موت المؤلف وولادة عصر القارئ


*عمّار المأمون


شائكة هي العلاقة بين النص ومؤلفه، أيهما يمتلك الأهميّة؟ أيهما يختزن قيمة العمل الأدبي؟ بالرغم من أن الدراسات البنيوية وما بعدها أعلنت موت المؤلف وانبعاث القارئ، كذلك التأكيد على العامل مع النص كبنية منفصلة عن مؤلفه، مازالت الشوائب تحيط بهذا المفهوم، إذ نشهد تكريس نصوص لمؤلفين قد لا تحمل القيم الجمالية التي من المفترض أن تتوافر بالنص الأدبي وذلك فقط لأن مؤلفها ذو “أهميّة”.
الكاتب الأسطورة
صحيح أن البعض عاش الكتابة “شعرا – رواية” كالشاعر آرثر رامبو الذي “عاش الشعر” وأصبح “ملهما في ذاته” ذا سيرة حياة شعريّة إثر تنقلاته ورحلاته وقد أُحيط بهالة من القدسية إلى جانب نتاجه الشعري، أو محمد شكري صاحب رائعة “الخبز الحافي” الذي استعرض معاناته الحياتيّة.
إلا أن هذا النوع من الممارسات الأدبيّة يندر، ويحتاج إلى تكريسات وقراءات نقديّة تحوّل أحدهم إلى “أسطورة”، إلى جانب نتاجه وتمحيصه والذي يكون تجاوزا لما هو سائد، كما أنه يمكن دراسته عبر تجاوز حياة مؤلفه، ما يجعل قراءته نقديا أكثر قدرة على تجاوز “رومانسية” الكاتب من أجل إخضاعه للتحليل الأدبي بهدف تحديد الموقف الجمالي من النص، وليس الاعتماد فقط على حياة الكاتب.
المدارس الحديثة أعادت الكاتب إلى الصدارة لتصبح حياته جزءا من منتجه الفني، لكن الاختلاف يكمن في توظيف التراث السردي الذي يقوم به الكاتب ضمن تجربته، لا الاكتفاء بالتجربة الذاتية، والتي لا يمكن التعويل عليها دائما مهما كانت هامة، في النهاية العمل الأدبي هو جزء من المكتبة العالمية وعلامة التجنيس هي مسؤولية من نوع ما أمام التراث الأدبي، وتستدعي مراكمة هذا التراث السردي والاطلاع عليه في سبيل الاستفادة منه، لإنتاج ما يمكن أن يضاف إلى هذه المكتبة.
موت المؤلف
هذا الاختلاف مثلا بين كاتب محترف كالكاتب التشيكي ميلان كونديرا، الذي ينظّر للرواية ويكتبها بالاستناد إلى تقنيات متعددة ومميزة أو ابتكارها أو إعادة إنتاجها، بحيث يكون المنتج الأدبي هو نتاج خبرة وتراكم أو العكس كالكاتب الألماني باتريك زوسكيند، الذي افترض أنفا ذا قدرة خارقة ونجح في إنتاج روايته “العطر”، إلا أنه لم يتمكن من تكرار نجاحه هذا في روايته الأخرى لافتقاده إلى التقنيات المتعددة.
في حين أن الرومانسيين أو “اللاتقنيين” أصحاب التجربة الذاتية أو الكتابة اليومية لا يمكن التعامل معهم بعيدا عن حياتهم، كتشارلز بوكوفسكي الذي رغم إنتاجه الهائل شعرا ورواية لا يمكن اعتباره -فنيا- ذا سوية عالية في كل الأعمال إذا استثنينا حياته لارتبط هالته الشخصية ككاتب بمنتجه الأدبي وطغيانها عليه.
قد يكون هذا الرأي مجحفا، ويقف في وجه التجارب الجديدة أو فرضيات الكتابة لأجل الكتابة، إلا أنه لا يمكن إنكار أهمية الاطلاع على المكتبة العـالمية في سبيل إنتاج ما يضيف إلى هذه المكتبة من أجل تجاوز الشهرة المؤقتـة أو الترويح للشخص بعيدا عن منتجه، فموت المؤلف لا يعني إنكاره كليا، لكن ربط الممارسات اليومية للكتاب أو المغامرات المختلفة بنتاجه الأدبي بوصفها هي الأساس بعيدا عن المنتج يمكن اعتبارها نوعا من اللاحرفية أو الاستسهال، عبر الاعتماد على “الإلهام” دون مراكمة التراث الأدبي الذي يطور الأدوات السرديـة ويستفيد منها.
الهالة الشخصية
التجارب في ما بعد الحداثة أعادت العلاقة بين الفنان وبين نتاجه الأدبي، إلا أن ذلك لا يعني الاستغناء عن التراث السردي بل توظيفه عند تجربته في سبيل إما إعادة إنتاجه أو محاكمته أو السخرية منه أو إعادة توظيفه، بالتالي هنا يبرز مفهوم الحكاية (سواء الشخصية أو التاريخية أو المتخيلة) والتي لا تحمل قيمة دون التقنية أو الأسلوب في إنتاجها.
فالحكايات في كل مكان، وكل شيء يمكن أن يتحول إلى حكاية، فالإبداع يكمن في كيفية سردها أو تكوينها كمفهوم، وهذا ما يجعل الإبداع نفسه يشكك به، بوصفه نتج مصادفة وإما إدراكا، أو إثر جهد هائل للوصول إلى الصيغة المغايرة، التي تدمج بين التقنية والحكاية، مع معرفة التراث والتراكم التاريخي السردي، ليكون المنتج الأدبي متفردا لا نتيجة سطوة الكاتب على منتجه أو هالته الشخصيّة.
________
*المصدر: العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *