فتاتة

خاص- ثقافات

*مريم لحلو

– نعم مازلت” فْتاتة”..  تقولها بمرح لا يشبه تشنجها القديم. ثم تضيف:
– ذلك هو قدري ،قدر تعودت عليه أوحاولت… لقد  حملت جسدي هذا الضئيل المثلوم كل هذه السنين دون راحة مثل مرض مزمن لا يرجى شفاءه … هل تقدرين معنى أن أحمله  طيلة هذه السنين ؟لا أظن أنك تقدرين  ولا غيرك يقدر،هي للأسف مسألة شخصية جدا. لتخفي نبرة الأسى تضحك عاليا ضحكة أكبر من جسدها الذي بدأ بالارتعاش كأنه يتهيأ للطيران. وقد أحسست للحظة أنها ستطير بينما كانت تتابع كلامها في بهجة مؤنبة :
– صدقا ما أبرعكم !!!إنه لقب على قياسي تماما،وصف دقيق لي ..فأنا فعلا فْتاتة …فْتِيْتة من كل شيء… شيء من أنف ،شيء من وجنتين،شيء من صدر…  كمشة عظام مع قليل جدا من اللحم ومنزوعة الدسم …
قلت في محاولة بئيسة لتصحيح ما مضى:
– ولأنك فتاتة كنت صلبة جدا،صلابة كنا نحسدك عليها أو  نغبطك عليها ( أتذكرين كيف افْتُتِنّا بهذه الألفاظ الجديدة كأي موضة مبهرة في بدايتها؟؟ ) أتابع معتذرة عن هذا الاستطراد الذي كان سيأخذنا إلى متاهات بعيدة عن صلب حديثنا :
-لقد كنت صغيرة جدا وفي نفس الوقت صلبة جدا مثل قطعة فولاذ صغيرة تأبى الانقسام أوالانشطار…
تضيف هي:
– نعم كنت صلبة وكنتم واثقين من أنفسكم ومن كمالكم على نحو بليد جارح.. عكس ذلك الشاب الضخم الغريب. تذكرينه؟ أقاطعها:
– نعم نعم .. ذاك الذي كنا نلقبه بكثير من التأدب بـ “الحجم الكبير” في إشارة إلى تلك الدفاتر الكبيرة السمينة ذات الأغلفة المتلاشية ..
تكمل  حديثي ضاحكة (كما كنا دائما إبان صداقتنا القديمة العصية على الفهم والمفتوحة الجراح ) :
– ولم أنتبه إلى أنكم شبهتموني بدفتر “طناش لورقة” ولكنني كنت أعذركم ، طالما عذرتكم .. فهو وأنا فعلا كنا نثير التعجب ونحن معا، ضدان حميمان ذائبان في بعضهما البعض…أنا نفسي كنت أخفي ابتساماتي عندما أتأمل ظلينا،فأرى ظله كسنديانة معمرة تلقي بظلالها الكبيرة اللاهثة غير المتناغمة على الشارع الطويل وأحس أن يده الكبيرة  التي تختفي فيها يدي الصغيرة ستلتهم جسمي كله..لقد حنوت عليه وحنا علي لأن كسري كان يجبر كسره.. تناقضنا الظاهر كان يخفي تعاطفا باطنيا لا تفهمونه أنتم الناس العاديون. أتعلمين؟؟ لقد ناجيت الله وقتها،بسبب حبي الكبير له، في صلاتي وتوجهت إليه خاشعة: ماذا لو أضفت يا ربي بعض السنتمترات لطولي … بعض السنتمترات فقط لست طماعة …وسأتدبر أمري بكعب عال يوصلني ،على نحو حزين إلى العادي من النساء…ثم ماذا لو أضفت يا إلهي لجسدي هذا الذي صنعته بيديك الكريمتين  فتاتات هنا ،وفتاتات هناك حتى أصير امرأة …امرأة فقط بحجم متوسط لا امرأة ونصف …
أجاريها في التبسم الذي يخز قلبي وهي تسترسل :
–  ولأنني أيضا كنت لا أجد الملابس المناسبة لحجمي فقد توجهت إليه،وهل لي غيره؟  وسألته سؤالا غريبا الأكيد أنه ضحك منه في علاه.
فنظرت إلى السماء وقالت فيما يشبه الابتهال:
– يا رب لماذا خلقتنا  هكذا عراة نحتاج لملابس لنواري سوءاتنا؟ ماذا لو خلقتنا مثل سائر الكائنات الأخرى بفرو أو ريش فلا نضطر  لشراء ملابس أوخياطتها؟
ضحكنا ضحكات صافية. وصمتت ملامحها فجأة وعلت غلالة أسى رقيقة وجهها الصغير جدا وخرج صوتها متحشرجا هذه المرة:
– ولكم كان المسكين يثير حناني المرهق لروحي وهو يلاحقني بجسمه الهائل ،وأنا مثل قشة لا تصل قدماي إلى الأرض لفرط خفتي ،حاملا عني حقيبة يدي وكتبي ودفاتري ،فقد كان قلبه هشا ،هشا كسائر الغيلان … ولكم كان يعتصر قلبي الحزن عندما تمر غيوم الكآبة على وجه “غولي”الحبيب الدائم الصحو وهو يواجه تهكمكم وسخريتكم وحتى شفقتكم الكريهة التي كانت تشبه الرطوبة .. تدمر كل شيء في صمت وبطء..ومع ذلك يظل مقرفصا قرب المدرج منتظرا انتهاء محاضراتي غير آبه بكم وبتلميحاتكم المخزية …
ياه !! كم يصبح الرجال في منتهى الحنان عندما يعشقون خاصة إن كانوا من الحجم الكبير!!

image
_______
*أديبة من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *