قراءة جديدة للأدب القديم

خاص- ثقافات

*ليث سعيد الرواجفة

من يطلع على الدراسات النقدية التي قدمها ثلة من نقادنا القدماء للأدب المعاصر بالنسبة لهم -من خلال كتب التراث العربي التي وصلت إلينا- يمكن أن يلمس النزعة الذوقية السطحية وعدم المنهجية في قراءة النصوص الإبداعية والتعامل معها؛ فكان تركيزهم ينصب على عدة محاور أبرزها:

– المحسنات البديعية.

– مراقبة النصوص نحوياً وصرفياً.

– التوضيح المعجمي لمعاني الكلمات والتعليق عليها.

– مناقشة مجموعة قضايا فرعية مثل قضية (اللفظ والمعنى) أو الشكل والمضمون، وقضية (السرقات الشعرية)، وبعض الخصومات النقدية المتمثلة بمَنْ أشعر، ومَنْ أفصح ومَنْ أبلغ…؟

 ففي تلك الحقبة لم يخرج المبدع من نصه، وكان هَمّ الناقد معرفة قصد الشاعر والوصول إليه (على اعتبار أن الشعر هو الفن الذي كان مهيمن خلال تلك الفترة)، وليس ما في نفسه، وكان السؤال الذي يدور في خلده هو (ماذا قال الشاعر)؟ ولم يبحث في (لماذا قال ذلك)؟

       من باب الصدفة وقع بين يديّ شرح أبي علاء المعري لديوان المتنبي، ولاحظت أنه وضع أسفل كل بيت يشرحه (يقول الشاعر)، وكان يعلق على بعض الأمور النحوية والبلاغية مثل حسن التشبيه، وهذا حشو، وهذا زيادة…الخ، ومن الناحية المعجمية، كان يتعامل مع المفردات في ضوء ما يسمى الآن (علم اللغة الاجتماعي)؛ أي المفردة واستخداماتها، وأشهر الروايات التي قيلت فيها وهكذا.

       بعد ذلك تطورت الأحكام النقدية، ولم تكن اعتباطية عشوائية، بل قيّدوا أنفسهم والنصوص التي يدرسونها بضوابط ينطلقون منها، وأبرز هذه الضوابط عمود الشعر، ومن ثّم تعامل الناقد القديم مع القصيدة على مبدأ الوحدة العضوية/ الموضوعية؛ فكان يشرح البيت على ضوء البيت السابق، والمعنى لديه مرتبطاً بمعنى سابق له.

ليث-سعيد-الرواجفة

القراءة الجديدة

عندما نحترم النص الأدبي كنقاد، سنقدم شيئاً محترماً للقارئ، والنص مثل الكائن الحي كما قال أصحاب نظرية (الخلق)، وبناءً على ذلك فإن الأديب عندما  يكتب لا يكتب من فراغ؛ وإنما النص يُخلق في ذاته أولاً قبل خروجه، مثل الجنين الذي ينمو في رحم أمه، وعند اكتمال بنيته يخرج بالولادة.

وعند امساك النص يجب معرفة (الرؤية) التي تكون مثل “النقطة في الثوب وتنتشر في جميع أجزاء الثوب” (1)؛ فالنص تجليات لشيء موجود في داخل الشاعر، ويمكن الوصول لذلك من خلال عمق المنهجية النقدية وجرأتها في سبر أغوار النصوص، وعدم التسليم بما أنجزه النقاد القدماء، بالإضافة لمطالعة النص من زواياه المظلمة.

فلم تعد القصيدة، في ضوء النقد الحديث، عملاً بسيط التكوين، “بل هي نسيج محكم، تشكله وتغذيه جملة من العناصر”(2) سواء كانت خارجية/شكلية، أم داخلية/عميقة؛ لذلك تطورت الآليات والأدوات النقدية التي يجب علينا استثمارها في دراسة أدبنا العربي القديم.

ولنا في أدونيس وتجربته النقدية أسوة حسنة حين قال: “إنني لم أتعرف على الحداثة الشعرية العربية، من داخل النظام الثقافي العربي السائد… فقراءة (بودلير) هي التي غيرت معرفتي بأبي نواس، وكشفت لي عن شعريته وحداثته، وقراءة (مالارميه) هي التي أوضحت لي أسرار اللغة الشعرية وأبعادها الحديثة عند أبي تمام، وقراءة (رامبو) و(نرفال) و(بريتون) هي التي قادتني الى اكتشاف التجربة الصوفية-بفرادتها وبهائها، وقراءة النقد الفرنسي الحديث هي التي دلتني على حداثة النظر النقدي عند الجرجاني“(3).

وعليه فإن النقد العربي القديم كان أغلبه يعتمد على ذوق الناقد، وكان سطحياً في كثير الأحيان، يُحصي الظواهر الموجودة ويعلق عليها بالحسن والقبح، وكأن الشاعر لديه بضاعة يعرضها وينتظر من يشتريها، متجاهلاً عمق النص ودلالته، وعاطفة الشاعر وإبداعاته الذهنية والخيالية في خلق الصور والتعبيرات الملائمة.

وعند الممارسة العملية للنقد القديم ومقارنته بنظيره الحديث يمكن أن نلمس مدى الاختلاف بينهما، وتفوق الحديث وأدواته التي تمكن الناقد من الدخول الى أعماق النص وقراءته عن قرب، ومشاهدة عالم الشاعر وحالته النفسية، وإنصافه بوسائل علمية دقيقة، مركزاً على مواطن الإبداع والتميز والفرادة الأدبية، مشيراً ومصححاً السقطات والأخطاء التي وقع بها.

يجب أن نُعيد دراسة الأدب القديم في ضوء مناهج نقد حداثية وما بعد حداثية، حتى نتمكن من اقتناص (صفة الروح) كما قال العلاق، وعدم الاستماع للأصوات التي تعد الأدب القديم قد استوفى حقه من البحث والدراسة، فكم هي النتائج الهائلة التي سنخرج بها بعد إعادة النظر في تراثنا وفق منهجية موضوعية تنصفه وتعطيه حقه؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- – د. ناصر شبانة، ندوة قراءة جديدة في الأدب القديم، الجامعة الهاشمية، 2015م، الساعة 3:45

2- الشعر والتلقي، علي جعفر العلاق، دار الشروق، ط1، 1997،                ص131

3- الشعرية العربية، أدونيس، بيروت، 1985م، ص86
___
* كاتب أردني

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *