جماليّة التجاوب في الأدب..الأسس والمفاهيم والإشكالات

خاص- ثقافات

*عادل بوحوت 

“لا تُوجد النّصوص الأدبية فوق الرُّفوف: إنّها سيرورات لفعل دلالي

يتمظهرُ ماديا فقط أثناء عملية القراءة. حتى يتحقّق الأدب،

على القارئ أن يحتَلَّ دورا حيويا يُوازي إلى حدٍّ ما حيوية المؤلّف.”[1]

                                   

  • توطئة:

إنّ الالتفات إلى الدّور المركزي الذي يلعبُه القارئ لحظة القراءة، كان قد اضطلع به عددٌ من الدّارسين، وإن بقي ذلك في حدود الملاحظات، التي لا تكاد ترتقي لتتبلور في إطار نظرية نقدية، قائمة على تصوُّر متكامل للظاهرة الأدبية.. وفي هذا الصّدد يستوقفُنا قولٌ لـ أنطونيو بنيتيز- روجو Antonio benitez-rojo:” لكي يتمَّ تحوُّل الـ قبل-نصّ إلى نصّ، لا بُدَّ من المُرور بمراحل محدَدة ومتطلبات محدّدة (…) وسوف أكتفي هنا بالقول، بأنّ النصّ يُولد حينما يقرأه الآخر، وهو القارئ”[2]. فوجود النصّ – كما يرى هذا الناقد– رهين بوجود القارئ وتفاعُلِه معه، ومن ثَمّ فإنّ البحث عن المعنى، في غياب (قارئ) يعمل على استكناهه، سيكون ضربا من العبث والجهد الذي لا طائل من وراءه.

يتساوق هذا الموقف -إلى حدّ بعيد- مع موقف كلّ من “الظاهراتية”la phénoménologie، و”التأويلية” L’herméneutique من اللّغة والمعنى؛ وهو الموقف القاضي بألاّ وجود للمعنى خارج وعي القارئ[3]. فلقد اعتبر مارتن هيدغر Martin Heidegger– في سياق رفضه لبعض مقُولات أستاذه هوسيرل Edmund Husserl– أنّ الفهم لم يَعُد نمطا للمعرفة، بل أضحى نمطاً للوجود، وظاهرةً تنغرس في صميم التجربة الكلية، التي يعيشها الإنسان (وقد قُذِفَ به في هذا العالم). والوظيفة التي خَصّ بها هيدغر الهرمينوطيقا –بعيدا عن المحاولات التي كانت تريد الزجّ بها في أحضان نظرية المعرفة– هي التفسير والتأويل من أجل الفهم. وتأسيسُ عملية الفهم، يستند –في نظره– إلى طابع وجودي، يفترض أنّ الوجود يكشف عن نفسه للذّات المؤوِّلة عن طريق اتّصال الوعي ببنية الظواهر.. لذا فنحن “لا نستطيع أن نتبنّى اتّجاها تأمّليا محايدا، اتّجاها ينظُر إلى العالم من عَلٍ كما لو كان ينظر من قمّة جبل، فلابُدّ أن نكون مُمتزِجِينَ بموضوع وعينا نفسه”[4]. ولقد عمل غادامير Hans-Georg Gadamer – في أعقاب هيدغر- على تطبيق مبادئ هذا التصوّر في مجال الأدب، فذهب إلى “أنّ العمل الأدبي لا يَخرُج إلى العالم بوصفه حُزمةً منجزةً مكتملةَ التصنيفِ لمعنىً، فالمعنى يعتمد على الموقف التاريخي لمن يقوم بتفسير هذا العمل”[5].   

هذا وتبدو تصوّرات علم الجمال الظاهراتي ذات أهمية كبيرة في هذا السياق، وخاصة منها تلك التي ضمّنها الفيلسوف وعالم الجمال البولندي رومان إنغاردنRoman Ingarden أعماله، حيث خصّص هذا الفيلسوف حيزا هاما من أعماله لتحليل الخبرة الجمالية، مُحدِّدًا الشروط الكفيلة بجعل عملية إدراك الأعمال الفنية والأدبية – باعتبارها موضوعات قصدية خالصة- قابلةً للإفصاح عن مكنوناتها الجمالية بين يدي الملاحِظ/ المتلقي. إنّ العمل الفني – كما يقرّر إنغاردن– “يمكن دراسةُ بنيتهِ أوّلا على حِدَة… باعتباره نَتَاجَ نشاط قصدي للفنّان، ولكنّ هذه البنية –من ناحية أخرى- لا يمكن فهمُها بشكل تامّ إلاّ من خلال خبرة المُشاهِد الذي يقوم بتعيينها”.[6]

واستنادا إلى التوجّهات الفلسفية الهرمينوطيقية والظاهراتية، التي عملت على الإعلاء من قيمة الجهد الإدراكي للذّات المتلقية في مجالَيْ الفنّ والأدب، ارتفعت مجموعة من الأصوات الدّاعية إلى ضرورة إيلاء المتلقي الأهمية التي تليق به، خلال عملية تلقي الأعمال الأدبية.. ولقد اعتبُرت أعمال المنظّرين المنتسبين إلى جامعة كونسطانس الألمانية، الأشهر في هذا المجال. ولعلّ موضع الجدّة في الطّرح المنهجي، الّذي قدَّمه هؤلاء، هو احتفاؤه غير المسبوق بالعلاقة بين النص والتّدخُّل التأويلي للمتلقي.[7]

بيد أنّ مواطن الالتقاء بين الرائديْن الأبرز في جامعة كونسطانس، وهما هانس روبرت ياوس Hans Robert Jauss وفولفغانغ إيزر Wolfgang Iser، لا تنفي أنّ هناك اختلافات جوهرية بين تصوُّراتهما، وهي اختلافات ترجع أساسا إلى طبيعة الخلفيات المعرفية التي ارتأى كلّ منهما الانطلاق منها. فإذا كان ياوس، قد توجَّه منذُ البداية نحو نظرية التلقي، من خلال اهتمامه بتاريخ الأدب معتمدا على فنّ التأويل، وخاصة غادامير، فإنّ تأثُّر إيزر– الذي ينصبّ عليه اهتمامنا في هذه الورقةبظاهراتية رومان إنغاردن بدا واضحا، فكانت نظريتُه عن جمالية التجاوبthéorie de l’effet esthétique ، بمثابة الشقّ المكمّل لجمالية التلقي ككلّ، من خلال بلورته مفهوما جديدا للقراءة، لا ينظرُ إلى التّواصُل على أنه علاقة ذات اتجاه واحد (من النص إلى القارئ)، بل ينظر إليه في اتّجاهين متبادلين، في إطار علاقة تفاعلية[8]. وعموما “إذا اعتبرنا أنّ ياوس يتناولُ العالم الكبير للتلقَي، فإنَ إيزر يهتمُ بالعالم الصغير للتجاوب”[9].

إنّ جوهر اهتمام البحث الحالي هو: نظرية جمالية التجاوب في الأدب، كما تبلورت في أعمال المُنظِّر الأدبي الألماني فولفغانغ إيزر، وخاصة في كتابه “فعل القراءة: نظرية جمالية التجاوب” l’acte de lecture théorie de l’effet esthétique (وهو الكتاب الذي يمكن اعتباره بمثابة البيان التفصيلي الموضّح للخطوط الناظمة لهذه النظرية)، وكذا استنادا إلى ما قيل عنها في سياق بيئتها الأمّ أوّلا، ثمّ في سياق التلقي العربي لها.. وهو تلقّ محدود إذا ما قُورن بما نالته جمالية التلقي، التي حملت توقيع ياوس، من اهتمام منقطع النظير.

أمّا الهدف الذي يتوخّى هذا البحث تحقيقه، فهو تقديم جمالية التّجاوب للقارئ العربي، في حُلّة تجمع بين: التبسيط غير المُخلّ، والعمق، مع الحرص –في الآن نفسه–على كشف الخيوط التي تربط هذه النظرية بأصولها المعرفية المباشرة وغير المباشرة، وعيا منّا بأهمية هذا الربط في تحقيق الفهم الصحيح لجمالية التجاوب، بعيدا عن الأساليب المُلتوية التي لطالما أغرقت هذه النظرية في بحر من الغموض والطلسمة.. ما جعلها تبدو بعيدة عن جوهر الممارسة النقدية العربية، وحال دُونَ تطبيقها على المتن الإبداعي العربي. ولعلَّ العامل الأرجح في تغييب هذه النظرية من مجال الأجرأة النقدية العربية، في نظرنا، هو اعتبارُها نتاجا من نتاجات ما بعد الحداثة؛ هذا الاتّجاه الفكري الذي ارتبط في عقول الكثير من الدّارسين ونقاد الأدب عندنا بغياب المعنى، وغياب الرّغبة في الكشف عنه، وبأسماء منظّرين غربيين أعلنوا – كلّ في مجاله- عن أفول العقل، والمعنى، والنسق… وعن نهاية كلّ المفاهيم التي كان من شأنها -في زمن الحداثة وقبله- أن تجعل الكون منتظما ومُتّسقا.

والواقع أنّ المبادئ التي تشتغل وفقها نظرية جمالية التجاوب، تكشف عن ملاحظات قد تكون صادمة لعدد من أولائك الذين تعوّدوا، أن يحكموا على الكتاب من خلال عنوانه. فجمالية التجاوب إجمالا هي نظرية تنطوي في فلسفتها على مبدإ أساسي، لابدّ من استحضاره هاهنا مفاده، الدّعوة إلى الإنصات، والتريُّث، والتروّي، قبل المجازفة بإصدار الأحكام، وإطلاق الكلام على عواهنه.. وقد لا نكون مجازفين أكثر من اللاّزم إذا قلنا – ونحن ما زلنا على الأبواب– إنّ جمالية التجاوب هي مزيجٌ متناغم من الحداثة والقُدمة؛ ذلك بأنّ هذه النظرية التي يبدو ظاهريا وكأنها جاءت لتُعلي من شأن القارئ، على حساب أطراف التواصل الأدبي الأخرى وفي مقدّمتها النصّ… هي على خلاف تامّ مع كلّ ذلك، كما سوف نرى. وهكذا يُلاحظ هولاب أنّ “القدرة الذكية في انصهار الحداثة مع الآراء الأكثر تقليدية، تُعتبر سمة متحيّزة في عمل إيزر“[10].

وعُموما فسنحاول في الآتي من صفحات هذا البحث، تقديم عرض شامل لنظرية جمالية التجاوب، والإحاطة بجوانبها المختلفة (الخلفيات المعرفية، والمفاهيم، والإشكالات)، من خلال منهجية مرنة، تتيح لنا إمكانية التحرُّك بحرية داخل دهاليزها وشعابها (المضلّة في الكثير من الأحيان)، بحيثُ نستطيع ربط السابق باللاّحق، ووضع العناصر في سياقاتها الأصلية، سعيا إلى فهم أفضل لهذه النظرية.. وهكذا فقد توزَّعت المحاور على الشكل الآتي:

  1. الأساس الظاهراتي لجمالية التّجاوب: معطيات أوّلية

  2. بنية النص وأفعال الفهم: ما للنص وما للقارئ

  3. وجهة النظر الجوالة: وصف حضور القارئ في النص

  4. البياضات: وتنظيم العملية التواصلية بين القارئ والنص

  5. التأويل المُتّسق: “الجشطالت”

  6. القارئ الضمني كبنية نصية: ونقد أنماط القُرّاء

  • خــاتـمــة

moi

  • الأساس الظاهراتي لجمالية اللتجاوب: معطيات أوّلية

لقد كان للإبدالات التي قدّمها رومان إنغاردن، في سياق انتقاده لافتراضات أستاذه¨ حول الموضوع القصدي، أثرٌ لا تخطئه العين في تنظيرات إيزر، حيث بحث إنغاردن في القيم الجمالية، التي تنطوي عليها الأعمال الأدبية، مميّزا إياها عن قيم أخرى تدخل أيضا في تكوين هذه الأعمال، وعمل بعد ذلك على إنزال مفهوم “القصدية” (وهو من المفاهيم الأساسية في المنهج الظاهراتي) من وضعه المتعالي – الذي أسّس له هوسيرل– إلى وضع ذي أساس مادي ملموس.

ورأى إنغاردن في سياق عمله هذا ضرورة تحديد الفروق الدقيقة بين الموضوع الطبيعي والعمل الفنّي من الوجهة القصدية، وهو التمييز الذي أغفله هوسرل. فالموضوع القصدي الخالص – كما اتّضح لإنغاردن– هو أسلوب من الوجود، ينطبق على العمل الفنّي دون الموضوع الواقعي. حيث إنّ فهم أسلوب وجود العمل الفنّي، وتعيين بنيته لدى المتلقي، إنّما يتمّ على أساس أنّ بنيته تكون مقصودة، وليس لها وجود مُستقل عن هذا القصد، أمّا الموضوع الطبيعي، فهو على خلاف ذلك، لا يكون معتمدا في وجوده على نشاط قصدي يؤسس تحديداته المادية والصورية، فهو ينطوي على تحديداته الخاصة به، لذلك فإنّ بنيته تحيا خارج الوعي.[11]

وبعد أن حسم إنغاردن في أمر الموضوع القصدي، باعتباره مختصا بالعمل الأدبي، بحث عن إمكانية التأسيس لمعرفة حول الأساس الأنطلوجي، والأساس الجمالي لهذا العمل، وقد وجد ضالته في تحليل الخبرة الجمالية، وعمليات الإدراك التي يقوم بها المتلقي، والتي تؤدي في النهاية إلى إنتاج الدلالة. وقد استفاد، في كل ذلك، من الافتراضات الأساسية التي أدخلها هوسيرل إلى النظرية المعرفية، والقاضية بأن عمليات الإدراك، غير منفصلة عن العمل المُدرَك.

ورأى إنغاردن –تأسيسا على هذه الافتراضات– أن التلازم بين فعل الإدراك والمعنى المُدرَك، يؤدي إلى بناء معنى العمل الأدبي، لأن عملية التلازم هذه تنتج معنى مضافا، كان العمل يفتقر إليه في المقاربات التقليدية؛ حيث كان يُنظر إلى النص، باعتباره مكوَّنا من طبقة من التشكيلات (الأصوات، الكلمات، الجمل…)، المعزولة كل العزل عن نشاط الإدراك. من هنا فإن كلّ مجهودات إنغاردن، انصبت على إثبات مركزية العلاقة بين المدرِك والمدرَك، في سيرورة التدليل المقترنة بالقراءة. ذلك بأن المدرَك – كما يرى إنغاردن– غير مُكتفٍ بذاته، كما أن المدرَكات عموما (ومنها الأعمال الأدبية) لا يتحقّق معناها ووجودها إلا من خلال المتلقي. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن إنغاردن ينفي أهمية المعطيات المادية والماهوية للمدرَك، بل إنه يؤكد – في غيرما موضع- على أهمية هذه المعطيات في تشكيل الموضوع الجمالي.[12]

وبالنظر إلى خصوصية اشتغال إيزر، وهو اشتغال مخصوص بالأعمال الأدبية (والسردية منها بشكل أخصّ)، فإنّه وجد نفسه مضطرا لإدخال إبدالاته -هو الآخر- على تصوّرات إنغاردن، بهدف جعلها أكثر قابلية للانسجام والترابط مع الخيوط النّاظمة لنظريته ككلّ. ممّا يعني بالمقابل أنّ إيزر كان منفتحا على روافد معرفية متنوّعة، كان من شأنها أن تجعل تصوّراته أكثر تعقيدا، وتشعبا، ومرونة في الأحوال جميعها، بعيدا عن منطق الببغاوية، الذي لطالما نأى بالنظرية الأدبية عن مهمّتها الأصلية، وحوّلها إلى أبواق مُردِّدة للمنطلقات الفكرية والفلسفية التي انحدرت منها. وسوف تكون الفقرات الآتية كفيلة بإماطة اللثام، عن المزيد من هذه الروافد النظرية والمنهجية التي أغنت تنظيرات إيرز، وجعلتها أكثر إثارة للجدل، وإغراء بالمتابعة النقدية، من قبل المُهتمين بنظرية الأدب غربا وشرقا.

  • بنية النصّ وأفعال الفهم: ما للنص وما للقارئ

يشرح إيزر ما يؤدي إليه التفاعلُ بين النص والقارئ، من خلال التّمييز الّذي وضعهُ بين: النَص الأدبي من جهة، والعمل الأدبي من جهة أخرى؛ فالنصُّ يقدِّمُ مظاهر خطاطية، يمكن من خلالها إنتاج الموضوع الجمالي objet Esthétique، بينما يتموقعُ العمل الأدبي فيما بين:

أ- قطبٍ فنّي : ويقصدُ به إيزر نصَّ المُؤلِّف.                                               

           ب- وقطبٍ جماليّ : أي فعلُ الإدراك أو التّحقق الذي يُنجزه القارئ.[13]

فالعمل الأدبي إذن، يوجد في مكان بين هذين القطبين. وقد تشدّد إيزر في تأكيد سلامة هذا التّصوُّر؛ ففي مقال له بعنوان: “عملية القراءة: مقاربة فينومينولوجية” اعترض على إنغاردن في تركيزه على فعل الإدراك[14]، حيث رأى إيزر أنّ الإدراك يأتي فقط بالنصّ إلى الحياة، أمّا ما يجلب العمل الأدبي إلى الوجود فهو –فقط– التفاعل الحاصل بين النصّ والقارئ؛ “إنّ الأمر يتعلق أولا وقبل كُلِّ شيءٍ، بتفاعُـلِ قُطبَيْ عملية القراءة، بشكل يجعل اختزال العمل في أحدهما قتلا لذلك العمل”[15].

إنّ هذه القطبية التي تحدّث عنها إيزر، تجعل العمل الأدبي كائنا زئبقيا يصعب القبض عليه، ذلك بأنّه رهين في وجوده الفعلي، بعملية التفاعل التي يلتقي عندها توجّه المبدع باستجابة القارئ.. وما من شكّ أنّ لهذه الفكرة جذورا ظاهراتية –ليس فقط في الصيغة الإنغاردية التي استعرضنا ملامحها أعلاه– ولكن أيضا فيما كتبه سارتر Jean-Paul Sartre، فلقد اعتبر هذا الأخير أنّ العمل الأدبي هو ذلك “الخُذروف العجيبُ، الذي لا وجود له إلاّ في الحركة. ولإخراجه إلى حيّز الوجود لابدّ من عملية حسّية تُسمّى القراءة. وهو يدوم ما دامت القراءة، وفيما عدا هذا لا يوجد سوى علامات سوداء على الورق…”[16] كما لاحظ سارتر – في موضع آخر من كتابه: ما الأدب؟– أن “الجهد المشترك بين المؤلّف والقارئ، هو الذي يُظهر إلى الوجود هذا الأثر العقلي، الذي هو النتاج الأدبي المحسوسُ والخيالي في آنٍ معا. فلا وجود لفنّ إلاّ من أجل الآخرين وبواسطتهم”.[17]      

ويلجأ إيزر – لوصف هذه العملية المعقّدة التي تُؤدّي في النهاية إلى إنتاج الموضوع الجمالي– إلى بَسْطِ مجموعة من المفاهيم الضابطة لهذا النوع من التفاعل، الذي يصفه بأنّهُ “جدلي”، مستفيدا –حسب فرانك شويرويجن[18]– من جهود أوستنJohn Langshaw Austin ¨¨، الذي يقترح ثلاثة أشكال من شروط نجاحِ فعل القراءة:

1= مجموعة من الشروط المشتركة بين المتكلم والمتلقي.                                             

2= مجموعة من الإجراءات المعترف بها، من جانب المُشاركين في التواصل اللغوي.                    

3= استعداد المُشاركين في التواصل اللغوي.

وقد كان الشغل الشاغل لإيزر، هو إيجاد مقابل أدبي لكلِّ واحدٍ من هذه البنود؛ فترجم الصنف الأول بوصفه “سجلّ” répertoire العمل الأدبي (أي مضمونه)، أما الصنف الثاني فقد اختار له مصطلح “الاستراتيجية”.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنّ النصّ الأدبي- في نظر إيزر- هو عبارة عن “تشكُّل تخييلي”، فهو لا يُحيلُ إلاّ على ذاته.. وهو ما يمكن أن يُفسر لجوءه (أي إيزر) إلى مفهومي: السجلّ والاستراتيجيات، فهو كما يبدو يرمي أساسا، إلى تطوير فكرة المرجعية التي يفقدها هذا الخطاب؛ بحيث تصبح للنصّ مرجعيته الخاصة، التي تنبني أساسا على العلاقات الحوارية المتبادلة، من خلال القراءة.[19]

إن مفهومَيْ السجلّ (أو الذخيرة) والاستراتيجيات، ليسا بالبساطة التي قد تُفهم منهما للوهلة الأولى، ذلك بأنّ كل تحرُّكات إيزر –داخل النّسق النظري والمنهجي الذي يؤسِّسُ لنظريته– مراقبَةٌ من قبل هذين المفهومين، ممّا يجعل الوقوف عندهما –بشيء من التفصيل– ضرورة مُلحَّة، لا يتأتى استيعابُ الخطوات الموالية – وهي أكثر تعقيدا– إلاّ من خلاله. فماذا يقصد إيزر بهذين المصطلحين؟ وما صلتُهما بمنظوره للعلاقة بين النص والقارئ؟

قد لا نُجافي الصواب إذا قلنا: إنّ إيزر، حينما أقرّ بأنّ النص الأدبي هو خطاب تخييلي، يفقد كلَّ مرجعية خارجة عن ذاته، أحسّ وكأنّه انجرّ وراء رياح ما بعد الحداثة، التي جاءت لتبطش بكلّ شيء.. فراح الرجل يبحث عن حلٍّ للخروج من هذا المأزق المنهجي، مُستنجدا بمفهوميْ: السجل والإستراتيجيات، ومُعلنا الهُدنة مع النص، بإكسابه وضعا مرجعيا خاصا به يؤثّثه من الداخل، وتفصله عن المرجع الخارجي، عملياتٌ ذهنية واعية وغير واعية؛ حيث ينتقل على إثرها ما هو خارجي، إلى عناصر نصية تفقد إحالتها المرجعية السابقة. فسِجلُّ النصّ، يحيل على “كلِّ ما خارج عن النصّ ويعودُ إليه، أي مجموع العلامات التناصية بطبيعة الحال، لكن أيضا –وبالأخص– الضوابط الاجتماعية والتاريخية، والسّياق السوسيو ثقافي بمعناه الواسع الذي ينشأ فيه النص”[20]. على أنّ تلك العوامل الخارج–نصية، تفقد خصوصيتها بمجرَّد دخولها عالم النص، وبالقدر الذي يؤسِّسُ فيه هذا النصُّ فرادته. كما أن عمليّةَ نقل ما هو خارجي إلى ما هو داخلي-نصي، لا تتمُّ بطريقة آلية –كما أشرنا أعلاه بل هي تنشأ عن عملية أو عمليات طويلة ومعقدة، يتمُّ خلالها “انتخاب عناصر دلالية معينة على حساب أخرى يتمُّ إقصاؤها”[21]. وهذه العملية تجعل بنية النص سلاحا ذا حدّين؛ فهي تُحيل من جهة على القيم الأدبية الجمالية والفكرية والثقافية والاجتماعية… التي احتضنها النص وتبناها المُنشئ، أو أراد التعبير عنها. وتعملُ –من جهة أخرى– على إخفاء عناصر، إمّا لرفضها وإمّا قصدًا إلى ترميزها لتُسنِد البنية الظاهرة للنص دلاليا، مما يترك فراغات.

وليس المقصود –هنا الفراغ الشكلي الذي تكشف عنه القراءة البصرية، وإنّما هو فراغ من نوع خاص، يرسم الخطوط العريضة لعملية التواصل، ويفتحُ أمام القارئ إمكانات توليفية تُسهم في تأطير تدخّلاته التأويلية. يقول  إيزر –مُنبّها إلى هذه الرّقابة النصية، التي لا ينبغي غضّ الطرف عنها: “إن ما هو خفيّ يحثُّ القارئ على الفعل، ولكن هذا الفعل يكون مراقَباً أيضا بما هو مكشوف…”[22].

وهكذا فنجاح التواصل بين النص والقارئ، لا يتمُّ إلاّ إذا كان الثاني أذنا صاغية، تمْتَثِلُ لتوجيهات (وليس لأوامر) الأول، وهذا لا يعني –بشكل من الأشكال– إبعاد القارئ، فالنصّ لا يمكن أن يتواصل ويتفاعل مع ذاته، فذات القارئ حاضرة باستمرار، ولا وجود لمقاربةٍ يُمكنُ عَدُّها خالصة الموضوعية. لذا فإن إيزر قرّر –انسجاما مع خلفياته الفينومينولوجية– أنّه لا بُدّ من التّخلي عن النظرة التقليدية، التي تفصل بين الذّات والموضوع، وتنظرُ إلى عملية القراءة على أنّها موضوعية محض¨¨¨. كما انتقد إيزر الموقف المُندفع وراء التنقيب عن المعاني الخفية في العمل الأدبي، في إطار اعتقاد واهٍ بإحالة النصوص –دائما و أبدا– على ما هو خارج عنها، فهو (إيزر) يُخطِّئ هذه النظرة، حتى بالنسبة إلى الأعمال العادية.[23]

إنّ النصّ ينظَّم بطريقة يلعب فيها السجلّ الدَّورَ الأساس، فهو (أي السجل) ينظم البنية الدلالية، التي على القارئ أن يعمل على تكميلها، خلال القراءة. وهذا التّكميل يتوقَّفُ على مقدرة وكفاءة القارئ[24]. فالذّاتية التي أطلق إيزر عِنانها في عملية التأويل، مشروطة بشروط تُقلِّل –لا محالة– من فاعليتها، وفي قائمة هذه الشروط : شرطُ الكفاءة. وإيزر في هذه النقطة –وفي غيرها كما سنلاحظ– يلتقي مع إيكو Umberto Eco، الذي يرى أنه دون كفاءة (موسوعية) لا يمكن التعاون مع النص، أو مُساعدته على إنجاز مهمته، ولا يمكن للقارئ أن يكون هو ذلك المشارك الفعال الذي يملأ الفراغات، ويحمل التناقضات، ويستخلص المقولات… فالنص يفترض قارئه كشرطٍ حتمي لقدرته التواصلية الملموسة، بالإضافة إلى قوته الدلالية المحتملة. وبعبارة أخرى، إنّه مُنتج لواحد قادر على تحيينه، حتى إذا كان الأمل بوجوده الملموس أو التجريبي معدوما.[25]

وتجب الإشارة هنا، إلى أن أمبرتو إيكو يطلق على ما يَصْطَلِحُ عليه إيزر: الذّخيرة مصطلحَ: الموسوعة[26]. ومن ثمّ فهو يرى، أن استحضار أو استيعاب هذه الموسوعة التي يحتويها النص، يتطلب ثقافة موسوعيةً من جانب القارئ، وإلاّ أدّى ذلك إلى عدم التوازن. ولتلافي عدم التوازن وضمان الحفاظ على هُويَّة النص، يحدّد إيزر لاستراتيجيات النص مهامَّ تنظيمية؛ فهي السلك الجامع بين عناصر السجل من جهة، وهي الخيط الرابط بين بنية النص وأفعال الإدراك التي يتمّ إطلاقها في القارئ، من جهة ثانية.

  إنّ دور هذه الاستراتيجيات، في تنظيم عملية التواصُل بين النصِّ والقارئ أساسيٌّ جدّا؛ حيث إنّها ترسُم الإطار الذي يأتي القارئ لملئه، قصد تشييد الموضوع الجمالي. فهي تشكّل التوجيهات العملية التي تقدَّم للقارئ مجموعةً من إمكانيات الربط بين ما قرئ، وما يقرأ، وما سيقرأ؛ أي أنَّها تُقدِّم بعض إمكانيات الالتحام للقارئ. وإذا أردنا أن نكون على بيّنةٍ من نجاعة هذه الاستراتيجيات – يوضّح إيزر– فلنحاول التفكير فيما يقع عندما نحاول –مثلا– تلخيص عمل أدبي، فما يتمُّ الاستغناء عنه، هو بالضبط التنظيم الاستراتيجي للخطاب التخييلي، وهو الجهاز المُوصل الذي يربطُ عناصر السّجل[27].

وبعد استعراضه لعدد من الوظائف التي تؤديها هذه الاستراتيجيات -والتي تجعل منها مفهوما مركزيا داخل النسق المفهومي لنظرية جمالية التجاوب، فضلا عن مفهوم السجل- يُنبِّهُ إيزر إلى أنّه لا ينبغي الاعتقاد بأنّ هذه الاستراتيجيات، بتنظيمها لعملية القراءة، وتقديمها الإطار الدلالي للقارئ… تُقدِّمُ كلَّ شيء! فهذا لا يتماشى مع الطرح الإجمالي للنظرية، القائم على مفهومي التجاوب والتفاعل، اللذين يحيلان مباشرة على المشاركة في الفعل. فهذه الاستراتيجيات ” بتحديدها لكل شيء، ستشلُّ خيالَ القارئ”[28]. ومرّة أخرى يلتقي إيزر مع إيكو في فكرة محورية، من الأفكار التي بنى عليها إيزر تصوُّراته للخطوات الممهِّدة لإنتاج الموضوع الجمالي؛ حيث يرى الناقد الإيطالي أنّ “القوانين الداخلية للنص، وإن كانت تفتح إمكانية التأويل، إلاّ أنها لا تفتحها بصورة نهائية…”[29]. ولعلَّ في هذا ما يعضد – إلى حدّ ما- ما ذهب إليه أحد الباحثين[30]، حينما أقرّ باستثمار إيزر لأهم القضايا التي أثارتها نظرية إيكو السيميوطيقية في مجال القراءة التأويلية¨¨¨¨، مُدخِلا عليها بعض التعديلات لتنسجم ومنطق التلقي الذي تبنّاه.

إنّ الحديث عن نصّ يقدم المعنى جاهزا للقارئ – في عمق نظرية جاءت – في المقام الأول- لتردّ الاعتبار لهذا القارئ (هذا الذي أُبعد لفترة طويلة من دوائر اهتمام مدارس النقد)، سيكون وصمة عار على جبين أصحابها، وعلى هذا فقد كان إيزر واعيا بما يمكن أن تَخلُقَهُ الثقة الكاملة في قدرة الاستراتيجيات على تنظيم عملية القراءة من متاعب.

إنّ ما كان يهُمّ إيزر منذ البداية، هو مسألة كيف، وفي أي ظروف يقدِّمُ النصُّ المعنى للقارئ!؟ وخلافا للتأويل التقليدي –الذي كان يحاول تجاوز سوء الفهم، فيجتهد في تقصي المعاني الخفية في النص بحثا عن قصدية صاحبه- فإنّه يرى المعنى نتيجة تفاعل بين النص والقارئ، أي بمثابة “أثر ينبغي أن يجرب” وليس “موضوعا ينبغي أن يحدد“، كما يُعبّر إيزر نفسه.[31]

ويبدو أنّ هناك وظيفة من الوظائف الحيوية والكاملة للاستراتيجيات –كما يلحّ على ذلك إيزر– لازلنا لم نتطرق إليها، وهي تلك الممثلة في “كسر ألفة ما هو مألوف“؛ فمن خلال فهم هذه الوظيفة، نستطيع تَمثُّل الترابط المنطقي الذي يجمع بين مفهومي الذّخيرة والاستراتيجيات. ولقد سبقت الإشارة –خلال تعرُّضا لمفهوم السّجل- إلى مسألة الإحالة المرجعية الواقعية التي يفقدها النص الأدبي، ومحاولة إيزر نقل هذه الإحالة من الخارج إلى الداخل. فهذه العملية، أي إكساب النص الأدبي إحالات مرجعية داخلية، هي ما يقصد بــ كسر ألفة ما هو مألوف؛ حيث إنّ عناصر السجل تتشكل- كما أسلفنا- بناء على عملية انتقاء من عناصر أخرى خارجية:

  • خارج-نصية (عادات، قيم، تقاليد…)؛

  • ونصية (نصوص من جنس النص المعطى، أو من خارج جنسه).

 هذه العناصر في حقيقة الأمر، هي عناصر مألوفة، لأنها جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني، ومن التاريخ بوجه عام. حينما تتحولُ هذه العناصر إلى عناصر نصية بفضل الإستراتيجيات، التي تكسبها هويتها داخل النص، تفقِدُ دلالاتها الأولى (المألوفة)، التي كانت لها قبل أن تنصهر في بوتقة النص، فيصير ما كان مألوفا غير مألوف. وفي هذا الصدد يقول فرانك شويرويجن franc schuerewegen: “العنصر المعروف حين يمتصه النصُّ يفقد مرجعيته الأصلية، فلا تكون له دلالة إلا داخل شكله النصي نفسه. وهكذا فإنّ ما هو عادي يصبح غير عادي باعتباره عنصرا نصيا”.[32]

من هنا فإنّ دلالة كلّ نصّ تأتي مُخالفة لدلالة النصّ الآخر، حتى وإن افترضنا أنهما نهلا من الثقافة نفسها، ومن التراث الفكري، والأدبي، والاجتماعي نفسه.. وحينما تلج هذه العناصر بوابة التجاوب، فإنّها تأخذ معناها في علاقتها مع الكلّ الذي هو النص، (باعتباره تشكلا تخييليا، ليست له أي خلفية مرجعية خارج ذاته، ويحقِّقُ انسجام بنيته الداخلية انطلاقا ممّا تُقدمه الاستراتيجيات من إمكانيات التنظيم لهذه العناصر الخارجية-الداخلية)، في علاقته بالقارئ، الذي يُواجه النصّ مُحمَّلا بخطاطة ذهنية، هي مزيج من تجربة حياتية، وتجربة قرائية.. حيث يعمل هذا القارئ- بمساعدة الاستراتيجيات- على أخذ النص إلى منطقته (فعل الإدراك).

  هكذا يرى إيزر أن بنية النص وأفعال الفهم هما قطبا الاتصال، الذي سيعتمد نجاحُهُ بشدَّة على الدرجة التي يؤسس بها النص نفسه كشريك في وعي القارئ[33]، فبالقدر الذي تكون فيه الاستراتيجيات النصية محفِّزة للقارئ، يقاس نجاح فعل القراءة. على أن فعل الإدراك، الذي يُسهم النصُّ في تبلوره، لا يتمُّ دفعة واحدة. فالنص – كما يؤكِّدُ على ذلك إيزر- لا يسلِّمُ نفسه للقارئ عند أول لقاء بينهما، بل إنّ القارئ ملزم – لتحديد الموضوع الجمالي- بالتنقُّل بين المحطات الدلالية التي يرسمها النص، أو بين المنظورات النصية perspectives textuels *. ويطلق إيزر على هذا المسار الذي يقطعه القارئ، داخل حقل الفهم مصطلح: وجهة النظر الجوالة، الذي تُحاول الفقرة الموالية الوقوف عنده، بشيء من التفصيل، وذلك طبعا في ضوء كل ما تقدم.

book

 

  • وجهةُ النّظر الجوّالة: وصف حضور القارئ في النصّ

إنّ الدُّخول في مغامرة عنوانها: فعل القراءة، سعيا إلى استخراج القبس الذي هو: الموضوع الجمالي، ليس بالأمر الهين، كما قد يظنّ البعض، ففيها من الصعاب والمعيقات، ما يحبط القارئ المسكين، فيعود خاوي الوفاض، ومشتّت الذّهن، معلنا انهزامه أمام هذا المارد الذي يسمّونه نصا.. ولولا ما تُتيحُه الآليات النصية، التي تحدّث عنها إيزر – من إمكانيات توليفية، بتنشيطها لأفعال الفهم- لكان أمرُ القارئ كما قلنا.

إن عملية بناء المعنى تحتاج إلى تتبع دقيق، وفطنة، ورويّة من جانب القارئ لِماَ يعتريها من تناقضات وتراكمات دلالية، يُمكنُ أن تُثقل كاهله، فيؤدي به ذلك إلى النفور من النص، والسأم من العملية ككلّ. من هنا تبدو أهمية المفهوم، الذي أراد إيزر تحليل ظاهراتية القراءة من خلاله؛ فوجهة النظر الجوالة point de vue errance، تُمكِّن القارئ من أن يستثمر النص في تعدُّد منظوراته، وتنتقل في النص ذهابا وإيابا لتصنع الموضوع الجمالي. فهذا الأخير، لا يوجد فقط في بعض أجزاء النصّ أو في بعض لحظات القراءة، وإنّما في التركيب الكلي والنهائي للنص والقراءة معا[34].

وجهةُ النظر الجوالة، إذن، تُجزِّئُ النصَّ إلى عددٍ من المنظورات، التي يكون على القارئ الربطُ بينها لاستخلاص المعنى. وبما أن كلّ نص هو عبارة عن تعالقات تركيبية، بين وحدات صغرى هي الجمل، فإنّ إيزر يدعُو – لفهم هذا النشاط التركيبي الذي ينشأ عن حركية وجهة النظر- إلى تبنّي المنظور الجُمَلي في التحليل، استنادا إلى ما تمّ التّوصُّل إليه في حقلِ علمِ النّفس اللساني[35]، من خلال ما يُعرف بالمدى البصري-الصوتي**. ومن المؤكَّد أن إيزر قد استفاد من تصوّرات إنغاردن، في إبرازه للترابطات الوثيقة التي تحكُم العلاقة بين الجُمل الفردية، داخل السياق النصّي، “لتُكوِّنَ في النهاية تيارا من الجمل، يتوافق بشكل هارموني”[36]. حيث إن كلّ جملة لا تبلغ غايتها، إلاّ إذا تجاوزت الحُدود المرسومة لها، كمجموعة من الألفاظ المتراكبة مع بعضها البعض، إلى استهداف شيء يتجاوزها، وهذا هو الحال مع معظم النصوص الأدبية. فالأدبُ يبتعد عن التقريرية والمباشرة في التصوير، فيكونُ دالاًّ على الما وراء، وليس على معاني الجمل، كما قد تُفهم خارج وضعها التخييلي. لذا فإنّ تشكيل الموضوع الجمالي، لا يتأتّى بالفهم الأُحادي لكلِّ ترابط جُملي على حدة، وإنّما يكتسب اكتماله من الترابطات العلائقية لهذه الجمل، وما تخلقُه من تفاعلٍ إدراكي لدى القارئ، بين كل تيمة (محور) و أفق.

  إنّ المؤشرات الدلالية للجمل الفردية، تتضمن دائما توقُّعاً من نوع ما، ويسمي هوسيرل هذه التوقعات بالترقُّبات، وبما أنّ هذه البنية ملازمة لمجموع الارتباطات العلائقية القصدية للجمل، فإنّ تفاعلها حتما، سوف يتجاوز إنجاز التَّوقعات إلى تعديلها. وهنا تكمن قيمة هذه الحركة المزدوجة الاتجاه التي تسير وَفْقَهَا وجهة النظر الجوالة، داخل ترابطات النص الجُمَلية (أو داخل بنية النص)، فكلُّ ارتباط علائقي لجملة فردية (ترابط جُمَلي فردي)، يحدّد مسبقا أفقا معينا، وكلّ ترابط جديد (أي جملة جديدة)، يُجِيبُ على التوقُّعات، إما بتأكيدها، أو بنفيها، ويثير- في الآن نفسه- توقُّعات جديدة. وأفقُ التوقُّع*** سُرعان ما يتحوّل، في الجملة الموالية، إلى خلفية تتمُّ الاستفادة منها، في ضوء ما تقدمه الجملة الجديدة (التي تشكّل في هذه الحالة تيمة)، ممّا قد ينفي، أو يَدْعَم ما توصّل إليه القارئ، من خلال وجهة النظر التي تشكّلت لديه، بناء على ما يقدمه النص، وكذا على درجات تفاعله مع هذا النص. فتكُون النتيجة هي تغيير وجهة النظر في كلّ تقاطع بين التذكُّر والترقُّب (rétention-anticipation)؛ فبين هذين الفعلين، يتموقَعُ القارئ متنقِّلا من منظور إلى آخر، في وضعية تَقَصِّ مُتواصلٍ للدلالة، في حلّها وترحالها، في ثباتها وتغيُّرها، طلبا للموضوع الجمالي .

ولعلّ المحفز الأساس في هذا التغيير الذي يَحدُث في وجهة نظر القارئ، هو النصّ ذاته، أو الترابطات الجُمَلية (إذا ما أردنا التخصيص). وقد ألح إيزر على هذا في غير ما موضع، فكلُّ ترابط جديد – في نظره- إذا بدأَ بتأكيد توقُّعات الترابط السابق، سيُغلِقُ مجال الآفاق الدلالية، بما لها من قيمة في تفعيل عملية القراءة. ممّا سيؤدي حتما، إلى إغلاق دلالة النصّ بشكل نهائي، وهذا من شأن النصوص التي تريد أن تضع رسالتها بكلّ وضوح، في ذهنِ القارئ. أمّا النصوص الأدبية، فالدلالةُ فيها مراوِغَةٌ ومموِّهة للقارئ، لا يكاد يتلمّسها حتى تنفلت منه، كما أنّها تتّخذُ منحى دورانيا، من حيث اتِّصالُها بجميع أجزاء النص ومنظوراته، وتغذّيها منها. فخلال عملية القراءة- يقول إيزر-“يكون هناك تفاعل متواصل بين التوقعات (المعدَّلة) والذّكريات (المحوّلة)”[37].

وفي سياق حديثه عن البنيات الأساسية التي تنظّم عملية الترابط بين الجمل، وخدمة بعضـها البعض من أجل تحقيق الموضوع الجمالي -عبر حركية وجهة النظر، يُشيرُ إيزر إلى أن مُتتاليات الجُمل لا تُحدِث تفاعلا منتظما بين التذكر والترقب، ممّا يؤزِّم من وضعية القارئ ويجعله في وضع لا يُحسد عليه، وهنا يقف إيزر عند منظور إنغاردن لطبيعة العلاقة بين الروابط الجملية، من حيث إجابةُ كل منها أوْ لاَ على أفق التوقع السابق عليها. ويرى إيزر أنّ نظرة إنغاردن قائمة على مفهومه الكلاسيكي للعمل الفني باعتباره (انسجاما متعدِّد الأصوات)، لذلك فهو (إنغاردن) يرى أنّه يجب على كلّ جملة أن تُجيب على التوقُّعات التي أثارتها الجملة السابقة، وإلا فإنها تثير “إغاضة”[38].

ويتّضح موقف إيزر، من الانقطاع الذي تحفَّظ منه إنغاردن أكثر، من خلال قوله: “ما رفضه إنغاردن كفجوة في متتالية الجمل، هو في الحقيقة شرطٌ ضروري لعملية تسليط الضوء التبادلي، وبدون هذا الشّرط ستظل القراءة مجرد جريان زمني غير متمفصل”[39] فإيزر كما يبدو يؤكّد على أهمية هذه الوقفات أو الانقطاعات، التي تمكن القارئ من استرجاع ما سبق، في ضوء كلّ جديد تُقدِّمُه الترابطات الجُمَلية، ممّا يُتيح إمكانية إعادة تثمين وِجهات النظر السابقة، وخلق أفق توقعي جديد.

إنّ الدّارس العربي الذي ألِف الحديث عن التئام أجزاء النظم في النقد القديم، واستأنست أذناه بكلام النقاد المحدثين، حول الوحدة العضوية في القصيدة، أو الوحدة العضوية في القصة أو الرواية، وما يجري هذا المجرى من دعوة إلى سلك مسلك الانتظام والاتساق، وإلزامية مراعاة السنن المتبعة في مجال الصناعة الإبداعية، في إطار نظرية الأجناس… هذا الدّارس، إذا ما تأمل كلام إيزر- وهو يُقِرُّ بعدم اتّساق أجزاء النص، وإن كانت مُتجاورة في الظّاهر- سيقف مشدوها حائرا لا محالة، خاصة وأن الرجل يرمي- كما رأينا- إلى القول بإخراج كلّ النصوص، التي لا تنضبط لشرط عدم الاتّساق، من دائرة الخطاب التخييلي. ولا شكّ أن إيزر- في تركيزه على هذه الخاصية في النصوص الأدبية- مستحضر للقارئ، ولأهمية فعل القراءة، الذي تُفتح من خلاله إمكانية الوصل، بين العناصر غير المتماسكة. ويزداد الأمر غموضا وتعقيدا حين ينبّهنا إيزر، إلى أنّ إمكانية “وصل” (أو لحم) أجزاء النص هذه، تتمّ من خلال ملء الفراغات أو البياضات، فهذه الأخيرة –في نظره- هي التي تحقّق الاتصال في عملية القراءة، وترسُم الطريق من أجل قراءة النص، كما تُلزم القارئ بإتمام البنية النصية، ليُتمّ إنتاج الموضوع الجمالي[40].

  • البياضات: وتنظيم العملية التواصلية بين النص والقارئ

لقد شكّل موضوع البياضات -وما يتّصل به من مفاهيم وإشكالات- وترا حساسا، من أوتار القيثارة العازفة لسمفونية نظرية جمالية التجاوب ككلّ. والغريب أن إيزر، أكثر من الضرب عليه، باعتباره مفهوما مركزيا، ذلك ما تؤكّده إشارة موجزة أوردها ر.هولاب Robert Charles Holub، فــ” لقد احتل البياض موقعا رئيسيا في تأمل إيزر، منذ مقالته Appel Structur “[41].

واعتمادا على ما يسميه إنغاردن مواقع اللاّتحديدlieux d’indétermination، يُبيِّنُ إيزر كيف يتمُّ ملء البياضات، أو الفراغات التي تتقدم في النص، من قبل القارئ. غير أن مقولة اللاّتحديد، تظل مبهمة، غير محددة بشكل دقيق فيما كتبه إيزر بهذا الصدد، وقد اعترف هو نفسه، في ردِّه على نقدِ مقولته غير المميزة للاّتحديد، “بأنّ هذه المقولة غير مميزة على الإطلاق، ومع ذلك فهي تُشكِّل نظرية كلية للتواصل، وإخضاعها للتحديد الدقيق -حسب اعتقاده- سيشُلُّ من قُواها، ويُقلِّلُ من مركزيتها[42]. وعموما فإنَّ ما يقصده إيزر، حينما يُوظِّف مُصطلح اللاّتحديد (الإنغاردي الأصل)، هو ذلك الغياب الذي يطبعُ علاقة النص بالقارئ، أيْ عدمُ وجود معنى جاهز ومعطى بشكلٍ سابق، ممّا يخلُقُ نوعاً من اللاّتناسب بينهما، هذا اللاّتناسب من شأنه أن يُمهِّد الأرضية الصالحة لزرع بذور التواصل، الذي يتغذّى أساسا من استجابات القارئ، وتدخلاته.

ولعلّ من المفيد في هذا السياق، استعراض موقف إنغاردن من مواقع اللاّتحديد هذه، حتّى تتّضح أهميتُها في سياق جمالية التجاوب، التي تَدين في الكثير من تصوُّراتها ومفاهيمها لفينومينولوجيا إنغاردن القصدية؛ فالسّمة المميّزة للعمل الفنّي – حسب إنغاردن- “هي أنّه ليس من صنف الشيء الذي يكون مُحدّدا تماما من كلّ جهة… وهذا يعني بعبارة أخرى أنّ العمل الفنّي، ينطوي في باطنه على فجوات مُميّزة له، تدخُل في تعريفه، أي على مواقع من اللاّتحديد؛ إنّه إبداع تخطيطي. وعلاوة على ذلك، فإنّ كلّ تحديداته ومُكوّناته تكون في حالة تحقّق فعلي، ولكنّ بعضا منها تكون كامنة فقط. ويترتّب على هذا، أنّ العمل الفنّي يتطلّبُ عاملا آخر يوجد خارج ذاته، كي يجعله – وفقا لتعبيري الخاص- عيانيا concrete”[43].

فالبياضات إذن، باعتبارها الوحدة التواصلية التي تتحكَّمُ في اللاّتحديد، “لا تشتَغِلُ كليا كعناصر انقطاع، وإنَّما كبنية للتواصل”[44]. على أنّه يلزمنا – تكميلا للحديث عن عناصر اللاتحديد- التّمييز بين نوعين من البياضات (وفقط تلك التي تقع على المحور التركيبي)؛

الأوّل: هو المتمثل في انقطاع مسار الحكي، في حالة القصة السردية مثلا، حيث يصير الربط بين جزأين منفصلين (أي بين ترابطين جمليين، يبدو أنّ بينهما انقطاعا من حيث الاستمرار الدلالي) أوحلُّ هذا التوتر، بمثابة ملء للبياض. وهذا ما يشكِّلُ وحدةً تنظيمية أدنى في عملية الفهم، وحدة تُتِيحُ -كما أسلفنا- إمكانية إعادة تنظيم أفكار القارئ، عند كُلِّ توقف.. فكُلَّما أصبحت قطعة ما تيمة، تحوّلت سابقتها إلى فراغ ينبغي ملؤُه، في ضوء القطعة الجديدة. وهنا نذكّر بحديثنا السابق، عن تحوُّل التوقُّع إلى خلفية، فالواقع المستحضر (أي التيمة) -كما يقول إيزر:” لا يمكن فصله عن سياقه الماضي، فيما يخصُّ القارئ، بل إنّه يمثل جزءا من وحدة تركيبية، من خلالها يمكن لهذا الواقع أن يكون حاضرا كشيء سبق أن تمّ إدراكه. وبكلمات أخرى، فإنّ الواقع نفسه يكون حاضرا، وكذلك سيحضُر السياق الماضي، والتركيب، وفي نفس الوقت ستَحْضُرُ أيضاً القُدرة على إعادة التقويم”[45].

أما ثاني  نوعَيْ البياضات -التي تقعُ على المحور التركيبي- فهو الأبيض، باعتباره اتّصالا يسهُو عنه النص، على حدِّ تعبير فرانك شويرويجن[46]. ويتمثَّل هذا النّوع من البياضات فيما تمَّ التفكير فيه، لكنّه لم يُثبت من قبل المنشئ، قصدا منه إلى إشراك القارئ، إذ “لا بد أن يعطي المؤلّف شيئا يقوم المتلقي بدوره بتخيله…” كما يرى لورانس ستيرين laurence stern[47]. ولا ينبغي أن يغيب عن المُتتبّع، في هذا الصدد شرط الكفاءة، وقد وقفنا عنده في حديث سابق.

والغايةُ من ترك هذا النوع من الفراغات -كما لاحظ إيزر، من خلال شرحه لبنية الفراغ ووظائفه، وذلك استنادا إلى نصوص روائية مختلفة- قد تكون دعائية، أو تجارية، أو جمالية، أو غير ذلك، بحسْبِ نوعية النصّ الذي يحتويها[48].

ويبدُو من خلال هذا الذي توصَّل إليه إيزر، أنّ الخلفية التي تحكُم ترك هذا النوع من البياضات هي، توجيهُ إدراك القارئ الوجهة التي يفترض أن المؤلّف كان يقصدها حين أنتج النص. غير أنّ هذا المطلب، يبقى مجرّد طموح يصعب تحققه، لسبب بسيط هو اختلاف قدرات القراء، ووضعياتهم، واستعداداتهم.

بقي لنا أن نفهم خصوصية النوع الثالث من البياض، أي ذلك الذي يقع على مستوى المحور الاستبدالي. ولتحقيقِ ذلك، يجدرُ بنا استحضار التّمييز الذي وضعهُ إيزر، بين هذه الأنواع من البياضات، من خلال إطلاقه مصطلحَ الشغور على النَّوع الأوّل من البياض، وهو ما سميناه من قبل بالفجوة، أو الانقطاع، أما النوع الثاني، أي ذلك الّذي يحيل على ما هو مسكوت عنه داخل النص، ففضّل إيزر الإبقاء على مصطلح البياض(أو الفراغ ) للدِّلالة عليه. وأما النوع الثالث وهو ما نريد التطرق إلى خصوصياته، ومن ثمّ إلى أهميته بالنسبة  إلى تصوُّر إيزر- فيُحدِثُه ما يسميه إيزر “بالنفي”[49].

وقد احتل هذا المفهوم الأخير، الحُظوة في منظور إيزر للنص التخييلي، وكذا في ملاحظاته الوجيزة التي انصبّت حول تاريخ الأدب، فالأدبُ الجيد –عنده لا بُدّ أن يتوفر على هذه النفيِيَّات négativités، التي تعمل على إلغاء العناصر المألوفة الآتية من الخارج، وإبطال مرجعيتها الواقعية، فتدفع -من ثم- القارئ إلى المُشاركة في إنتاج المعنى. وموقف إيزر هنا شبيه بالموقف الذي اتّخذه من المفهوم الأول للبياض(أي الشُّغور)؛ فهو يرى أن النفي، أيضا، عليه أن يتجاوز آفاق وتوقعات القراء المتعاقبين على النص، بل أن يُحبطها، وإلاّ صُنِّف العمل ضمنَ خانة الكتب الرخيصة. وهكذا يغدُو النفيُ معيارا محددا للقيمة الأدبية، وللدَّرجة التي يُمكن أن يعمل فيها نصٌّ من النصوص على تنشيط أفعال الإدراك لدى القراء.

ويمكن فهم هذه النفييات على أنها بديل غير مصاغ للنص المصاغ، فالأدب الذي يريده إيزر، لا يقولُ وإنما يلمح، من خلال استغلال مناطق النفي، التي من المفروض أن تنبّه القارئ، إلى معنى عميق يَلزمُه الكشف عنه وتوليده.. إنّ النفييات والبياضات، كما يقول هولاب: “وسائل جوهرية يتمُّ من خلالها التواصل، وهي تشكّل نوعاً من السلاسل المترابطة التي تُشتقُّ من النص، لكنَّها ليست مطابقة له”[50].

وإذا كان الشغور، يعمل على إبطال علاقة القرابة الدلالية، بين الترابطات الجُمَلية، فإنّ النفي يُبطل الترابط، بين الصور الإدراكية المُرَكّبة، كما أنّ هذه (النفييات) – من وجهة نظر التلقي- تتمثَّلُ فيما لم نتمكَّن من إدراكه؛ هي السؤال المُضمر، الذي يمكِّنُنَا من تحرير ذواتنا مؤقتا، من خلال عمليات الإسقاط، التي نقوم بها للتخفيف من وطأة هذا التحدي النصّي المعجز أحيانا، والتمكّن من استيعاب أفكار الآخرين. وهنا تكمُن قيمتُها في الدَّفع بعملية التواصُل نحو النجاح. وإذا نظرنا إلى هذه النفييات، على أنها بنيةُ النص العميقة، أي المعاني الضمنية التي لم يتمّ التصريح بها، فإنّ إيزر يُصرّ على أن هذه المعاني الضمنية -سواء ارتبطت بالنفي أو بالبياض- هي التي “تُعطي شكلا ووزنا للمعنى، ولكن مثلما يتولد الشيء غير المذكور، في مخيِّلة القارئ، فإنّ ما يُذكر يَتوَسَّعُ لكي يأخذ دلالة أكبر ممّا يكون قد افتُرض سابقا”[51].

إن قليلا من التأمُّل في القول السابق -في ضوء كلّ ما تقدّم- يكشفُ عن الحدود الصارمة التي وضعها إيزر للدّلائل اللسانية داخل سياقاتها النصية، “فذخيرة العلامات في النصّ الأدبي، باعتبارها قاعدة، تكون محدودة جدّا”[52]، على حدّ تعبير إيزر. والاتّكاءُ الكلّي -من قبل القارئ- على ما تُقدِّمه هذه الدلائل، اعتقادا بإحالتها على مدلولات محدّدة، سيغلق عليه أبواب الفهم والتأويل. وليس أدلّ على مركزية هذه الرؤية، في نظرية إيزر، من موقفه التالي : فهو يرى أن عرض الشخصيات في بعض النصوص، بشكل مرآوي، ليس مقصودا في ذاته، بقدر ما هو علامةٌ على معنى (أوسع)****، لابد للقارئ أن يكشِف عنهُ من خلال تخطّي الدلائل اللِّسانية في حدِّ ذاتها، وسيمكنه ذلك من إدراك قيمة العمل، ذلك أن وظيفة النصّ الأدبي تنجز لا من خلال ربطه بالواقع، ولكن من خلال الانفتاح على عالم أنشأه هو بنفسه.

على أنّه، بالرُّغم من الأهمية التي أولاها إيزر لمفهوم اللاّتحديد في النصوص التخييلية، وما ينضوي تحته من حديث عن البياضات والأماكن الشاغرة والنفييات، فإنّ هذه المفاهيم الأخيرة تظلّ غير مُستبينة، يلفُّها الغموض والمراوغة، وهذا مقصود من قبل إيزر، كما سلف الذكر. والخلاصة التي يمكن الظفر بها من كلامه، هي أنّ مواقع اللاّتحديد تفتحُ أبواب الموضوع القصدي على مصاريعها، ممّا يجعله مستحيل الإغلاق. فما دامت عملية ملء الفراغات تخضع للاستعدادات الذاتية للقراء، فإنها ينبغي أن تُقدِّم مجموعة لا متناهية من التحقُّقات، تختلف باختلاف هؤلاء القراء وباختلاف قدراتهم واستعداداتهم وتجاربهم.

هكذا يكون على وجهة النظر أن تتخطّى كلّ هذه العقبات، التي يضعها النص في طريقها، والتي تُتيح في الآن نفسه -إذا تمكّن القارئ من استثمارها بشكل إيجابي- إمكانيات حدوث نوع من التكامل بين بنية النص وأفعال الإدراك. فالقارئ يعمل على كشف تعدّدية المنظورات المترابطة، التي تؤدّي أحيانا إلى تضارب وجهات النظر، ممّا يفرض عليه القيام بانتقاءات، لتجاوز هذه التعددية في المنظورات، ولتوجيه مسار القراءة الوجهة التي يرتضيها.

إنّ ما ينشأ عن حركية وجهة النظر الجوالة، وانتقالها بين المنظورات النصية المختلفة ما دام النص لا يقدِّم نفسه ككلّ متسق يُمكن عدّه بمثابة جشطالت مفتوح، يطرحُ إمكانيات متعددة للتأويل، فيلجأ القارئ -سعـياً مـنه إلى تحقيق نوع من الانسجام- إلى إغلاق النّسق النصي، “وبلوغ هذا الانسجام لا يُمكن أن يكون، إلاّ على حساب كثيرٍ من العناصر الجزئية الأخرى، التي لم يأخذها بعين الاعتبار”[53].

قد تبدو محاورة النص مُتماثلة بالنسبة إلى جميع القراء، لكنّها في الواقع على خلاف ذلك تماما، وذلك بالنّظر إلى الطبيعة التخييلية لنصوص الأدبية، فهي تتيح إمكانيات متشعبة للاحتمال الدلالي، ممّا يجعل القارئ -في بيداء هذا التيه الاحتمالي- مضطرا إلى القبض على خيط واحد ووحيد، يكون سبيله إلى تأويل متَّسق (حسب اصطلاح إيزر) مقابل إقصاء كلّ الإمكانيات التدليلية الأخرى. وحسبما يرى إيكو فـ”إذا صحّ القول دائما بوجود أكثر من طريقة لتفسير النصّ، فلا يصحّ القول بأنّ التأويلات متساوية. فالنصّ يقدّم ميدانا محدودا من الأبنية الممكنة. ويتيح لنا منطقُ التصديق أن نتحرّك بين حدّي الدغمائية والشكية. بل يمكن دائما الوقوف مع أو ضدّ تأويل مُعيّن، والمواجهة بين التأويلات، والفصل بينها والبحث عن اتّفاق، حتّى لو كان هذا الاتّفاق بعيدا عن متناول أيدينا”.[54]

فماذا يقصد إيزر بالتأويل المتّسق أو “الجشطالت“!؟ وإلى أي مدى كان هذا المفهوم مُسعفا إياه في الأخذ بيد القارئ المسكين، الذي ولج عالم الخيال دون وعي بمغبّات هذه المغامرة المليئة بالمخاطر والمكائد. فلا يكاد يلمح شيئا من نور الدّلالة، حتى يُلقى به في ظلمات الغياب والفراغ والنفي. ولا يكاد يستقرُّ به الأمر على وجهة نظر -بعد قطع أشواط من التنقل بين منظورات النص- حتّى يضطر إلى تغييرها، وهكذا..

  • التأويل المتّسق: “الجشطالت”

لا بأس أن نشير وقبل الانتقال إلى رصد تجليات هذا المفهوم، داخل حقل الجمالية الإيزيرية إلى أن جهود المؤسّسين الأوائل لنظرية الجشطالت، وهم “كيرت كوفكا”Kurt Koffka  و“ولفجانج كوهلر” Wolfgang Köhler و“ماكس فيرتهايمر”max Wertheimer ، لم تتّجه قطُّ إلى دراسة الفنون، ولا تُستثنى منها إلاّ محاضرة (يتيمة)، شارك بها كوفكا في إحدى النّدوات عام 1940، بعنوان: مشكلات علم نفس الفن، أزاح من خلالها الستار عن عدد من القضايا الفنية، التي يُمكن أن تكون مجالا خصبا لتطبيق المبادئ الجشطالتية[55].

إن العمل الفنّي في نظر كوفكا –كموضوع قابل للإدراك موضوعٌ يحصُل على وجوده من خلال النّشاط الخاصّ بالكائن الحي (خاصة الإنسان)، في ضوء قوانين الإدراك. لذا فهو قد رفض وجهة نظر “فيخنر“، التي تؤكِّدُ على جانبٍ دون آخر في تحديد الجمال، إما الخصائص الشكلية، وإمّا الاستجابة الانفعالية، فتظل قاصرة في نظر كوفكا[56].

ليس بدعا إذن، أن يكون مفهوم الجشطالت، عمودا من الأعمدة التي يتأسّسُ عليها فعل الإدراك الجمالي في منظور إيزر، فقد ظلّ علماءُ الجشطالت ممّن انصبّ اهتمامهُ على القضايا الفنية يؤكّدون على فكرة مفادها أنّه لا يمكنُنا الحديث عن العمل الفني، دون أن نتحدّث عن الشخص القائم بالإدراك لهذا العمل، فالتذوُّق في نظرية كوفكا، “علاقة مشتركة بين الخصائص الفيزيقية للعمل الفني، والقُوى الدينامية للمتلقي”[57].

ويُشير أرنهايمArnheim   Rudolf– وهو واحد من أبرز الأسماء في سيكولوجية الفن عامة، وسيكولوجية الإدراك الفني من منظور جشطالتي خاصة- إلى أنّ العمل الفني هو صورة، ولا يمكن تكوينه على نحو كامل، ما لم يُوضع المتلقي في الاعتبار[58].

واستنادا إلى الأثر النظري لعلماء الجشطالت وخاصة ما كتبه رودولف أرنهايم- الذي ينسجم إلى حدٍّ كبير والطرحَ النظري لجمالية التجاوب، حاول إيزر استثمار مصطلح الجشطالت ليُطلقه على مرحلة هامّة من مراحل مسيرة الفعل القرائي، داخل المنظورات النصية، وهي مرحلةُ اتّخاذ القرار بإغلاق كلِّ الاحتمالات التي يُقدِّمُها النص، للخروج من عتمة التعدّد واللانهائية الاحتماليين، اللّذين يشكّلان أهمّ خصوصيات الخطاب التخييلي.

إن التأويل المتسق (أو “الجشطالت“) هو حصيلة التفاعل بين النص والقارئ. وبالتالي لا يمكن إرجاعه إلى النصّ المكتوب، ولا إلى استعداد القارئ فقط[59]، وهنا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام ثنائية الذات/ الموضوع، التي تُعلن على نفسها كإشكالية كبرى، تبرز من خلال التشعُّب الذي تعرفه الذات خلال القراءة، وهو أمر أقرّ به إيزر، بل إنّهُ حوّل الانقسام المعتاد بين طرفي الثنائية الى انقسام داخل الذات نفسها؛ فهو يرى أنّ عملية التأويل (أي عملية الكشف عن المعاني الخفية، التي يقوم بها القارئ)، ما هي إلا تعرُّف على ذلك الجزء من الوعي الذي ظلّ خفيا عنه من قبل. وتتّضحُ هذه الرؤية، من خلال قول إيزر: “لا يتضمَّنُ تكوينُ المعنى خلق شمولية تبرز من خلال المنظورات النصية فقط، بل أيضا يُساعدنا تكوين المعنى على صياغة أنفُسنا من خلال صياغة هذه الشمولية، وبالتالي يساعدنا على اكتشاف عالمٍ باطني لم نكُن واعين به إلى ذلك الحين”[60].

من هنا فإنّ العملية المعقَّدة، التي تَنتُجُ عن حركية وجهة النظر الجوالة، والتي تنتهي في آخر المطاف إلى بناء “الجشطالت”، تجعلُ من الصَّعب التمييزَ بين ما يقدِّمُه النصّ، وما يُنتِجُه القارئ، هذا ما لاحظهُ غومبريخ  Ernst Hans Josef Gombrichوإن كان كلامه فضفاضا ينصرف إلى التلقي بمفهومه الواسع حين قال: “من الصعب دائما التّمييز في قراءة الصور، كما في الاستماع إلى الكلام، بين ما يُعطى لنا وما نضيفه نحن إلى عملية الإسقاط التي يثيرها الإدراك…”[61].

تحضُرُنا أيضا في هذا السياق، نظرة إيزر إلى الوظيفة المنوطة بالمفردات اللغوية في سياقها التخييلي، والتي رأينا فيما سلف أنّها محدودة الأفق، بالنظر إلى الحدود الصارمة التي تحكمها. يضيف إيزر –في موضع آخر، مستندا إلى قول سميث Smith Frank إنّ “المعنى يُقاوِمُ دائما الكلمات الخالصة” أنّ عمليةُ القراءة لا يمكنها أن تكون مجرّد تعرُّف على الدلائل اللسانية الفردية، بل لابُدَّ أن يعتمد فهمُ النص على إضمامات الجشطالت، على حدّ تعبيره.[62]

ولمّا كان بناءُ المعنى لا يتمُّ إلاّ عن طريق إضمامات الجشطالت وهي لا تكاد تخلو من نفحة ذاتية، تُطلقها إسقاطات القارئ فإن إيزر، يقترح تعريف الصور الجشطالتية (كارتباط ذاتي) بين الدلائل النصية. وسيكون من شأن هذا المُصطلح أن يعمل على كبحِ جماحِ الذّاتية المُتطرّفة لبعض القراء، فبالرغم من محدودية الدّور الذي تُؤديه الدّلائل اللسانية داخل فعل الإدراك الجمالي، فإنّه لا إمكانية لقيام جشطالت gestalt ما لم يكُن هناك ترابطٌ كامن بين هذه الدلائل؛ فمن خلال هذا التّرابط يكتسِبُ النصُّ سمةَ التفرُّد والتميُّز عن غيره من النصوص، ويتَّخذُ لون التجربة المتّصلة به، من حيث هو إنتاج في المقام الأول، ومن حيث هو عنصرٌ فعّال في إنتاج الموضوع الجمالي بشراكة مع القارئ في المقام الثاني. وعلى هذا الأساس، فإنّ دور القارئ في الجشطالت سينحصر في الكشف عن هذه الترابطات، والتعرف على العلاقة بين العلامات، “وسيمنعه مصطلح الارتباط الذاتي من إسقاط معنى اعتباطي على النص”[63].

لقد مررنا، فيما تقدَّم، على نوعين من الجشطالت: أحدُهما أطلقنا عليه اسم “الجشطالت المفتوح”، والثاني هو ما يُمكن تسميتُه -التماسا لشيء من الدقةبـــ“التأويل السياقي المُتَّسق“، وهو جشطالت يؤتى به لإغلاق الجشطالت الأول. ولبيان ذلك نشير إلى التّمييز الذي وضعه إيزر، من خلال حديثه عن مرحلتين مُتميزتين في عملية بناء الاتّساق – مستندا في ذلك إلى رواية “توم جونز” لفيلدينغ Henry Fielding، كنموذج للتطبيق- هما:[64]

الأولى: تشكيلُ جشطالت أولي ومنفتح، ينبثق من تفاعل الشخوص، وتطوّر الحَبْكة. وأخذا بعين الاعتبار، أن الحبكة ليست مقصودة في ذاتها -وذلك انسجاما مع طبيعة النصوص الأدبية، التي ترمي إلى التعبير عن شيء يتجاوزها- فإنّ هذا الجشطالت، الذي يمثّل تطوُّر الحبكة، يظلُّ مفتوحا، ولا يُمكن أن يحدُث الانغلاق، إلاّ إذا أمكن تمثيلُ دلالةِ الحدث، بواسطة جشطالت آخر. وهذا لن يتمّ، إلاّ بتبني خيار الانتقاء.

والثّانية: اختيار جشطالت، من أجل إغلاق الجشطالت الأول، ولا يتمُّ هذا الإغلاق -كما قلنا- إلاّ عن طريق الانتقاء (وهو إجراء ذاتي)، يقول إيزر: “يجب اتِّخاذُ قرارات انتقائية، وهي ذاتية، ليس لكونها اعتباطية، بل إنّه لا يمكن إغلاق جشطالت ما، إلاّ إذا تمّ انتقاء إمكانية وإقصاء البقية. سيعتمد الانتقاء على الاستعداد الفردي للقارئ، وعلى تجربته”[65].

ويشكل الوهم في نظر إيزر- مظهرا مُهمّا من مظاهر الجشطالت، يستغله النص من أجل بناء الترابطات في وعي القارئ، وهو يحدث -كما يبدو- من خلال تجميعات الصور الجشطالتية، أي خلال إغلاق الإمكانات التّدليلية التي يتيحها النص، ممّا يؤدي إلى “إقامة تصوُّر لَحْظَوِي يقتنع به القارئ، باعتباره المعنى الوحيد المُمكن للنص”[66]، أو يتوهم ذلك.

غير أن إيزر، يشيرُ إلى أن بناءَ الاتّساق، ليس عملية لتشكيل الوهم، وهذا يعود بنا خطوات إلى الوراء، للتّذكير بتلك العمليات المعقّدة التي تحدُث حين تجوال وجهة نظر القارئ، بين الترابطات الجُمَلية، والمنظورات النصية، والتي تعملُ على تجديد وجهة النظر بين كلّ  تذكُّرٍ وترقُّب (أو توقّع). هذه التوقعات، الملازمة لصيرورة القراءة، لها أثرها الواضح في نظر إيزر- في تشكيل الوهم، ” فالوعي القارئ – كما قال سارتر– عند شرُوعه في القراءة يتوقّع وينتظر، يتوقع نهاية الجمل والصفحات التالية”[67].

وإذن فوعي القارئ، لا يعملُ بمعزلٍ عن هذه التوقعات، التي تُسعفه في عملية تجميع الصور الجشطالتية، فيكون تشكُّل الوهم، سابقا على بناء الاتساق. وتبدُو أهمية هذا الوهم -الذي عدّهُ إيزر آلية من آليات النصّ، الفاعلة في تنشيط فعل الإدراك- في انفتاح النص على إمكانيات تأويلية متنوعة، فكلُّ قارئ يريدُ إغلاق دلالة النص، في الوقت الذي يتبيَّنُ أنّ طبيعة تركيب النصوص الأدبية، في تحدِّ دائمٍ لهذا الإغلاق، مادامت مقروئيتُها مفتوحة على الدّوام.

وقد لاحظ الدكتور حميد لحمداني، أنَّ الوهم الذي يقصده إيزر هنا، ذو طبيعة نسبية[68]، ذلك أنّ القُراء -خلال عملية القراءة- لا يفكِّرون إلاّ في مادة النص، فلا يُعقل أن تكون توقعاتهم، خارجة عن الإطار الدّلالي الذي يرسمه النص. كما أنّ علاقة التفاعُل التّبادلي، بين النصّ والقارئ -التي تُقِرُّ بها جمالية التجاوب- تقتضي توضيحا أكثر لمسألة الوهم، التي تحدّث عنها غومبريخ وتبناها إيزر، لئلاّ يُستشفَّ منها حرمانُ النصّ من هُويته، في مقابل طغيان ذاتية المتلقي. فعملية تشكيل الجشطالت – كما يقدّمُها إيزر– لا يُمكن أن تستغني عن الوهم، الذي يقاوم تعقيد المؤلف، وينحُو بالفهم إلى النّحو الذي يُرضي القارئ. يقول  لوتمان Yuri Mikhailovich Lotman– في كلمات استشهد بها إيزر في هذا السياق: “إذا ما بدأ المُؤلِّف في زيادة عدد أنساق السنن، وتعقيد بنيتها، فإنّ القارئ سوف يميل إلى اختزال الجميع، إلى ما يراه حدّا أدنى مقبولا…”[69]. وعموما فإنّ ترك المسألة، بهذا النوع من التجريد، يُبقي كثيرا من الالتباس في فهم طبيعة الوهم.[70]

هكذا يبدو بناء التأويل المتّسق أو “الجشطالت”، نَتَاجاً لشراكة حقيقية، بين بنية النصّ وقارئه. وهي شراكةٌ نذر إيزر نفسه، لتسطير بنودها، وخطوطها الكبرى.. فلا يكاد المُتتبِّع (الحاذق) يُوقن بأحادية الفعل القرائي، في محطة من محطات نظرية جمالية التجاوب، وقيامه على قاعدة البنية دون الإدراك، أو العكس، حتى يقف على توجيه أو تنبيه، يؤكِّد من إيزر خلاله، على أهمية الجانب الآخر، وحضوره في عملية بناء الموضوع الجمالي. فالقارئُ يجدُ نفسه مضطرا -في لحظة من لحظات القراءة- إلى إغلاق الاحتمالات الدّلالية التي يُتيحها النص.. وما ينبغي تأكيدُه هنا، هو أنّه لا وجود لقراءة بريئة، لا تريد من النصّ إلاّ النصّ نفسه، وعلى هذا فعملية الانتقاء، التي يقوم بها القارئ:

  • تتَّجِهُ إلى الوجهة التي تُرضي توقُّعاته، المترسِّبة عن الانتقال بين المنظورات النصية، ممّا يؤدي إلى تشكُّل الوهم؛

  • كما تُحاول إقحام النصّ ضمن الخُطاطة الذهنية، الضامّة لأهمّ معطيات تجربة هذا القارئ، اعتقادا بتمثّل دلالته الوحيدة والحقيقية.

كلُّ هذا يتمُّ بطريقة يلعب فيها النصّ الدور الأهم، بحيثُ يعمل على كسر أفق الإيهام، ممّا يُؤدِّي إلى الانفتاح، وليس إلى الانغلاق، الذي يبحث عنه القارئ.

وهنا يُمكن أن نسجل ملاحظات بالغة الأهمية، تدخل في نطاق التحدّي النصي، الذي ألمحنا إليه في غير ما موضع من هذا البحث؛ فقد سبق لهُ (أي النص)، أن تحدَّى قُدرة المنشئ المحدودة، على تحويل كلّ ما يفكر به (أو يريد توصيله) من مضامين، وقيم، ومبادئ… إلى عناصر نصية، تكتسب مرجعيتها من النص ذاته، فوجدنا الفراغات والفجوات، التي يعملُ النصُّ- فيما بعد- على تحويلها إلى نقط “وصل”، بعد أن كانت نقط “فصل”، من خلال الحركية ذات الاتّجاه المزدوَج لوجهة النظر، حيث يؤوِّل ما هو مضمر، بما هو مذكور، ولا يتدخَّلُ القارئ “كذات” إلا لفضِّ التّصادم، الذي يحدث بين ما كان في الذاكرة من جهة، وما هو متوقّعٌ من جهة أخرى، فتتغيَّرُ وجهة النظر تبعا لذلك. وها هو ذا الآن يتحدَّى طُموح القارئ، إلى الميل بدلالته نحو الإغلاق والنهائية، فقد بيّنت عملية تشكيل الجشطالت – كما تقدَّم- أنّ التَّرابُط الكامن بين الدلائل اللسانية، هو المُنطَلَقُ الذي لا يتمُّ تأويلٌ في غيابه، ومن ثمَّ “إذا كان للتواصل، بين النص والقارئ، أن يكون ناجحا، فإنَّهُ يجب على نشاط القارئ، أن يكون مضبوطا بوضوحٍ، بطريقة ما من طرف النص”[71].

يُخَيَّلُ إلى الدّارس لنظرية إيزر – من خلال كل الأشواط التي قطعناها- وكأنّ ما يُفرض على القارئ للنصوص التخييلية – من ضرورة التنقُّل جيئة وذهابا بين المنظُورات النصية، للوصول إلى وجهة نظرٍ تنأى بنفسها عن الإسقاطات الاعتباطية – غيرِ المحيطة بخصوصيات النص، ولا العارفة بطبيعة النصوص من هذا النوع، وبطريقة التعامل معها- يُفرض عليه هو كذلك. فقد نراه كثير التوقُّف، شديد الاضطراب، تُحيِّرُهُ إشكالية، تعتبر من أهمّ سمات المنظور الإيزيري، ألا وهي إشكالية التداخل الكبير، بين ما هو نصّي، وما هو إدراكي، إلى درجة التّماهي أحيانا. لذلك فهو غالبا ما يفقد البوصلة، التي توجِّه تحركاته، ضمن هذا النسق المتشعِّب من المفاهيم، التي قد تبدو له أحيانا مجرّد ركام يفتقر إلى التنظيم. لكن سُرعان ما يعكس النسقُ انتظاما، وتناسقا في أفكاره ومبادئه حين ننظر إلى هذه المفاهيم، باعتبارها وحدة متكاملة العناصر، بحيث لا يمكن فهم الجزء إلاّ في علاقته بالكل، والعكس. من هنا كان لزاما علينا -لاسترجاع البوصلة، التي لطالما ضاعت منا- الوقوف عند واحد من المفاهيم المركزية، بل ومن أكثر المفاهيم إثارة للجدل، في نظرية إيزر، وهو مفهوم القارئ الضمني، الذي تربطه بباقي المفاهيم وشائج، لا يمكن إغفالها.

  • القارئ الضّمني كبنية نصيّة: ونقد أنماط القُرّاء

شكّل مفهوم القارئ الضمني  lecteur impliciteمحورا لمجموعة من المقالات، حول النّثر القصصي، كان إيزر قد نشرها، ضمن كتابٍ يحملُ العنوان نفسَه (عام 1974)، مستفيدا من وين بوث Wayne Clayson Booth، في مفهومه للمؤلف الضمني، الذي عرضهُ بشكلٍ مفصَّل، في كتابه “بلاغة الفنّ القصصي“(1961)[72].

وربّما كانت أفكار وين بوث، التي عرضها في كتابه المذكور، رافدا أساسيا ينضاف إلى تلك الروافد التي أغنت الزّاد النظري لجمالية التجاوب ككلّ، وليس ما يتعلّق بمفهوم القارئ الضمني فحسب. يتأكّد هذا إذا علمنا أن مجمل كلام بوث، الذي ضمّنه هذا الكتاب، يميلُ إلى تمجيد الطّرف الثاني من ثنائية الخارج / الداخل، على حساب الطرف الأول. وهو موقفٌ صريح من الإحالة المرجعية الواقعية، لطالما شدّد إيزر على أهميته، بالنسبة إلى النصوص التخييلية (وقد بيّنا ذلك فيما تقدّم من فقرات هذا البحث)؛ “فما كان يشغل النظرية النقدية، بالبحث عن مرجعيات للعمل الأدبي، تحوَّلَ إلى البحث عن بنيات نصية، تجسّد كلّ ما هو خارج العمل، من موضوعات يتّجه إليها العملُ الأدبي في مخاطباته”[73].

وقد لاحظ وين بوث – ومن سار على دربه من معاصريه- أن التّعاون مع المؤلِّف الحقيقي، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من المقاربات النقدية الجديدة، أحدث عند كثير من نقاد الأدب، خللا في فهم خصوصيات العملية الإبداعية، وذلك لخلطهم بين ما هو داخلي، وما هو خارجي، وتحميلهم المؤلّف الحقيقي ما لا يطيق.

حاول بوث تقديم حلٍّ نهائي لهذا الإشكال، فكلُّ عمل فني – في نظره-“ينطوي على صورة ضمنية لمؤلف مختبئ، يوزِّع صوته بين شخصيات الرواية، ليخلق إيهاما بأنّ وجهة نظره تتوفر على أساس موضوعي”[74]، بحيث تصيرُ وجهة النظر، نتيجة طبيعية لما يجري من أحداث داخل الحكاية، ولا يُمكن نسبتها إلى المؤلف الحقيقي، مهما انسجمت مع أفكاره ومبادئه. ذلك بأنّ المؤلّف الضمني – كما يؤكد بوث- يختلف دائما عن الإنسان الواقعي، من حيث هو الصوتُ الذي يطلقُه المؤلّف الحقيقي، في بنية النص، ليقوم بوظيفة خلق استجابة لوجهة النظر.

ويختلفُ المؤلف الحقيقي -حسب بوث– عن المؤلف الضمني (السارد) اختلافا جوهريا؛  فالأوّلُ شخصٌ له وجود واقعي، ويمارسُ فعله الاجتماعي، كأي فرد من أفراد المجتمع…؛

أمّا الثاني فهو كائن نصي، يتّخذُ من النصّ مجالا لتحركاته، ولا يتعداه إلى خارجه، باعتباره وجها من أوجه البناء الروائي ككلّ.

ومن هُنا يمكِنُ فهم المؤلف الضمني، على أنّه “التقنية التي تُوقف التدخلات المباشرة للمؤلف الحقيقي”[75]، من خلال تجسيدها وجهة النظر تجسيدا نصيا، ممّا يتيحُ للقارئ إمكانيات الفهم والتأويل، ما دام المعنى ليس شيئا خارجيا، يُفرض عليه فرضا.

إنّ “اختزال المسافة، بين السارد [المؤلف الضمني]، والقارئ الضمني…§ هو تقنيّةٌ للإيهام بحقيقة الفعل أولا، ومن ثمّ خلق نوع من الاستجابة للعمل…”[76]، فيكون القارئ – بحسب هذا المنظور- واضع اللّبنات الأخيرة، في عملية تشييد المعنى، إذْ هو المرويّ له. وهكذا يتّضح أن مسألة التلقي، استأثرت باهتمام بوث، فكان حريا بإيزر، أن يعود إلى بعض أفكاره، التي تتّفق والتوجّهات الكبرى لجمالية التجاوب، وخاصة مفهومه للمؤلف الضمني. لكنّ ذلك لم يمنعهُ من تسجيل اعتراضه على بوث، على اعتبار على أن ما ينطوي عليه النص، ليس مؤلِّفاً ضمنيا، وإنّما هو نوع من التوجُّه الضمني، يتوجّه به العمل الأدبي إلى المتلقي، لتنظيم عملية التواصل[77].

إنّ ما كان يسعى إليه إيزر، من خلال تقديمه هذا المفهوم، هو محاولة تعيين قارئ مُبَنْيَن في النص لا يبرحُه، يعمل على مراقبة فعل القراءة، من خلال تقديمه لمُهمتين رئيسيتين: فهو يُدمج كُلاًّ من عملية بناء النصّ للمعنى المحتمل، وتحقيق المعنى من خلال عملية القراءة في آن، ويكون مغايرا في طبيعة تكوينه للقارئ الصريح، بل وحتى لما يُطلق عليه القارئ الافتراضي.

ولم يشأ إيزر تقديم مفهومه للقارئ الضمني، في انعزال تامّ عن تصوُّر مبدئي لنوعية القارئ، الذي يريد التعريف به. ولتحقيق نوع من الانسجام والترابط المنطقي، بين الأفكار التي يعرضها، نجدُه يقف وقفة متأنية عند مقولتين تشكّلان أساس النظر إلى أنماط القُراء ووضعياتهم. فعندما يُصدر النّاقد الأدبي أحكاما حول تأثيرات الأدب، أو أنماط التجاوب معه، يتمُّ استحضارُ عدد من القراء، يصنفون تبعاً لطبيعة اهتمام الناقد؛ ففي حالة الاهتمام بتاريخ التجاوبات، نكون بصدد ما اصطُلح عليه “القارئ الحقيقي”، وفي حالة الاهتمام بالتأثيرات المحتملة للنصوص الأدبية، نكون أمام قارئ يوسم بأنه “افتراضي” hypothétique، وهذا يشمل بدوره نوعين من القراء هما: القارئ المثالي lecteur idéal، والقارئ المعاصر lecteur contemporaine [78].

فـالقارئ الحقيقي، هو قارئ يُدلي بآرائه حول النص، فيكون القراء الحقيقيون، هم القراء المتعاقبون على قراءة النصّ عبر سيرورة زمنية، أو جمهور المتلقين الذي نستطيع التعرُّف على معاييره الخاصة، من خلال حُكمه على العمل. وتعتمد إعادة تركيب القارئ الحقيقي، على بقاء المعايير، التي كان متعارفا عليها، في إطار (المؤسّسة الأدبية)، لتحديد ما إذا كان القارئ (أ)-مثلا- ينتمي إلى هذا العصر أو ذاك…إلخ. لكن عندما يغيب التوثيق، يتعذَّر التأكُّد من صحة انتماء قارئ إلى عصرٍ بعينه، ومن ثمَّ يكون على الناقد، أن يُقيم عملية إعادة التركيب، استنادا إلى ما يمكن تحصيلُه من الأعمال الأدبية نفسها، في عزلة عن القراء. وهذا يطرحُ مشكلا حقيقيا، يتمثّل فيما إذا كانت عمليةُ إعادة التركيب – بهذه الطريقة- ستعطينا صورة، تتطابق فعلا والقارئَ الحقيقي لهذه الحقبة، أم أنّها تُعيد تركيب ما كان المؤلف، يريد من القارئ القيام به. ممّا قد يلقي به (أي الناقد)، في دائرة القارئ المثالي، الذي يكونُ له سنن مطابق لسنن المؤلف، وليس لسنن القراء الحقيقيين[79].

وهكذا يخلص إيزر إلى أنّه، من الصّعب أن نُحدِّد المرجعية التي يستند إليها القارئ المثالي، ومن ثمّ فهو استحالة بنائية؛ فإذا كان أمر تحديد دوره موكولا إلى المؤلف، فلن يكون لوجوده أي فائدة تُنتظر، ما دام سيكتفي بتبليغ رسالة المنشئ. وحتّى إذا سلّمنا بالفكرة القائلة: إنّ المؤلّف قد يكون، في الآن نفسه، قارئا مـثاليا لعمله – وهي فكرة لا تجد عضدا حتّى من جانب تصريحات المؤلفين بهذا الصّدد- على اعتبارِ أنّه جرب ما كتبه، فإنّ فرضية القارئ المثالي، سوف تثبت عدم جدواها، لأنّه ما من مؤلف، إلاّ وسيُعيدُ – أثناء قراءته عمله- تشكيل السَّنَن، الذي سبق له تشكيله، خلال لحظة الإنتاج، ولن يضيف شيئا ذا بال، بل إنّه لن يحتاج إطلاقا، إلى تقمُّص شخصية القارئ.

ولنناقش مع إيزر، فرضية القارئ المثالي، من منظور آخر؛ فهذا القارئ يُفترض فيه، أن يكُونَ قادرا على تحقيق المعنى الكامن للنصّ التخييلي بتمامه. بيد أنّ واقع التجاوبات الأدبية -عبر التاريخ- يُؤكّد أن المعاني الكامنة في النصوص، يتمُّ تحقيقها بطرق مختلفة، وليس في مقدور قارئ، بأيّ حال من الأحوال، أن يلمّ بها جميعا (أي بجميع المعاني الممكنة للنص)، فقراءةُ النصّ الواحد تختلفُ من قارئٍ لآخر، ومن زمن لآخر. والحديثُ عن نوعٍ من الاستهلاك التّام للنص، سيكون ضربا من استحالة إجرائية، لا يـقرُّ بها منطقُ النقد السليم، كما أنّ هذا النوع من القراءة (الاستنزافية) – إن صحّ التعـبير- إذا ما تمّت، من قِبَل قارئ (هو القارئ المثالي كما هو مفترض) ستكونُ تدميرا للأدب، لأنّها ستُغلق جميع إمكانيات تحيين معنى النص، فيدرج إذ ذاك ضمن لائحة ما يسميه إيزر بالأدب الرخيص[80].

إنّ هذا القارئ (المثالي) -إِذاَ ما وُجد- سيحدَّدُ دورُه في الكشفِ عن أسرار النص، أثناء عمليات التأويل، حيث يَعملُ على سدِّ الفجوات التي تظهرُ على الدوام، في أيِّ تحليل للآثار والاستجابات الأدبية[81]، كما يعمل على حلِّ جميع المشاكِل، التي يُمكن أن تعترض سبيل القارئ. وقد لا يكونُ حضوره مطلوبا، إذا كُنّا أمام نصٍّ من نصوص الأدب الرخيص كما يسميها إيزر- التي تُقدِّم المعنى جاهزا، بين يدي القارئ، في أوّل لقاء بينهما. وعموماَ فمهما يَكُنْ من أمرِ القارئ المثالي، فهو لا يعدُو كونَهُ كائنا مفترضا، لا وجود له على أرض الواقع.. ممّا يدعونا إلى تمييزه عن القارئ المعاصر، الذي يُنظر إليه على أنَّهُ، يمثل الطبقة المتلقية للنص في عصره، وينضبطُ لأعراف ومبادئ وقيم الجماعة المتلقية، فيتلقّى النصَّ بناء على ربطه بمجموع الخصوصيات الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي نشأ داخلها. وهذا النوع من القراء – على عكس القارئ المثالي- يُفترض أنه موجود دون شك.

 وقد لاحظ إيزر، إعراض نقاد الأدب عن المُقاربات التقليدية لقطاعات وأنواع القُرّاء، التي غالبا ما سقطت في فخّ الفهم الخاطئ لفعل القراءة، وهو يرى أنّنا إذا أردنا فهم طبيعة هذا الاتِّصال، ونوع الاستجابة الناجمة عنه، علينا أن نعترف بوجود قارئ، لا ينضبطُ لأيّ تحديد مسبق، ولا يتقيّد بحدٍّ زمني أو مكاني. وعلى هذا الأساس فإنّ قارئ إيرز وهو ما اصطلح عليه القارئ الضمني، لم يُطرح إلاّ مسبوقا باختيارات منظرين آخرين، أراد إيزر من استحضارها أن يكشف – من جهة- أوجه التّباين بينها وبين اختياره، وأن يجعل من قصورها – لوقوعها في دائرة الوظائف الجزئية- سببا موضوعيا، يقفُ وراء الحاجة المُلحّة إلى إيجاد مُصطلح بديل، لوصف العلاقة بين المتلقي والعمل الأدبي، من جهة أخرى.

فقد أراد ريفاتير Michael  Riffaterre [82]من خلال إطلاقه مصطلح القارئ الأعلى§§ archilecteur، إلغاء درجة التنوّع، التي تنشأ عن الاستعداد الذاتي للقارئ الفردي، والتي استفحلت مع تضخُّم عدد القُراء. هكذا يُحاول أن يجعل الأسلوب موضوعيا، أو يجعل الواقع الأسلوبي عنصرا تواصليا، ينضافُ إلى العنصر الأوّلي للغة.

ينبثقُ الواقع الأسلوبي – في نظر ريفاتير- من سياقه، ولا يصطبغُ بخصوصيات الذّات الفردية؛ بيانُ ذلك أن مجموعةً من المُخبرين، تلتقي عند النُّقط المحورية في النص، كما تستطيع الكشف عن كثافة المعاني المحتملة، والمشفّرة، تلك التي تأتي نتيجة للتعارضات النصية. ومقاربةٌ كهذه قمينةٌ – كما يرى إيزر– بتجاوز الصعوبات المُلازمة لأسلوبية الانزياح، التي تلجأ إلى تحديدات لسانية، خارجة عن النص، لتحديد المدى الذي انحرف فيه عن المعيار (المُفترض مسبقا). على أنّ الواقع الأسلوبي – في نظر ريفاتير- لا يُمكن إدراكُه إلاّ من لدُنِ الذّات المتبصِّرة، وهي فكرة تقف عائقا أمام إجراء الكشف عن التعارضات النصية، الذي سيتطلب حتما فردا مُدركا للقيام به. لكن على الرُّغم من ذلك فإنّ مفهوم ريفاتير – وهو مفهوم لا مرجعي- يُبيِّن إلى حدٍّ يكون القارئ أساسيا بالنسبة إلى صياغة الواقع الأسلوبي، بعيدا عن المعايير اللسانية الخارج- نصية.

أمّا فيش Stanley Fish [83]، فقد اهتم بوصف معالجة النص من قبل القارئ. هذا القارئ الذي وسمهُ بـــالقارئ المخبرlecteur informe ، يشترط فيه أن يكون، متكلّما كفؤا باللّغة التي كُتب بها النص، وأن يكون متمكنا من المعرفة الدلالية المتصلة بهذه اللغة، وهذا يتطلَّبُ منه خبرة موسوعية (معرفة للمجاميع اللغوية، واحتمالات أوضاع اللهجات الفرعية، والمهنية، وأشياء أخرى)، كما يفترض أن تكون له كفاءة أدبية. وهذا القارئ – كما يعرفه فيش– ليس شيئا مجردا ولا قارئا حقيقيا حيا، لكنّه هجين.

وهذا النوع من القراء – حسبما يرى فيش– يجبُ عليه أن يراقب ردود أفعاله، أثناء عملية القراءة، كي يتحكم فيها. وإذا قام القارئ – اعتمادا على كفاءته- ببناء النص بنفسه، فإنّ ذلك يتضمن أن ردود أفعاله، سوف تلاحق بعضها البعض في الزمن، خلال مجرى القراءة، ومن خلال هذا التعاقب، يتولد معنى النص.

وإذا كان النحاة التوليديون، يعتقدون أن الفهم وظيفة لإدراك البنية العميقة، مع ميل ظاهر – من بعضهم- إلى التقليل من شأن البنية السطحية (شكل الجمل الفعلي)، إلى اعتبارها مجرد قشرة، أو غطاء، أو حجاب حسب تعبير فيش، فإنّ هذه البنية السطحية، في نظره، لا يُمكن تجاهلُ تأثيراتها في عملية الاستجابة، بحيث تعملُ الاستراتيجيات على تضليل القارئ، فتكون سببا رئيسيا في الاستجابات المختلفة، للقراء المختلفين.

وهكذا فإنّ فيش – كما لاحظ إيزر– يبدأُ من النموذج النحوي، ثم يتجاهلُه عند منعطف محدّد. فمعالجة النص – حسب فيش– تؤدي حتما إلى حدوث التغييرات، في ذهن المتلقي، وهذه التغييرات، ليست مسألة قواعد نحوية، بل مسألة خبرة. من هنا فإن التحويل من البنية السطحية، إلى البنية العميقة، لم يعد مرتبطا بالنص، بل أصبح من مهامّ القارئ.

ويشرع وُولف Erwin Wolff[84]، من خلال مفهومه عن القارئ المقصودlecteur visé ، في إعادة بناء فكرة القارئ، الذي يقصده المؤلف، وصورة القارئ المقصود (أو المستهدف)، يُمكن أن تتّخذ أشكالا متباينة، حسب النص المتناول. والقارئ المقصود – باعتباره قاطنا تخييليا في النص- لا يُمكن أن يجسد فقط، المفاهيم، وتقاليد الجمهور المعاصر، بل أيضا المعطيات التّاريخية، التي كانت حاضرة في ذهن المؤلف، وهو يضع نصه. إنّ النص يُصبح قادرا -حتى في غياب معرفة مُفصَّلة بالقارئ المعاصر، وبالتّاريخ الاجتماعي لعصر من العصور- على تقديم صورة عن الجُمهور، الذي رغب المُؤلِّف في مخاطبته، وبالتالي عن مقاصد هذا المؤلف.

وإذا كانت فكرةُ القارئ المقصود، تحيلُ على كائن تخييلي، فهي لنْ تُفيدنا فيما يتعلق بالتجاوب الفعلي للقارئ، مع الموضوع الجمالي الذي تنطوي عليه النّصوص التخييلية… كما لن تُسعفنا في الإجابة عن السؤال، الذي ظلّ يدور بخلد إيزر حول: كيف يستطيع قارئ مبعَدٌ تاريخيا عن النص، أن يفهمه، في حين أن هذا النص لم يُكتب لأجله؟ وبكلمات أخرى: كيف يتمكّن قارئ – بعيد زمنيا عن النصّ- أن يفهم النصّ، رغم أنّه ليس القارئ المقصود؟

ينبغي – في نظر إيزر– أن نُميّز بين القارئ التخييلي، الذي يُعدّ واحدا من المنظورات النصية العديدة، ودور القارئ، الذي ينشأ عن التفاعل بين هذه المنظورات. فالقارئ المقصود إذن، لا يمكن أن يمثِّل سوى مظهر واحد للدّور المنتظر من القارئ، ما دام لا يوفر إلاّ منظورا واحدا.

هكذا نجد – مع إيزر- أنّ المنظرين الثلاثة (الّذين استعرضنا مفاهيمهم)، جنَّدُوا قُرَّاءهم، في محاولة لتجاوز النقائص التالية[85]:

  • نقائص اللسانيات البنائية: وذلك مع ريفاتير، الذي أعطى لقُرائه الواقعِين، تحت مسمى القارئ الأعلى، شرعية الكشف عن كثافة إرساليات النص المسنّنة، للتأكُّد من الواقع الأسلوبي، بعد أن تأكّد عجز أسلوبية الانزياح -التي تعتمد معايير خارج نصية- عن هذا.

  • نقائص النّحو التوليدي- التحويلي: حيث أعلن فيش تمرُّدَهُ، على عددٍ من مبادئ هذه النظرية، بعد أن شكّلت مرجعيته الأساس، في تحديد شروط ما سمّاه بالقارئ المخبر. هذا القارئُ الذي يضطلع بعملية التحويل، من البنية السطحية، إلى البنية العميقة، دون إغفال الأهمية المركزية للبنية السّطحية، في تنظيم التجاوب. يقول: “ينبغي أن أُسجِّل – مع ذلك- أنّ مقولتِي المتعلِّقة بالتجاوب، وخصوصا مقولة الدّال، تضمن أكثر مما يسمح به النحويون التوليديون…”[86].

  • نقائص سوسيولوجيا- الأدب: فقد حاول وُولف، تجاوز مادية فكرة القارئ المعاصرأو الوسط الاجتماعي، الذي يشكِّل إطار تبلوُر النصِّ، كما تصوّره أصحاب سوسيولوجيا الأدب- وذلك بتعيينه قارئا تخييليا (هو القارئ المقصود)، نستطيع من خلاله الحصول على صورة للجمهور، الذي رغب المؤلف في مخاطبته.

ومهما حاولنا التأكيد على أهمية هذه المفاهيم، مقارنة بالمُقاربات الأكثر تقليدية، فإنها تظلُّ ذات وظائف جزئية. لذلك فهي تبقى قاصرة، عن وصف العلاقة التفاعلية، بين المتلقي والعمل الأدبي. هنا يجد إيزر نفسه، مضطرا إلى طرح مفهومٍ، يتناغمُ مع توجهاته داخل نظرية جمالية التجاوب، بعد أن اتّضح أن أيّ نظرية، تطمحُ إلى تقديم فهمٍ سليم للعملية التواصلية، لا يمكن أن تستغني عن القارئ. ولا شك أن قارئ إيزر البديل- وهو طبعا القارئ الضمني- ينأى عن كُلِّ التحديدات السالفة، للقُرّاء الحقيقيين والمفترضين. “إِنَّ هذا المفهوم، لا ينطلقُ من تلك المحدّدات، وإنّما يَنسِب لنفسه وظيفة في فهمِ الأدب، بعد أن يتخلّص –تماما من الدّلالات المثالية الصرفة، أو الواقعية الصرفة، إنَّهُ يسعى للإمساك بالتصوُّرات العامّة، التي تجعلُ من ملفوظٍ ما، يحقّق استجابات مستمرة لتجربته، ويضعه في دائرة التّواصل”[87].

وإذا كان لِكُلِّ قارِئٍ حقيقي، دور يَلزَمُه القيام به، خلال عملية التّجاوب، فإنّ هذا الدَّور هو الّذي يُكَوِّنُ مفهوم القارئ الضمني، ذلك بأنّه (القارئ الضمني) “مُرتبط عُضويا ببنية النصّ وببناء معناه، عن طريق مشاركة القارئ”[88]. ويُبَيِّنُ إيزر، أنَّ هناك مظهرين أساسيين §§§، ومُتَرابطين لهذا المفهوم: دور القارئ كبنية نصية، ودور القارئ كفعل مُبَنْيَن[89].

إِنَّ أيّ عملٍ أدبي باعتباره تشكُّلا تخييليا ليس نقلا أمينا للعالم الواقعي، وإنَّما هو تركيبٌ معقّد، يُفضي في النّهاية إلى خلق عالمٍ نصي- داخلي أصيل؛ وبهذا المعنى ليست للنصّ مرجعية خارجية يمكن للقارئ الاتّكاء عليها، بقدر ما “هو تجاوز للواقع وتسامٍ عليه”[90]. وهكذا يقرّر إيزر أنّ “واقعا لا يكون له وجود خاص به، لا يُمكنه أن يبرُزَ إلى الوجود إلاّ بواسطة التصوُّر، وبالتّالي تُحدِثُ بنية النصّ مُتتالية من الصّور الذّهنية تقُودُ إلى النصّ، وهو يُتَرجِمُ نفسه داخل وعيِ القارئ”[91]

وبما أنّ كُلَّ عمل أدبي، يطمح (أو يطمح منشئه) إلى تقديم شيء جديد لقرائه المحتملين، فذلك يقتضي أن يكون هؤلاء القراء، في وضعيةٍ تُمكنهم من تحيين actualisation الرؤية الجديدة. يدعونا هذا، إلى استحضار كلام إيزر -السّابق- على المنظورات النصية، حيث إنّ هذه المنظورات (المعبِّرة عن رؤية المُؤلِّف)، تتفاعَلُ وتلتقي، في مواقع محدّدة نسميها “معنى النص”، وكلُّ هذا لا يحدُثُ في معزلٍ عن دور القارئ، لذلك فإنّ إيزر يؤكّد على ضرورة توفيق وجهة النظر هاته، بين جميع القُرّاء المختلفين؛ فلا تكُون موجّهة إلى قارئٍ بعينه، مُحَدَّدٍ مسبقا. على أنّ وجهة النظر المبنينة في النصّ – من خلال توزيعها على منظوراته المختلفة- لا يُمكن أن تُنْجَزَ، بصفة نهائية، ما لم تُثِر ردود أفعالٍ لدى القارئ، وسبب ذلك – كما سبقت الإشارة- هو أنّ نقطة التقاء هذه المنظورات، ليست مُصاغة لسانيا، ولكن يجب تخيُّلها، وهنا بالضَّبط يبدأ تأثير البنية النصية في القارئ؛ “ترتبط البنية النصية والفعل المبنين، تماما، بنفس الطريقة، التي يتربط بها القصد والإنجاز، رُغم أنّهُما يتَّصلان معاً، بخصوص مفهوم القارئ الضمني”[92].

تُحيل لفظتا:القصدintention  و”الإنجازperformance، اللَّتيْن استعملهما إيزر، لوصف الترابط القائم بين بنية النص والفعل المُبنين – وهُما في الواقع وجهان لعملة واحدة هي القارئ الضمني- إلى وجود ذاتين، تعملان على الدفع بمعنى العمل نحو التحقُّق concrétisation. وقد أثنى إيزر على الاقتراح القاضي، بأن هناك ذاتين، على اعتبار أنهما تتمثلان -حسب رأيه- في:  ¬الدور الذي يقدّمه النص، ¬ والاستعداد الخاص للقارئ الحقيقي. وبما أنّ الواحدة منهما، لا تمْلِكُ أن تسيطر على الأخرى، فإنّ التوتّر يحدث (وهو توتر يُحدثه القارئ الحقيقي عندما يقبل دَورَهُ). وعلى أيّة حال فإنّ الكلمة الفصل تبقى منُوطة بالنصّ، وهنا ينكشفُ السرُّ الكامن وراء اعتبار القارئ الضمني، مفهوما ذا جذور متأصِّلة في بنية النص.[93]

  • خاتمة:

حاول هذا البحث، أن يجيب عن إشكاليتين ينبغي –في نظرنا- أن تكون لهما الأولوية في كلّ بحث يحمل على عاتقه همّ التأصيل، لنظرية من النظريات النقدية المعاصرة.. تتمثّلُ أُولاهما في: إماطة اللثام عن الخلفيات المعرفية، التي استندت إليها جمالية التجاوب، في نشأتها وصياغة مبادئها؛ حيث إن معظم المقترحات التي قدمها إيزر -في سياق معالجته للقضايا المتعلقة بالتواصل الأدبي، والبنيات النصية المنظّمة له، والعمليات المعرفية والمنهجية التي تتخلله – تجد لها منطلقات واضحة وأُسُساً مكينة، في روافده التي توقّفنا عند معظمها. أمّا الثانية: فهي استعراض، ومناقشةُ أهّم الإشكالات التي أثارتها جمالية التّجاوب، سواء في جانب البدائل النظرية والمنهجية التي اقترحتها لمعالجة مسألة التلقي الأدبي، أو في الجانب المتعلّق بالمفاهيم التي استخدمها إيزر لتبويب وهيكلة صرح نظريته.. فلعلّ هذا البحث يكون قد أزال شيئا من الغموض، عن الكثير من هذه المفاهيم، حتى تكون أداء طيّعة بين يدي الدّارس العربي، الذي ظلّ مُتوجّسا من تطبيق هذه النظرية، على المتن الإبداعي العربي.   

وصفوة القول: إنّ أهم ما يُميِّز نظرية جمالية التجاوب عن مختلف النظريات التقليدية هو هذه المرونة التي ألمحنا إليها سلفا، والمتمثّلة في قدرتها على استيعاب عدد لا حصر له من الخلفيات الفلسفية، والتصوّرات النقدية، وصهر المجموع في قالب مُتجانس لا يخلو من النسقية والتنظيم المنطقي.. وهي فضلا عن ذلك لا تدَّعي وضع قواعد نهائية للقراءة، أو معرفة مطلقة بالآليات والأدوات المحدّدة للتواصل الأدبي المثالي.. بقدر ما تريد أن تبرهن، على أن المعنى الأدبي يُبنى من خلال التفاعل الإيجابي والمتكافئ بين النصّ والمتلقي، من منطلق أن النصّ لا يستطيع الخروج من حالة الكمون إلى حالة التحقق، إلا في حضرة قارئ يستنطقه، ويدخل معه في حوارية بنّاءة.

 المـراجِـع

  • بالعربية:

  • كتب:

   

  • إيكو(أمبرتو)- نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى- ترجمة: سعيد الغانمي- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- الطبعة الثانية- 2006.

  • إيكو(أمبرتو)- الأثر المفتوح- ترجمة: عبد الرحمن بوعلي- دار الحوار للنشر والتوزيع- اللاّذقية- سوريا- الطبعة الثانية: 2001.

  • سلدن(رامان)- النظرية الأدبية المعاصرة- ترجمة: جابر عصفور- دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة-1998.

  • توفيق(سعيد)- الخبرة الجمالية:دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت-ط:1-1992.

  • عودت خضر(ناظم)- الأصول المعرفية لنظرية التلقي- دار الشروق للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى – 1997.

  • عبد الحميد(شاكر)- التفضيل الجمالي(دراسة في سيكولوجية التذوق)– سلسلة عالم المعرفة–عدد :267 – 2001.

  • حمودة(عبد العزيز)- الخروج من التيه(دراسة في سلطة النص)– سلسلة عالم المعرفة– عدد 289 – 2003.

  • لحمداني(حميد)- القراءة وتوليد الدلالة- المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى

  • إسماعيل(سامي)- جماليات التلقي- المجلس الأعلى للثقافة– الطبعة الأولى– 2002.

  • إيزر(فولفغانغ)- فعل القراءة (نظرية جمالية التجاوب في الأدب)- ترجمة: حميد لحمداني والجيلالي الكدية منشورات مكتبة المناهل– 1995.

  • نظريات القراءة من البنيوية إلى جمالية التلقي(مقالات مترجمة لعدد من المؤلفين) ترجمة: عبد الرحمن بوعلي– دار النشر جسور– الطبعة الأولى

  • هولاب(روبرت)- نظرية التلقي(مقدمة نقدية)ترجمة: خالد التوزاني والجيلالي الكديةمنشورات علامات– الطبعة الأولى– 1999.

  • مساعدي(محمد)- تاريخ تلقي الشعر العربي القديم- منشورات مشروع البحث النقدي ونظرية الترجمة– كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز– فاس– المغرب، ط:1– 2005.

  • مقالات:

  • بنحدو(رشيد)- العلاقة بين القارئ والنص في التفكير الأدبي المعاصر– سلسلة عالم الفكر المجلد: 23 -1994.

  • عمراني(المصطفى)- القراءة والتأويل (بين أومبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر)– مجلة فكر ونقد عدد: 67

  • طليمات(عبد العزيز)- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند فولفغانغ إيزر– مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية – عدد: 6

  • السراج(عبد العزيز)- انفتاح النص وحدود التأويل(أومبرتو إيكو نموذجا)- مجلة فكر ونقد عدد: 67 -2005.

  • إيجلتون(تيري)- الفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا ونظرية التلقي– تقديم وترجمة: توفيق سخان مجلة الملتقى- ع:11- السنة السّابعة-

بالفرنسية:

  • iser (Wolfgang)l’acte de lecture théorie de l’effet esthétique- Pierre Margada -Liège- Bruxelles- 1985.

  • Sartre (Jean-Paul)Qu’est-ce que la littérature? -édition Gallimard- paris- 1948.

  • Eco(Umberto)Lector in fabula:Le rôle du lecteur ou la coopération interprétative dans les textes narratifs– traduction Par Myriam Bouzaher, Editions Grasset – paris- 1979.

[1]- تيري إيجلتون- الفينومينولوجيا والهيرمينوطيقا ونظرية التلقي- تقديم وترجمة: توفيق سخان- مجلة الملتقى- ع:11- السنة السّابعة-2003/ ص:118.

[2]- نقلا عن: عبد العزيز حمودة- الخروج من التّيه (دراسة في سلطة النص)- سلسلة عالم المعرفة –ع: 289–2003/ ص:112.

– نفسه/ ص: 114.[3]

[4]- رامان سلدن- النظرية الأدبية المعاصرة- ترجمة: جابر عصفور- دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع- القاهرة-1998/ ص:171.   

[5]- نفسه/ الصفحة نفسها.

[6]- سعيد توفيق- الخبرة الجمالية: دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية-  المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع-بيروت-ط:1-1992/ ص:328.

[7]- رشيد بنحدو- العلاقة بين القارئ والنص في التفكير الأدبي المعاصر- سلسلة عالم الفكر- مجلد: 23-1994/ ص: 473.

[8]- المصطفى عمراني- القراءة والتأويل(بين أومبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر)- مجلة فكر ونقد-ع: 67-2005/ ص:71.

[9]- روبرت هولاب- نظرية التلقي: مقدمة نقدية- ترجمة: خالد التوزاني والجيلالي الكدية. منشورات علامات–الطبعة الأولى- 1999/ ص: 77.

[10] – نفسه/ ص:88.

¨ إنّ التزام إنغاردن بالمنهج الفينومينولوجي في سياق اهتماماته الجمالية، لم يكن حرفيا.. فلقد اعتُبرت مساهمته بمثابة ثورة من داخل الفينومينولوجيا الهوسرلية (نسبة إلى هوسيرل)، حيث عكف منذ البداية على إصلاح وجوه القصور في هذا المنهج، لإنزاله من وضعه المتعالي الذي وضعته فيه كتابات هوسيرل الأولى من جهة، وجعله أكثر قدرة على استيعاب الموضوعات التي شغلته (أي إنغاردن) واستأثرت باهتمامه من جهة ثانية. (ينظر بهذا الصدد: سعيد توفيق- الخبرة الجمالية: دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية/ ص: 317).

[11]- نفسه/ ص:322.

[12]-  ناظم عودت خضر- الأصول المعرفية لنظرية التلقي/ ص:82.

[13]- فولفغانغ إيزر- فعل القراءة- ترجمة وتقديم: حميد لحمداني والجيلالي الكُدية- منشورات مكتبة المناهل-1995/ ص: 12.

[14]- سامي إسماعيل- جماليات التلقي- المجلس الأعلى للثقافة- الطبعة الأولى- القاهرة- 2002/ ص:114.  

[15]- عبد العزيز طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر- مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية– عدد: 6-1992/ ص: 53.

[16] – Jean-Paul Sartre -Qu’est-ce que la littérature? (édition Gallimard- paris- 1948)- p:48.

[17]-   ibid…p:50.  

[18]- فرانك شويرويجن- نظريات التلقي (ضمن كتاب: نظريات القراءة من البنيوية إلى جمالية التلقي)- مؤلّف جماعي- ترجمة: عبد الرحمن بوعلي- دار النشر جسور-الطبعة الأولى-1995/ ص: 75.

¨¨ رُغم اتّفاق إيزر مع معظم طروحات نظرية أفعال الكلام (التي نشأت على يد فيلسوف اللغة الإنجليزي جون أوستن، واكتملت على تلميذه سيرل) فإنّه يُشدّد مع ذلك على ضرورة مراعاة خصوصية الخطاب الأدبي، الذي يميل إلى التشويش والمراوغة واللاّتحديد، ما يجعل الفعل الكلامي مشوبا باحتمالات وإيحاءات، تجعل القارئ – وليس المتَلَفِّظ كما يرى أصحاب هذه النظرية- في مركز عملية التواصل..(يُنظر بهذا الصدد: ع.ع.طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر/ ص: 58).       

[19]- عبد العزيز طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر/ ص: 58.

[20]- فرانك شويرويجن- نظريات التلقي/ ص: 75.

[21]- عبد العزيز طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر/ ص: 59.

[22]- فولفغانغ إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 100.

¨¨¨ ترجع الأهمية البالغة لإبدالات هوسيرل في الفلسفة المعاصرة، إلى طبيعة الانقلاب الذي أحدثه في نظرية المعرفة، حين وجد أنّ ما تدّعيه بعض الفلسفات –كالوضعية والتجريبية والعقلانية- من موضوعية هو محض ادّعاء. فالموضوعية عنده تقتضي، أنّ المعنى لا يتكوّن في التجربة، أو المعطيات، والقيم السابقة… بل إنّه ينشأ في الشعور المحض، أي أنّه خلقٌ آني، مُرتبط بلحظة وجودية.. وقد تمخّض عن هذا التصوّر مفهوم “القصدية”؛ وهو المفهوم الذي تبنّاه إنغاردن وبعده إيزر في تصوّرهما للأعمال الأدبية.. وتعني القصدية أنّ الوعي لا يستحوذ على التصوّرات العقلية، لكي يحيلها إلى موضوعات، بل ينعطف نحو الأشياء، من أجل معرفتها بمقتضى ما لديه من حركة قصدية. وهكذا أضحت القصدية جسرا يصلُ بين ضفّتين هما: الوعي والعالم الخارجيّ، في تجاوز واضح لثنائية الذات/الموضوع التي لطالما جثمت بثقلها على الفكر الغربي.(ينظر: ناظم عودت خضر – الأصول المعرفية لنظرية التلقي/ ص:76).

.      

[23]- عبد العزيز طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر/ ص: 50.

[24]- نفسه/ الصفحة نفسها.

[25]- Umberto Eco, Lector in fabula Le rôle du lecteur ou la coopération interprétative dans les textes narratifs (traduction Par Myriam Bouzaher, Editions Grasset – paris- 1979) p:64.

[26]- عبد العزيز السراج- انفتاح النص وحدود التأويل (أومبرتو إيكو نموذجا)- مجلة فكر ونقد- ع:67-2005 / ص:89.

[27] – ف. شويرويجن- نظريات التلقي/ ص: 76.

[28]- Wolfgang iser- l’acte de lecture théorie de l’effet esthétique (ed. Pierre Margada -Liège- Bruxelles- 1985)- p:163.   

[29]- المصطفى عمراني- القراءة والتأويل/ ص: 70.

[30]- أقصد الباحث المصطفى عمراني- المرجع السابق/ الصفحة نفسها.  

¨¨¨¨ في سياق قريب يرى الدكتور عبد الرحمن بوعلي -في مقدّمة ترجمته لكتاب “الأثر المفتوح” لأمبرتو إيكو- أنّ جمالية التلقي ككلّ، بما في ذلك تنظيرات ياوس وإيزر، ليست إلاّ امتدادا لمفهوم الانفتاح، الذي كان أوّل من استعمله استعمالا منظما، ينطوي على محاولة نقدية تنظيرية، هو إيكو في مداخلة قدّمها في المؤتمر الثامن عشر للفلسفة عام 1958… في حين لم تظهر كتابات نقاد جمالية التلقي إلاّ في نهاية السبعينات (1969).(ينظر: أمبرتو إيكو- الأثر المفتوح- ترجمة عبد الرحمن بوعلي- دار الحوار للنشر والتوزيع- اللاّذقية- سوريا- الطبعة الثانية: 2001/ مقدّمة المترجم).         

[31]- روبرت هولاب- نظرية التلقي: مقدمة نقدية- تر: خالد التوزاني والجيلالي الكدية/ ص: 78.

[32]- ف. شويرويجن- نظريات التلقي/ ص: 75.  

[33]- سامي إسماعيل- جماليات التلقي/ ص: 143.

* يشير إيزر إلى وجود أربعة منظورات رئيسة، وهي متّصلة بجنس الرواية، الذي وجد فيه إيزر مجالا خصبا لتطبيق مجمل تنظيراته ـ وهذه المنظورات هي: منظور السارد، ومنظور الشخوص، ومنظور الحبكة، ومنظور القارئ التخييلي، ولا يتطابق أي منها بمفرده مع معنى النص. ( ينظر: ف. إيزر- فعل القراءة- ترجمة وتقديم: حميد لحمداني والجيلالي الكُدية / ص: 31).

 

-[34]Wolfgang iser- l’acte de lecture théorie de l’effet esthétique(ed. Pierre Margada -Liège- Bruxelles 1985)- p: 201

[35]- فولفغانغ إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكُدية / صص: 58-59.

** يستعمل إنغاردن المصطلح نفسه في سياق حديثه عن مستويات العمل الفنّي؛ ذلك بأنّ العمل الفنّي –عنده- يوجد وجودا قصديا على أربعة طبقات أو مستويات تُؤلّف بنيته، وأولى هذه الطبقات هي الطبقة البصرية الصوتية، وهي طبقة حسيّة متأصّلة وجوديا في الوسيط المادي.. يتموضع من خلالها العمل، ويكتسب حالة موضوعية ذات طبيعة ذاتية مشتركة، بحيث يمكن أن يُشارك فيه الآخرون.    

[36]- سامي إسماعيل- جماليات التلقي/ ص: 149.

*** يتغذى مفهوم أفق التوقع – وهو مفهوم يلتقي عنده إيزر وياوس، وإن اختلفت سياقات وخلفيات استخدامه بينهما- من مفهوم الأفق الذي ينطوي على تصور ظاهراتي للزمن، وهكذا نجد هوسيرل يتحدّث عن “الأفق الثلاثي للمعيش”؛ أي أفق الحاضر الذي يعد في الآن نفسه امتدادا لأفق سابق كان بدوره حاضرا، وبداية لأفق لاحق قادم نحو الحضور. (ينظر: محمد مساعدي– تاريخ تلقي الشعر العربي القديم- منشورات مشروع البحث النقدي ونظرية الترجمة- كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس- المغرب، ط:1- 2005/ ص:60.)

[37]- أنظر: فولفغانغ إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكُدية/ صص: 59-60. وأيضا: سامي إسماعيل- جماليات التلقي/ ص: 150.

[38]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكُدية/ صص:61-62.

[39]- نفسه/ ص: 64.

[40]- روبرت هولاب- نظرية التلقي/ ص: 86.

[41]- نفسه/ ص: 85.

[42]- نفسه/ ص: 85.

 -[43] سعيد توفيق- الخبرة الجمالية: دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية/ ص:340.

-[44] Wolfgang iser- l’acte de lecture théorie de l’effet esthétique-p: 340   

[45]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكُدية/ ص: 67.

[46]- ف. شويرويجن- نظريات التلقي/ ص: 77.

[47]- سامي اسماعيل- جماليات التلقي/ ص: 113.

[48]- نفسه/ ص: 189، وما بعدها.

[49]- روبرت هولاب- نظرية التلقي/ ص: 86.

[50]- نفسه/ ص: 87.

[51]- ف.إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 100.

[52]- نفسه/ ص: 62.

**** تكشف مرجعيات إيزر الفينومينولوجية عن أفكار هامّة في هذا السياق، حيث يُقرّر هوسيرل، أنّ الوعي القصدي يتجاوَزُ ما يكون مُعطى بالفعل لخبرتنا، والتجاوز هنا – كما يرى د. سعيد توفيق- إنّما يعني تجسيد وإكمال وملء ذلك الذي يكون مُعطى، حيث إنّ معناهُ لا يكون مؤسّسا جاهزا.((ينظر: سعيد توفيق- الخبرة الجمالية(دراسة في فلسفة الجمال الظّاهراتية)- المؤسسة الجامعية للدّراسات والنشر والتوزيع- الطبعة الأولى-1992/ ص:35)).

[53]- حميد لحمداني- القراءة وتوليد الدلالة- المركز الثقافي العربي- الطبعة الأولى-2003/ ص:114.

[54]- أمبرتو إيكو- نظرية التأويل: الخطاب وفائض المعنى- ترجمة: سعيد الغانمي- المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- الطبعة الثانية- 2006/ ص:128.

[55]- شاكر عبد الحميد- التفضيل الجمالي (دراسة في سيكولوجية التذوق)- سلسلة عالم المعرفة- ع:267-2001/ ص: 161.

[56]- نفسه/ ص: 161.

[57]- نفسه/ ص: 162.

[58]- نفسه/ ص: 165 .  

[59]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 70.

[60]- أورده روبرت هولاب- نظرية التلقي/ ص:84.

[61]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 70.

[62]- نفسه/ ص: 71.

[63]- نفسه/ ص: 72.

[64]- نفسه/ ص: 72، وما يليها.

[65]- نفسه/ ص: 76.

[66]- حميد لحمداني- القراءة وتوليد الدلالة/ ص: 115.

[67]- رشيد بنحدو- العلاقة بين القارئ والنص في التفكير الأدبي المعاصر/ص: 474.

[68]- حميد لحمداني- القراءة وتوليد الدلالة/ ص: 115.

[69]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 78.

[70]- حميد لحمداني- القراءة وتوليد الدلالة/ صص: 115-116.

[71]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر : حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 99.

[72]- سامي إسماعيل- جماليات التلقي/ ص: 124.

[73]- ناظم عودت خضر- الأصول المعرفية لنظرية التلقي/ ص: 113.

[74]- نفسه/ الصفحة نفسها.

[75]- نفسه/ ص: 114.

  • تجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم القارئ الضمني، عند بوث مخالف تماما لما سنجده عند إيزر، فبوث يُطلق هذا المصطلح للدلالة على ما يتوجّه إليه السارد بالخطاب بين فترة وأخرى، وهو (أي هذا القارئ) غيرُ مشارك في الأحداث على نحو مباشر، ومع ذلك فإنّ المعنى الأساس للعمل، يتوقف عليه. وقد يكون بنيةً نصيّة (ومثاله: شهريار في الليالي)، أو قارئا مفترضا، أي جهة معينة يتوجَّهُ إليها النص بالخطاب. (ينظر ناظم عودت خضر/ صص: 117-118).

[76]- المرجع السابق/ صص: 115-116.

[77]- نفسه/ ص: 159.

[78]- ف. إيزر- فعل القراءة- تر : حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص: 20.

[79]- أنظر: ف. إيزر- فعل القراءة- تر: لحمداني والكدية/ ص: 21، وما بعدها.

[80]- نفسه/ ص: 21، وما بعدها.

[81]- ينظر: سامي إسماعيل- جماليات التلقي/ ص:127.  

 

[82]- ينظر: ف. إيزر- فعل القراءة/ صص: 24-25.

  • § أو القارئ الجامع: وهو مُصطلح جمعي لقُرّاء متباينين لهم كفاءات مُختلفة.

[83]- نفسه/ الصفحات: 25-26-27.

[84]- نفسه/ صص: 27- 28.

[85]- نفسه/ ص: 29.

[86]- نفسه/ ص: 26.

[87]- ناظم عودة خضر- الأصول المعرفية لنظرية التلقي/ ص: 164.

[88]- عبد العزيز طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر/ ص:56-57.   

  • §§ يرفض هولاب هذه الازدواجية التي ينطوي عليها مفهوم القارئ الضّمني، مُعتبرا أنّ تعريف المُصطلح بهذا النّوع من الضّبابية، قد يحول دون تحقيق إيزر لمقاصده، مادام يسمحُ بالانتقال من وإلى النصّ والقارئ، دون أن يكون قادرا على تحديد مدى مساهمة كلّ طرف على حدة… (ينظر: ر.هولاب- نظرية التلقي/ ص:79).

[89]- ف.إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص:30.

[90]- عبد العزيز طليمات- الوقع الجمالي وآليات الوقع عند وولف غانغ إيزر / ص:60.  

[91]- ف.إيزر- فعل القراءة- تر: حميد لحمداني والجيلالي الكدية/ ص:35.

[92]- ف.إيزر- فعل القراءة/ ص: 32.

[93]- Wolfgang iser- l’acte de lecture théorie de l’effet esthétique(ed. Pierre Margada -Liège- Bruxelles 1985)- p:55.

________

*مجلة عالم الفكر الكويتية- المجلد 42- العدد 3- يناير- مارس 2014.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *