توأمان جليليان

*خيري منصور

حين نشرت الرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم في مجلة «اليوم السابع»، وقبل أن تصدرها مؤسسة محمود درويش في كتاب هذا العام تصور بعض القراء أن ما يقرأونه هو مونولوجات لها إطار واحد هو البوح بأشجان الفلسطيني وأشواقه، وتلك مسألة طالما اشتكى منها محمود درويش بسبب التسلط الاختزالي، واستباق ما يقوله الفلسطيني كما لو أنه معزوفة محفوظة ومتكررة، وصدور هذه الرسائل في كتاب وعلى نحو غير متقطع يتيح للقارئ أن يحيط بها على نحو بانورامي، وأن يتحرر في قراءته من تلك الثنائية التي تحجب فيها الشجرة الغابة كما تحجب الغابة الشجرة.
إنهما توأمان جليليان، لكنهما ليسا طبعتين لنص واحد، فلكل منهما رؤاه وتجاربه قدر تعلق الأمر بالشّعر، وهذه مناسبة تكشف دور النثر عندما يكتبه الشعراء في رسم تضاريس الأفكار، حيث لا يتوارى الشاعر خلف مجازاته، بل «يهوي بقلمه وليس بمعوله على جذع الشجرة»، كما يقول مثل إنكليزي .
التباين في أسلوب كتابة الرسائل نثرا يكرس تباينا شعريا، لا مجال فيه للمفاضلة، فلكل شاعر نكهة أسلوبية تتخطى الشكل والمضمون، وهي ما سماه لوركا النخاع الهاجع داخل العظم، إنها بمجملها رسائل كاشفة عن هواجس يصعب فك الاشتباك فيها بين الذاتي والوطني، لأن الاحتلال الذي عاشه الاثنان منذ الطفولة ليس نوبات موسمية، إنه مستمر على مدار اللحظة، لهذا فإن تجلياته مبثوثة في كل تفاصيل الحياة اليومية، وهما بخلاف الآخرين الذين كتبوا عن الاحتلال ، فقد كتبا من الاحتلال وليس عنه أو حوله، فمن يتعرض للمطاردة ومنع التجول والسجن ليس كمن يتخيل ذلك، ولعل هذا ما يفسر الواقعية التي اتسمت بها الرسائل، حيث لا إفراط في ادعاء البطولة، ولا وصاية على آلام شعب، وحين أطلق الشاعر محمد علي طه على هذه الرسائل بأنها رسائل بين شقيّ برتقالة كان مدفوعا بنية وطنية وبهاجس الائتلاف إلى حذف المسافة بين الشاعرين، والحقيقة أن ثمة اختلافا يتخطى أوجه الشبه بين شطري برتقالة أو تفاحة.
من المعروف أن سميح القاسم كان أميل الى التعبير المباشر والتصريح، أما محمود فقد كان أميل منذ بواكيره إلى الإيحاء والتلميح، ويصح تعبير الشاعر محمد علي طه على شطري الشعب الفلسطيني بشكل عام، مَنْ تشبث بترابه وأقام رغم الحصار والمكابدة، وبين من تم تهجيره إلى مختلف المنافي، لكن الإبداع ليس كذلك، والتشابه بين شعر محمود وشعر سميح ليس هو ذاته التشابه بين نصفي برتقالة، وهذا مبرر الافتراق في أساليب التعبير رغم الاتفاق والالتئام في الهاجس الوطني والإنساني.
وكان سميح قد أهدى محمود درويش قصيدة بعنوان تغريبة تصدرت الكتاب الذي ضمّ الرسائل يقول فيها:
ونحن صديقان سجنا ومنفى
قطعنا بلادا وراء بلاد
عناق سريع بباب مطار
أكان اللقاء اعتذارا
أكان الوداع فرارا؟
تلك هي إشكالية الموقف الفلسطيني وذروة دراميته، حيث تضيع المسافة بين اللقاء والوداع رغم أن العناق واحد. ونذكر أن خروج محمود من الأرض المحتلة أثار سجالا ساخنا ومتوترا ما اضطر الشاعر إلى أن يعلن بأنه ابتعد عن وطنه ليقترب منه، لكن هناك من رأوا أن هذه البلاغة الدرويشية تسعى إلى مزج الحقيقة بالمجاز، لكن محمود ذاته تولى خلال العقود التي عاشها بعد خروجه من فلسطين الإجابة، ليس فقط بالنصوص التي كتبها وكان حريصا على تطوير أدواته ورؤاه فيها بل بمواقفه أيضا، وحين كتب قصيدة «عابرون في كلام عابر» التي قرأها إسحق شامير في الكنيست مستعديا العالم على شاعر يقول لمن احتلوا بلاده وحولوا مسقط رأسه إلى طلل:
أخرجوا من لحمنا ومن بحرنا ومن ملحنا.. وأخيرا خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
ليس صعبا على القارئ لرسائل محمود من باريس أن يشم ما يرشح منها من حنين قد يصل حدّ الندم أحيانا، يقول في إحدى رسائله لسميح إنه ظامئ لقطرة ماء من قبّرة في الجليل، وإنه يريد أن يموت حيث ولد ويوصيه بأن يعانق شجرة الخروب التي دلت المستوطن على أطلال قريته وأن يحفر اسمه عليها.
ومن أشد المحاور في هذه الرسائل جذبا للاهتمام وتحريضا على التأمل ما يسميه محمود درويش توبيخ الحنين، يقول لتوأمه الجليلي لماذا توبخ حنيني، ألأنك تخاف على قلبي إياه الذي ساهمت أنت في فيينا في انتشاله من قاع الغمّ، ثم يحسم الأمر كله حين يقول لسميح جحيم هنا وجحيم هناك، فالفلسطيني يعيش بين جحيمين، جحيم المنفى بكل شروطه القاسية التي تتطلب منه أن يدفع جلده مقابل حبة زيتون وجحيم الاحتلال والاعتقال.
وقد تكون آخر الرسائل كما تمت فهرستها في الكتاب هي أولها، لأنها تتعلق برحلة سميح إلى لندن ليشارك في عزاء ناجي العلي وألقي القبض عليه واقتادته الشرطة البريطانية إلى قسم البوليس ويذكر أن الضابط سأله أين المستر درويش؟ بالطبع تنتهي الحكاية والرسائل معا باعتذار البوليس البريطاني، لكنها تبدأ من ذلك السؤال الأنكلوساكسوني عن التوأم الجليلي.
أعرف كم هو شاق القفز الاضطراري من رسالة إلى أخرى وكم هي جديرة كلمات الرسائل كلها بالتأمل، لكننا نكتفي أحيانا برائحة الليمونة إذا جُرحت كي نتأكد بأنها ليست ثمرة صبّار!
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *