوقوف خارج الذات ومراقبتها هو مصدر معظم شعورنا بالتعاسة والوحدة، هدف التاوية ليس طمس الأنا لأن ذلك، ببساطة، أمر مستحيل، ولذلك لا بد من النظر إلى الذات كجزء من الكل داخل التاو وليس كجزء منفصل. عزل الذات لوحدها يزيد الأنانية، والنظر إليها كجزء من الكل يؤدي إلى نكران الذات وقمع الأنانية.
__________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
مائدة*بالين باتو/ ترجمة: محمّد زيدانمن قطارات خربة في ديار خراب تنتهي الحرب. الطاولات معدّة والبحيرات ساكنة بالخيال تحمل…