مَا بوسع المثقفين أن يفعلوا؟

*د. حسن مدن

هل بوسع المثقفين في العالم كله أن يفعلوا شيئاً ما لتغيير مجرى الأحداث؟ أو لتوجيهها في الوجهة التي يرون أنها الوجهة الأسلم أو الأصح.
سعيت لتقصي الإجابة من على أفواه عدد من كبار مبدعي ومثقفي زمننا. وهي إجابات تتفاوت من شخص لآخر، لكنها في نهاية المطاف تقدم لنا بانوراما من الرؤى في الإجابة على هذا السؤال الحساس. فالمسرحي التشيكي، رئيس جمهورية التشيك السابق فاتسلاف هافل يرى أن المثقفين بالنظر إلى طبيعتهم الخاصة لا يملكون قوة محددة. هم لا يقدرون على تغيير العالم مثلما يفعل السياسيون. يتمثل حضورهم ويأخذ علامته بما يقولونه، وهو الفعل من خلال الكلمات. سبق لهافل أن كتب مقالة بعنوان: «قوة الضعيف» حاول فيها أن يفسر كيف أن الكلمة الصادقة، حتى وإن نطق بها شخص واحد، أكثر قوة في بعض الظروف من فرقة جنود كاملة. فالكلمة تبهر، وتوقظ وتحرر.
امبرتو إيكو يرد على سؤال مفاده التالي: لماذا يطلب من المفكرين وعلى نحو مضطرد أن يكشفوا الدرب للناس؟، بالقول إنه لا يتعين النظر إلى المفكرين بصفته حكماء، وإنما كقدرات حيث يتم من خلالها إيصال مناقشات القيم إلى الآخرين، هذه هي وظيفة الشعراء والمفكرين والفلاسفة: أن يتنبهوا إلى ما يحدث وأن يلفتوا النظر إليه ليتمكن الآخرون، بدورهم، من التفكير فيه. إن هذا الدور الذي اخترناه للمفكرين أقرب لأن يكون وظيفة بدونها لا يستطيع الكيان السياسي أن يعمل.
الروائي الأسباني كاميلو خوسيه ثيلا الذي حاز على «نوبل» للآداب عام 1989، يرى أن الأدب، بالنسبة له، ضرورة، فإذا ما أراد أن يقيم اتصالاً مع ذاته ومع الآخرين من البشر فينبغي أن يتم ذلك من خلال الكلمات، ففي تاريخ الإنسانية فإن اللحظة التي نطق بها أول إنسان الكلمة الأولى لهي لحظة أكثر أهمية من اكتشاف أمريكا أو الهبوط على القمر أو ابتكار علوم الكيمياء أو نظريات الذرة. ولكنه مع ذلك لا يرى أن الغاية من الأدب تصحيح العالم. الكتاب لا يستطيعون أن يقوموا بذلك، خاصة إذا تذكرنا بأن الأدب هو واحد من الفنون الجميلة، والغاية منه استخراج الفن من الكلمات.
أما الطاهر بن جلون فهو يرى أنه لكي يهيئ المثقفون الأرض لعملية التقدم فعليهم أن يعودوا الناس على وجود الشك والنقد وعدم الموافقة، وتمجيد الجرأة المنغمسة بالمعارضة، والإصرار على الحق في القول لا، حتى لو أدى ذلك بالمثقف أن يكون وحيداً، خارج القطيع، وبإمكان المثقفين قول كل هذا بطريقتهم الخاصة وصمن تخصصهم، عليهم أن يجابهوا الأفكار البالية من خلال الأفكار الجديدة.
في نهاية المطاف فإن هذه الآراء المختلفة، وإن كان أصحابها يجمعون أنه ليس بوسع الأديب أو الفنان أو المفكر أن يجترح المعجزات في سبيل تغيير العالم، فإنها ترى أن بوسعهم تشكيل ما يمكن أن نعده الضمير اليقظ الذي يملك صاحبه بصيرة إدراك ما يدور حوله، واستشراف ما يمكن للمستقبل أن يخبئه من مفاجآت. إن حدس الفنان المبدع يمكن أن يفوق في بعض الحالات حدس السياسي، لذا يتعين الإصغاء إلى هذا الحدس دائماً، لأن أي مشروع لا يقف خلفه أو معه مبدعون مآله الخراب.
هل من الأجدى أن يحتكم الأمر إلى فكرة أو نظرة محورية واحدة، عبرها يرى الظواهر الأخرى، وأن يرى أن هناك ناظماً للأشياء والظواهر، أم أنه ينظر إليها فرادى، جزئيات مبعثرة مختلفة. حتى تفسير التاريخ نفسه عانى من هذا اللبس، ومثله السلوك العام للبشر، وفي هذا السياق يمكن صوغ أسئلة عدة عمن كان على حق: كارل ماركس مثلاً في اعتماده التفسير الاقتصادي لتطور مجتمعات وسلوك الأفراد، أو فرويد في اعتماده على التحليل النفسي منهجاً لفهم النسق العام للسلوك البشري؟ ويمكن سوق أمثلة أخرى عن مزاعم صراع الحضارات والأديان والثقافات وهلم جراً.
أيهما أجدى للمرء: أن تكون بصيرته مفتوحة على الظواهر المختلفة، وهو يسعى لتأويلها مستعيناً بأكثر من منهج وأكثر من رؤية، فيرى الاقتصادي والثقافي والنفسي وسواه في الظاهرة الواحدة، أم يقصر ميدان بحثه ورؤيته على عاملٍ دون سواه؟ أمن الأجدى أن يتمترس المرء وراء رؤية فلسفية بعينها يخضع شتى الظواهر لها محاولاً، طوعاً أو قسراً، تأويلها عبر هذه الرؤية، أم أنه يوسع زاوية نظره فيرى تعدد الأبعاد في الظاهرة الواحدة، فيقاربها من الزوايا المختلفة كي يستوي في نهاية المطاف إلى خلاصة أقرب إلى الحقيقة من سواها.
ثم: ألا يؤدي ذلك إلى نوع من التوفيق الذي يبلغ حد التلفيق بين نقائض مختلفة، متعددة، متناقضة، ولو تأملنا في الكثير من الأطروحات التي تجد لها سوقاً رائجة من حوالينا لوجدنا فيها نماذج لا تحصى على هذا التلفيق، الذي لا يمكن أن ينتج معرفة جديدة، أو يولد مفاهيم خلاقة. والمعرفة بمقدار ما هي تواصل واستمرارية، فإنها كذلك تتطلب الجرأة على القطيعة مع مفاهيم بلت، حتى لو كان لها من سطوة الحضور ما يتطلب المقارعة الجسورة، حتى تشق المعرفة الجديدة لنفسها درباً للأمام.
نحن الآن في عصر يجري التبشير فيه بسقوط الفلسفات الكبرى، النظريات الكبرى والمشاريع الكبرى التي كانت تزعم لنفسها امتياز الإحاطة بكل شيء، وتفسير كل شيء وتعليله، ويؤدي تفرغ العلوم والمعارف والاختصاصات وتشظيها إلى شظايا صغيرة، دقيقة، متخصصة، إلى إنعاش الرأي القائل إنه لم يعد بوسع شيء واحد كبير بأن يحيط بكل شيء.
ولكن معرفة أشياء كثيرة، وإن كانت مكسباً للمرء، فإنها أشبه بحبات السبحة التي انفرط عقدها فتناثرت على الأرض كل حبة في جهة، إن لم يجمعها خيط واحد تلتئم فيه.
بعض دعوات ما بعد الحداثة، خاصة على لسان منظرها الأكبر فرانسوا ليوتار روجت لما تدعوه نهاية السرديات الكبرى، خاصة منها تلك ذات التوجه اليساري: الثورة والتحرير والعدالة الاجتماعية، بل وحتى قيم التنوير وتمجيد العقل، فيما ذهب هربرت ماركوز ومجايلوه من رموز مدرسة فرانكفورت الفارين من بطش النازية إلى أمريكا، الذين عنوا بتحليل آليات نمط الحياة الاستهلاكي الذي أشاعته الرأسمالية في مرحلة نضوجها، عبر تعميم ما يصفه ب «السرديات الصغرى»، التي تغرق الناس في أوهام المجتمع الاستهلاكي وتستوعب طاقات الاحتجاج لديهم، وهي السرديات التي يعلن المؤلف نهايتها مفنداً الاعتقاد انها صادرت كل كوة محتملة للأمل، وسدت كل أفق بوجه التغيير.
تحتاج مجتمعاتنا في ضوء المستجدات الكثيرة في العالم وفي المنطقة، إلى نموذج المثقف الأقرب إلى مفهوم المثقف العضوي الذي صاغه غرامشي، ومثل هذا النوع من المثقف يجب أن يتوافر على شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وروحه النقدية أو حاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه نزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي، وهذه الصفات هي ذاتها تلك السائدة عن صورة المثقف في العصر الحديث.
بهذا المعنى فإن المثقف لا يمكن أن يكون جديراً بهذا الاسم إذا كان فاقداً الرؤية الخاصة للحياة التي تميزه عن الحرفي أو المهني أو التقني، فليس كافياً أن يكون الإنسان مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حكماً على أحداث مجتمعه.
وفي عبارات أخرى على المثقف أن يكون قادراً بفكره على منازلة الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه إلى بث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرّحة لمريضه.
وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه الوعي الجديد الذي لا يهادن إزاء الظواهر المعيقة للنهضة والتقدم، والمؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي إلى مواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في المرحلة الراهنة والمرحلة المقبلة.
يعيب الفعلَ الثقافي الجديد في المنطقة تشتته، وبالتالي عجزه عن أن يشكل حالة عامة مؤثرة، نظراً لانعدام التواصل الأقرب إلى القطيعة وهيمنة الأشكال البيروقراطية من التواصل التي غالباً ما تكون بعيدة عن النبض الثقافي الحقيقي في هذه المجتمعات، والذي يجد تعبيراته في ظواهر أو بؤر ثقافية صغيرة لم تنل بعد ما هي جديرة به من اهتمام وعناية.
وتتداخل هذه الظواهر الثقافية، أو يجب أن تتداخل مع أسئلة الثقافة العربية في الظروف الراهنة، في ضوء القضايا التي طرحتها التطورات الأخيرة، وهي مرحلة مخاضٍ صعب وعسير ليس من الواضح، بعد، عمّا سيسفر، حين يجد المثقف العضوي نفسه معنياً بكل هذا الصخب الدائر حوله عربياً.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *