أقنعة اللغة في قصيدة القناع الصوفي- “عذاب الحلاج” للبياتي نموذجا –

ثقافات

عادل بوحوت(*)

“وإنّما حَمَلَ ذلِكَ ضيقُ العِبَارَةِ عن الحقائِقِ وعجزُ اللُّغَاتِ عَنْ تَأْدِيةِ الحدِّ فِيهَا وبِهَا”

 ابن خلدون

أمّا قبل،

فلطالما شكّلت اللّغة – بالنّظر إلى خصوصية توظيفها في مجال الإبداع الشّعري- سرّا من أسرار العملية الشعرية، ومحدّدا لنوعية القُرّاء الذين يُتيح النصُّ إمكانية تجاذب أطراف الحديث معهم، أو -بتعبير آخر- إمكانية البوح والتّدليل في سياق تفاعلي يطبعه التكافؤ والندّية.. وكلّما استعصت هذه اللّغة وتعقّدت علائقها إلاّ وقلّ عدد الفاتحين لمغالق النصّ، بازدياد عدد المستلزمات التي يتطلّبها هذا الفتح؛ من معرفة بخصوصية التّعبير اللّغوي، واطّلاع على ينابيع الإلهام ومصادر الاستمداد بالنسبة إلى المبدع…إلخ. ففي هذا الواقع القرائي الطارئ، انسلخت اللّغة من مهمّتها التقليدية، باعتبارها وسيلة للتّعبير، لتغدو العُنصر الأكثر فاعلية وتأثيرا، والمحدِّد الرئيس لمدى نضج واكتمال التجربة الشعرية أو فجاجتها.. وذلك لكونها (أي اللغة) العنصر الضامّ لكلّ تعقيدات هذه التجربة، والبوتقة التي تنصهر فيها مشارب الشاعر الحديث التي تنوّعت بين ثقافية وفكرية وفلسفية ودينية… وهي مشارب تغيب مضامينُها عن القارئ العادي، هذا القارئ الذي صار محكوما دائما بالخروج بخفي حنين من نصوص أصبحت تحمل في طياتها ملامح القراء الذين تَقبل التّعامل معهم.. ما جعل الدّلالة في هذا الشعر تتكثّف وتتعدّد وتُستبعد وتُؤجّل إلى موعد غير محدد!!

لقد استقرّ الرأي لدى رواد الحداثة الشّعرية العربية – باختلاف تيّاراتهم الفنّية- على اعتبار القصيدة المعاصرة “مغامرة لغوية”([1])، تفرض على القارئ التّجوال في سراديب المبهم، والغامض، واللاّمتناهي…، فيكون بذلك ملزما بتغيير عاداته في قراءة النّصوص الشعرية، بعدما يكتشف أنّ بوصلته التقليدية عفا عليها الزّمن ولم تعُد تسعف، مع تغيّر ملامح خريطة الشعر، وتبدّل أقاليمه، وإعادة رسم حدوده.. وهو ما تفرضه علينا قصيدة “عذاب الحلاج”([2]) التي تصدح بالإشارات الصوفية والتّراكيب الغريبة، فتنزاح بذلك عن أطر التعبير المعتادة في منظومة الشعر التقليدي. ولعلّ مردّ ذلك –كما سنرى- إلى هذا التّداخل الذي يصرّح به العنوان ابتداءً، أو لنقل إلى هذه الازدواجية التي تجعل القصيدة ناطقة بلسانين ومعبّرة عن تجربتين: تجربة الشاعر عبد الوهاب البياتي([3]) في مستوى أوّل، والتّجربة الصوفية (ممثَّلة بأحد أبرز أعلامها وهو الحلاج)([4]) في مستوى ثانٍ. هذه التّجربة الأخيرة التي اقترنت في الثّقافة العربية الإسلامية بلغة ملتبسة ومستعصية على الفهم بالنّسبة إلى القارئ المتخصّص بله القارئ العادي، لغة تتوسّل بالرّمز والإشارة سبيلا إلى توصيل ما يعتمل في وجدان من يخوضها (أي التجربة الصوفية) من أحوال ومقامات ومواجيد، ترتقي به إلى عوالم الميتافيزيقا وتنفتح على الماوراء… فلا يكفي في هذه الحال النّظر في العبارات من منظور الدّلالات التي تعارف عليها مستعملو اللغة وأقرّتها القواميس، بل يجب الحرص على التقاط الإشارات، وذلك بالتنقيب فيما وراء السّطور وملء البياضات ومواقع اللاّتحديد حسب اصطلاح إيزر.. ولعلّ هذا بالضبط ما أشار إليه الحلاّج حين قال: «من لم يقف على إشاراتنا لم تُرشِده عباراتنا»([5]).

وهكذا فإنّ تداخل تجربة البياتي (ت.1999م) – في هذه القصيدة- مع تجربة الحلاج (ت.309هـ- 922م) بصورة خاصة، أضفى عليها نوعا من الغموض الذي تتبدّى ملامحه في تجاوز مفردات اللّغة للدّلالات الأُوَّل (المتعارف عليها) إلى دلالات بعيدة لا يتأتّى إدراكها إلاّ بالتزوّد من معين ثقافة الشاعر (وهي هنا المعرفة الصوفية)، والكشف عن العلاقات (المسكوت عنها في النصّ) القائمة بين تجربة مرّ عليها أكثر من عشرة قرون، وتجربة معاصرة تتّخذ بعدا ذاتيا؛ يتمثّل في تجربة الشاعر عبد الوهاب البياتي الحياتية، ومعاناته من الاغتراب والنفي. وبُعدا جماعيا؛ يتّسع ليشمل تجربة الإنسان المعاصر، الذي يعاني الاغتراب في عالم تطغى عليه المادّة وتلفّه الضبابية من كلّ جانب.

نحن إذاً أمام نصٍّ يتعمّدُ وضع الحواجز والعقبات أمام قارئه، وإن كان يفصح من أوّل وهلة –من خلال عنوانه الدّال- عن تيمة محدّدة، تذهب بذاكرة القارئ (المطّلع) مباشرة إلى قصّة القطب الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحلاج، وهي القصة التي تناقلتها كتب التراث، وأولاها المحدثون -وخاصة المستشرقين([6])– عناية خاصة، حتى تحوّل إسم هذا الصوفي المتمرّد إلى ما يشبه الأسطورة..

وعموماً فنحن على وعي تامّ بأنّ قصيدة “عذاب الحلاج” ليست تسجيلا أمينا لأحداث هذه القصّة التاريخية، وإنّما هي استلهام وتوظيف رمزي يهدف الشاعر من خلاله إلى نقل تجربة معاصرة، لا شكّ أنها تحمل بعضا من ملامح تلك التجربة القديمة، خصوصا أن السّماء التي أظلت التجربتين واحدة وهي سماءُ مدينة بغداد.

ولا بدّ أن نشير هنا إلى أنّ قراءتنا للقصيدة المذكورة ستكون مدينة ببعض وسائلها واستنتاجاتها للاتّجاه الأسلوبي الشعري في حقل الدراسات اللغوية الحديثة. وما وقوفنا عند ظاهرة الانزياح إلاّ تأكيد وتثبيت للفكرة/ الفرضية التي افتتحنا بها هذه الدراسة وهي، أنّ خصوصية الشّعر الحديث لا يمكن الكشف عنها إلاّ من خلال البحث في طريقة تعامل الشاعر المعاصر مع اللغة؛من هنا فإنّ النّفاذ إلى البنية اللغوية التّحتية للنصّ –إذا صحّ التعبير-سيمكِّنُنا لا محالة من الانفتاح على عوالمه النّفسية والثقافية والاجتماعية…؛ذلك أنّ اللّغة –كما يقول رولان بارت- “ليست بريئة على الإطلاق، فللكلمات ذاكرةٌ أخرى، تغُوص في عمق الدّلالات الجديدة بطريقة عجيبة”.([7])

ونحبُّ هنا أن نقف عند مفهوم التّضاد، باعتباره عنصرا مركزيا في عملية الانزياح، التي يمكن فهمها باعتبارها عملية خرق منهجي ومنظّم للاستعمال المتواضع عليه([8]). ومن هذا المنظور فإنّ مجموع الصور البلاغية ليست سوى خروق مختلفة للمعيار، وهي لا تختلف فيما بينها إلاّ من زاوية قدرة كلّ منها على تجاوُز الاستعمال من خلال التقنّع بما يتيح محو الملامح الأصلية.. بمعنى أنّ درجة الاختراق هي التي تحدّد قيمة الصورة البلاغية وتمنحها طعمها المتميّز.

وسنحاول النظر إلى التّضاد هنا انطلاقا من أنّ لغةَ النصّ تؤسس تحت الفضاء اللغوي ما يصحّ أن نسمّيه اللغة داخل اللغة، فهي بذلك تركيب نفسي يختفي خلف قناع المفردات اللّغوية المنتسبة إلى القاموس. وعلى هذا يمكن أن نتعامل مع نصّ يجمع في تركيب واحد بين متناقضات، نستطيع أن نفهم كلاّ منها على حدة، ولكنّنا لا نستطيع أن نفهم التركيب لو حاولنا النفاذ إليه من خلال الدّلالات المعجمية لمكوّناتها.

يتّخِذ التأويل هنا شكلا أقرب إلى فنّ تعبير الرؤى والأحلام؛ فالتّركيب المتضمِّن للألفاظ المتضادّة يثير القارئ، لأوّل وهلة بغرابته، ويبدو كما لو أنّه محاولة مقصودة لضرب القارئ فيما يملكه من ثروة لغوية زكّتها قرون الاستعمال.. إنّه محاولة ضغط موجّهة ضدّ القارئ الذي فرض عليه النصّ أن يتحوّل إلى فاكّ للرموز. لكنّ الأمر سرعان ما يتغيّرُ حين نقرّر النّظر إلى اللّغة –لا من منظور الدّلالات المتواضع عليها- وإنّما من المنظور النفسي، ونوقن بعدم قدرة اللغة العادية على نقل تعقيدات التّجربة وتشابكاتها.. استنادا إلى قول ت.س. إليوت: «إذا كنت تشكو من أنّ الشاعر غامض، وهو يتجاهلك، أنت القارئ، على ما يبدو، أو أنّه لا يتحدّث إلاّ إلى دائرة محدودة من الخبراء أنت مستبعد منها.. فتذكّر أنّ ما يمكن أن يكون حاول فعله، أن يصوغ شيئا في كلمات، ما كان له أن يُقال بأيَّةِ طريقةٍ أخرى، ولذلك فهو متّخَذٌ من لغة قد تكون جديرة باحتمال مشقّة التعلّم»([9]).

إنّ الشاعر ملزم بأنّ يجهد نفسه أكثر حتى يتمكّن من تمرير رسالته؛ فهو لا يتوفّر على (الوسائل!) التي تمكّنه من أن يستعيض عن التصوير القائم على التّضاد والتّنافر وعدم الملاءمة الدلالية، بوسائل أكثر بساطة ووضوحا، فهي غير موجودة أصلا.. وحتّى مع إمكانية وجود مثل هذه الوسائل في مجال الكتابة الشعرية، فإنّ اللجوء إليها سيؤدّي إلى انتفاء الشعر وتحوّله إلى نثر. ذلك أنّ الشعر –كما يقول نزار قباني- “رقص باللغة، رقص بكلّ أجزاء النفس، وبكلّ خلجاتها الإرادية واللاّإرادية وبكلّ طبقاتها الظاهرة والمستترة”.([10])

إنّ التعبير الشعري – من منظور أسلوبية الانزياح- “يجنح إلى أن يكون ملتويا، لا عن جهل صاحبه للمُتواضع عليه من الاستعمالات أو القواعد والقوانين اللاّزم اتّباعها.. وإنّما هو تعبير ملتو عن قصد، ويحتمل ضمنيا معرفة صاحبه بالمعيار الذي سيخرقه هذا القول”([11]). إنّه استبدال حرّ للأقنعة في حفلة تنكّرية يعرف المشاركون فيها أنّ ملامحهم الأصلية تتشابه إلى حدِّ التّطابق، فيقرّرون عدم العودة إليها -قصدا- هروبا من التّكرار والابتذال ونزوعا إلى التجدّد والتفرّد والخصوصية…

وإذا كان الانزياح بالنسبة إلى اللّغة العادية (المعيار) خاصية مشتركة في جميع الخطابات الشعرية، فإنّ شعر الحداثة لا يكاد يكتفي بهذا النّوع من العدول بل يتعدّاه إلى ما يتّصل بالعلاقات السياقية التجاورية. وعلى هذا فإنّ اهتمامنا بظاهرة الانزياح في النصّ سيتوزّع على مستويين: مستوى المعيار ومستوى السياق.

مستوى “المعيار”

المتأمّل لقصيدة “عذاب الحلاّج” يلحظ للوهلة الأولى أن الشّاعر يجنح إلى ارتكاب هذه المخالفات المقصودة التي نسمّيها عدولا أو انزياحا، بل إنّ خرق اللغة يكاد يتحوّل في مقاطع القصيدة إلى هوس ملازم، وهكذا نجد في المقطع الأوّل الموسوم بـ “المريد”:

سقطتَ في العتمة والفراغ

تلطّختْ روحُك بالأصباغ

شربت من آبارهم

أصابك الدوار

تلوثت يداك بالحبر وبالغبار

وها أنا أراك عاكفا على هذي النار

صمتُك: بيتُ العنكبوت، تاجُك: الصُّبّار

ونحن نقف هنا عند نموذج حي لهذا الذي ارتأينا تسميته بـ أقنعة اللغة؛ فالذي يصادفنا خلال القراءة السطحية ليس إلاّ أقنعة وصورا لفظية تخفي وراءها إمكانات متعدّدة للتّدليل، يبدو أنّ الشاعر فاضَلَ بينها لينتقي الصورة الماثلة أمامنا، وهي صورة يلفّها الغموض والتناقض على كلّ الأصعدة. فالسُّقوط –كما هو معلوم- يكون من مكان عالٍ إلى مكان دانٍ. والمكان ممّا يندرج ضمن المحسوس، كما أنّ من أهمّ خصوصيات المكان أنّه يحدّ ما يحتويه، فلا يحقّق الشيء وجوده الفعلي إلاّ في إطار المكان.. والحديث عن السقوط فيما هو خارج عن حدود المكان أو خارج نطاق الوجود ككل، هو ضرب من الخرق لما اعتدناه في الاستعمال العادي للّغة، بل وفي الاستعمالات الشعرية التي تميل إلى الوضوح ولا تكاد تخرج عن المتواضع عليه إلاّ لماما.

وإذا ما أردنا البحث عن بديل أسلوبي لـ: “سقطت” في هذا السياق، فيمكن أن نقترح: “غِبت”؛ إذ الانخراط في العتمة والفراغ، يحيل إلى الغياب وليس إلى السقوط. لكنّ ورود الفعل: “سقط” أضفى على السطر نوعا من الغموض البديع، الذي يدفع القارئ إلى طرح السؤال: لماذا السقوط وليس الغياب؟ ليدرك -بعد قليل تأمّل- أنّ شعرية السّطر تكمن في هذا القلق الذي يحدثه لديه، وأنّ السقوط أقوى على نقل ما يعتمل في خاطر الشاعر، وهو مرارة المأساة؛ مأساة الحلاج (قناع الشاعر)([12]) “الشهيد الأكبر” –على حدّ تعبير عبد الرحمن بدوي- الذي قدّم دمه فداء للتّيار الرّوحي في الإسلام([13])؛ حين صُلب ونُكِّل بجثته في ميدان من ميادين بغداد.. مدينتِه التي عاش في كنفها كاسبا المكانة والمنزلة التي لم يحظ بها إلاّ القليل، وأحبّه كثير من عامتها وخاصتها…ثمّ حدث أن سقط من عليائه حين كفّره بعض فقهائها وسيق إلى المقصلة. ومأساة هذا البغدادي المعاصر (البياتي) المتمثّلة في الاغتراب الذي اقترن عند الشاعر بالسقوط أو الغياب. فلئن دلّ السقوط في معناه المتداول على الوقوع والتّهاوي من أعلى إلى أسفل، فهو عند الشاعر سقوط في المنزِلة وحطٌّ منها.. إنّه خروج من الوجود المُشرق إلى الظلمة والفراغ والعدم.

وإذا انتقلنا إلى السَّطر الموالي، فإنّنا نلمح تنافرا في التّركيب، فلسنا نعرف في التعبير العادي أنّ الرّوح تتلطّخ بالأصباغ؛ ذلك بأنّها (أي الرّوح) مجرّدة لا تُرى.. فكيف يمكن تصوّر ما لا يُرى ملطّخا؟ثمّ لماذا لم يقل الشاعر: تلطّخت “يداك” عوض “روحك”؟

إنّ علاقة الروح بالأصباغ هنا تدعونا إلى استحضار ثنائية يحفل بها الصوفية كثيرا في كتاباتهم، وهي ثنائية: الباطن/ الظاهر، باعتبار أنّ الطرف الأوّل يشير إلى العلم القلبي (المقامات والأحوال)، بينما يشير الطرف الثاني إلى العمل بالجوارح. وعلى هذا فالرّوح تُحيل على الطرف الأوّل: الباطن، والأصباغ تحيل على الطرف الثاني: الظاهر.. وحين يقومُ الظاهر (الأصباغ) بتلطيخ الباطن فهذا بمثابة إعلان على انتصار المظهر على الجوهر، والجسد (الطيني) على الروح، والمادي على المعنوي، والزائل على الخالد.

إنّ الثلاثية المكوّنة لهذا السّطر الشعري تنزاح عن دلالاتها الموجودة في القاموس، لتتلبَّس بدلالات جديدة تأتي من هذا الجمع الغريب الذي عمد إليه الشّاعر، لينقل –فيما يبدو- صورة الزّيف والكذب، المناقضين للشفافية والصدق؛ إنّه زيف الساسة وولاة الأمور.. وهنا تبدو لنا صلاحية توظيف “الرّوح” عوض “اليد” (التي ترد في السطر الخامس من المقطع ذاته) أو غيرها من الجوارح، فالرّوح ترتبط في مختلف المذاهب الدينية والفلسفية -وعند الصوفية بصورة أخص- بما هو سام وخالد([14])، وهي تأتي في مقابل الجسد الذي يقترن بالزّوال والفناء.

إنّ توظيف كلمة “الروح” – بالدّلالة التي رجّحناها أعلاه- ينسجم تمام الانسجام مع السطر السابق؛ فإذا كان الشاعر قد عبّر عن دنوّ المنزلة بالسقوط في الظلمة والفراغ، للتدليل على جسامة الموقف، وكشف الحجاب عن الظلمة التي تملأ النفس.. فإنّ الذي يقوّي هذه الدّلالة، جمعه – في السطر الثاني- بين الفعل “تلطّخ” الذي يحيلُ صرفيا إلى ما هو عارض وزائل، وبين “الرّوح” التي تحيل إلى الجوهر الذي لا تدركه الحواس. أو بين الدّناسة (التي عبّر عنها بالفعل الذي من خصائصه التحوّل)، والطّهارة (التي عبّر عنها بالإسم الذي من خصائصه الثّبات). هذا الجمع يمكن أن يُؤوّل بما أُلصِق بروح مخاطَبِ الشاعر (الطاهرة) من كذب وافتراء لا صلة لهما بحقيقة حاله. وتأتي كلمة يد المثناة “يداك” (الدّالة على الجارحة) بعد ذلك لتأكيد هذا المعنى وتثبيته في اتّجاه آخر، وهو اتّجاه التورّط في المآمرة أو استمراء اللعبة([15]) الذي تشير إليه عبارة: “تلوّثت يداك بالحبر والغبار”.

وفي النموذج التّالي يبدو لنا الشّاعر أكثر ميلا إلى البعد عن المباشرة في التعبير، وذلك باستخدام لغة مكثّفة مُغرِقة في الرمزية. ما يربك القارئ ويجعله مضطرا إلى تفجير مفردات هذه اللغة، بحثا عن العلاقات النفسية والخلفيات المعرفية التي ولدتها وأنتجتها؛ فالشاعر يجعل كلمة “الصمت” التي تدلّ في اللغة على الانقطاع والامتناع([16]) عن الكلام، بموازاة “بيت العنكبوت”‼؟ في مستوى أوّل. ويجعل كلمة “التّاج” (الموصولة أيضا بكاف المخاطب)، بموازاة كلمة: “الصبّار”‼؟ في مستوى ثان.. ولا شكّ أنّ فهم العلاقات الخفية التي يرُوم الشّاعر إقامتها من وراء هذه الصورة الظاهرة التي يلفّها الغموض والالتباس، يحتاج إلى الذهاب بعيدا للحفر في الخلفية المعرفية الصوفية التي ينشئ عنها الشاعر.

وهكذا يمكن أنّ نستشفّ من المقابلة بين “الصّمت” و”بيت العنكبوت”، أنّ الشاعر يرى في بوح مخاطبه مصدر عذابه وهلاكه، ولتقرير ذلك نسعى فيما يأتي إلى تبئير مفهوم الصمت باعتباره مفهوما مركزيا في النّسق المعرفي الصوفي.

إنّ حضور بيت العنكبوت في السّطر السابق- يذكّرنا بما حدث للنبيّ (ص) مع قومه الّذين تآمرُواْ لقتله، بعدما صدع بما أُمر به، ودعاهم إلى التوحيد ونبذ ما كانوا يعبدون من دون الله… إلاّ أنّه (ص) اختار الفرار من بطش أعدائه/ أهله وأبناء عشيرته، ليختبئ هو ومن معه في غار ثور. وهنا يظهر العنكبوت بوصفه ناصرا للنبيّ وحائلا بينه وبين أعدائه، حيث بنَى على الغار بيتا أَوْهَمَ الأعداء من المشركين بأنْ لا أحد في الدّاخل؛ «إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا…»([17]). قال القرطبي في تفسير هذه الآية: “فلمّا فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف، فقفى الأثرَ حتّى وقف على الغار، فقال: هنا انقطع الأثر، فنظروا؛ فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته (…) فلمّا رأوا نسج العنكبوت؛ أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النّبيّ(ص) مئة ناقة لمن ردّه عليهم”([18]).

فلو اختار الحلاج الصَّمْتَ -كما اختاره النبي (ص) وهو في الغار، مع إيقانه بأنه مؤيّد من ربِّه– لكان (أي الحلاج) في منجاةٍ من كيد الكائدين، وهم الأصدقاء/ الأعداء الّذين باح أمامهم بالسرّ فتآمروا عليه، وخطّطوا لمحاكمته وصلبه.. وقد رأى القرطبي في الآية المذكورة دليلاً على “جوازِ الفرار بالدّين خوفاً من العدوّ، والاستخفاء في الغيران وغيرها، وألاّ يلقي الإنسان بيده إلى العدوّ توكّلا على الله واستسلاما له ولو شاء ربّكم لعصمه مع كونه معهم. ولكنّها سنّة الله في الأنبياء وغيرهم…”.([19])

وبشيءٍ من التأمّل في العلاقة المشار إليها أعلاه، نجد أنّ الجهر بالحقيقة كان سببا في العذاب الذي لحق بكلّ من الحلاج والشاعر؛ فـلقد قدَّم الأوّلُ “حياته ثمناً لمحاولته التعبير عن الأحوال التي يعاينها ويعانيها، مثلما عاينها وعاناها معاصروه من رجال التصوف”([20]).. وقدّم الثاني حريته ثمنا لمحاولته التعبير عن حقيقة أحوال النّاس في وطنه، تحت وطأة أنظمة فاسدة وصمت مطبق يخيم على النفوس.. ثمّ إنّ جريمة قتل الأنبياء الذي ظهرت في بني إسرائيل، وأقرّها القرآن الكريم([21]) تتّصل اتّصالا وثيقا بهذا المعنى؛ ولعلّ في القصّة التي تناقلها المفسّرون عن مقتل نبي الله يحيى عليه السلام بسبب كلمة أفتى بها مندوحة عن التفصيل([22]). ونستطيع – بعد هذا- أن نزعم دون تردّد بأنّ حضور صورة الحلاج في النصّ، يتّخذ أبعادا تُوحي في الكثير من الأحيان بالمماثلة بينه وبين “المخلّص”([23]) في الفكر الديني لأمم الرّسالات السماوية (خاصة)، بل ربّما “النبيّ”([24])!؟.. وهي مماثلة تظهر وتختفي على امتداد مقاطع النص، إلاّ أنّها تُخفي في الباطن مماثلة أعمق وأبعد؛ بين الشّاعر (الموهوب) الذي يرى في نفسه المخلّص، ولسان حال المضطهدين والمظلومين في وطنه وفي الأوطان جميعِها من جهة، والنبيّ (المُكَلَّم، الموحى إليه) الذي يحمل رسالة إنسانية، ترُوم إخراج الناس من الظلمات إلى النّور.. لكنّ المشكلة في الحالتين هي مشكلة اللّغة التي تُبْطِنُ أكثر ممّا تظهر، وتتعدّى كونها مجرّد كلمات في تراكيب مخصوصة إلى احتواء الأفكار والمعتقدات والتعبير عن وجهات النظر، فتكون بحسب منطوقها فيصلا بين الفرقاء والأحزاب وأرباب الملل والديانات، وتخلق من ثمّة الأعداء والمتآمرين، كما تخلق الأصحاب والحواريين.

يتّخذ الصمت في النموذج السابق بعدا صوفيا، يجعله دليلا على ترقّ وارتقاء في سلّم العرفان، ومعيارا للوصول، وعلامة على استحقاق العارف –عند القوم- لقب الحكيم. قال أبو بكر الوراق: “الحكماء خلف الأنبياء وليس بعد النبوة إلاّ الحكمة وهي إحكام الأمور. وأول علامات الحكمة طول الصمت والكلام على قدر الحاجة”.([25])

وبالعودة إلى المقابلة التي أقامها الشاعر بين كلمة “الصبّار”، التي تحيل إلى النبات الشائك المعروف، وكلمة التاج، تتعزّز بعض جوانب المماثلة التي أشرنا إليها (بين الحلاج والنبي خاصة)، وذلك أنّ عبارة “تاج الصبار” تبدو وكأنّها بديل أسلوبي لعبارة “إكليل الشّوك”، التي ورد ذكرها في قصّة صلب المسيح التي ترويها كتب العهد الجديد بصيغ مختلفة، نكتفي منها بهذه الصيغة التي يوردها إنجيل متى: “فأخَذ عسكر الوالي يسوع إلى دار الولاية وجمعوا عليه كل الكتيبة؛ فعروه وألبسوه رداء قرمزيا؛ وضفروا إكليلا من شوك ووضعوه على رأسه، وقصبة في يمينه. وكانوا يجثون قدامه ويستهزئون به قائلين: السلام يا ملك اليهود؛ وبصقوا عليه، وأخذوا القصبة وضربوه على رأسه؛ وبعد ما استهزأوا به، نزعوا عنه الرداء وألبسوه ثيابه، ومضوا به للصلب”([26]). فالشاعر يرمي إلى المماثلة بين صلب الحلاج وصلب المسيح، وجعلِ الصُّبّار -من ثمّة- تاجا على رأس الحلاج كما جُعل الإكليل الشوكي تاجا على رأس المسيح المصلوب. وإذا كان إكليل الشّوك قد اتّخذ في العقيدة المسيحية أبعادا رمزية جعلته تاجا اختياريا([27]) على رأس (المخلّص) وتتويجا له، فإنّ هذه الدلالة الرمزية لا تغيب عن الصُّبَّار (تاج الحلاج)، بحيثُ يمكن أن نولّد من هذه الكلمة (أي الصبّار) مصطلحا يعتبر عنوانا على أحد المقامات الكبرى المميّزة للتّجربة الصوفية، هو مصطلح الصبر؛ فالعذاب/ التعذيب -الذي تعرّض له الحلاّج، لا بدّ أن يترك ألما.. وبلسم الألم “الصبر” وإن كان مُرّاً(*).. إلاّ أنّه مستساغ في عُرف الصوفية. “فإنّه (أي الصبر) دواءٌ مرٌّ وشربة كريهة مباركة تجلب كلّ منفعة وتدفع عنك كلّ مضرّة، فإذا كان الدواء بهذه الصفة فالإنسان العاقل يُكرِه النفس على شربه وتجرّعه ويغضّ على مرارته وحدّته…”([28])؛ “وهو في حقّ الخواص: التلذّذ ببلاء المحبوب، واستعذاب العذاب عند استغراق أسرار القلوب، في هوى المطلوب، لمشاهدة المسبّب في الأسباب، ورؤية المعذّب في العذاب، فهو أيضا مظهر للمحبّة عال، ومختصّ بها من غير زوال”.([29])

ونحن نقف في المقطع الأخير المعنون بـ “رماد في الرّيح” على نموذج آخر من هذا التعبير الملتوي، الذي يجنح الشّاعر من خلاله إلى النأي عن جعل المعاني في متناول القارئ، ممّا يدفعه (أي القارئ) إلى خوض غمار التأويل للخروج من الحيرة التي يسبّبها تنافر وحدات النصّ.. يقول البياتي:

دفاتري

تناهبوا أوراقها

وأخمدوا أشواقها

ومرّغوا الحروف في الأوحال

والدّفاتر في هذا المقطع تحيل إلى كتب الحلاّج التي صودرت بعد قتله([30])، كما تحيل إلى دواوين البياتي التي تنطق بأفكاره الثورية المناهضة لكلّ ظلم وجور وفساد سياسي.. ومن ثمّ فإنّ أعداء الحرية لن يرتاحوا لوجود مثل هذه الدفاتر، فيكون مصيرها المحتوم هو النهب. هذا الذي جاء بصيغة “تفاعل” مقورنة بواو الجماعة، التي تدلّ على التشارك في النّهب، وعلى كثرة هذه الأيدي المناهضة لحرية الرأي.

لكنّ الذي يستوقف القارئ في هذه الأسطر هو قول الشاعر:

وأخمدوا أشواقها

ومرّغوا الحروف في الأوحال

فالاستعمال العادي للّغة يقتضي اقتران الفعل “أخمد” بالنّار، لكن التعبير هنا ينزاح إلى نوع من الإغراب، حيث يجِدُ القارِئُ نفسه أمام تركيب متنافر الأجزاء تتشتّتُ على إثره الدلالة وتتشظّى، ولا تعود إلى حضن القصيدة إلاّ بنوع من التأويل الذي يرمي من خلاله إلى لمّ شتات المعنى، وإضفاء الاتّساق على ما لا يبدو متّسقا ظاهريا. فالشاعر في السطر السابق يعمد إلى إدخال الحروف في دائرة الشيئية، وهو انزياح واضح عن الاستعمال العادي لكلمة “الحروف” التي تدلّ على الوحدات الكتابية الدنيا المكوّنة لبنية لغة ما، وهي الوحدات التي تتآلف فيما بينها لتشكيل الكلمات… وتناغما مع الدلالات التي أقررناها في السطر السابق، يمكن القول إنّ تمريغ الحروف في الأوحال، هو انزياح عمد إليه الشاعر للإشارة إلى أنّ الّذين أخمدوا أشواق الدفاتر (فحالوا دونها وأسماع الناس)، لم يكتفوا بهذه الجريمة النكراء، فنزعوا الحروف من بين أسطرها ليمرّغوها في الأوحال. والفعل “مرّغ” يوحي دلاليا بمعاني التّدنيس، والتّلطيخ، والإيساخ([31])… أمّا حين يقترن بالحروف فإنّه يتّجه نحو التّلوين، والتّزوير، والتّلبيس، وحمل الكلام على غير مراد قائله.

إنّ هذه التعابير الملتوية سمة من سمات النصّ الشعري دلاليا، إذ لا قيام للشعر من دونها وإِلاَّ تحوّل إلى حديث تقريري أجوف نرى من خلاله معناه، دون أن يستوقفنا هو في ذاته.

مستوى “السياق”

إنّ الذي يُكسب التّجربة الشعرية قيمتها–من منظور بلاغة الانزياح- ليس هو القدرة على إنجاز نصّ فردي يقاس بمدى قدرته على خرق المألوف وثورته على معايير الاستعمال اللغوي فحسب، وإنّما هو قدرة الشاعر على نسج العلاقات بين المفردات والمتتاليات من داخل النصّ نفسه، بما هو شبكة من العلاقات.. من هنا فإنّ معرفة الأسباب، التي تؤدّي إلى جعل القيمة الأسلوبية لبعض الألفاظ متغيّرة -بحيث تفقد هذه القيمة في موقع معيّن، بينما تتحوَّلُ إلى بؤرة للدّلالة أو ممهِّد لتشكّلها في موقع آخر- لا تتأتّى مطلقا إلاّ من مدخل التسليم بأهمية السّياق ودوره المركزي في تسويغ وتأويل مواقع التّضاد، التي تعترض سبيل القارئ بين الفينة والأخرى.

وما دام الأمر على هذا النحو، فإنّ اهتمامنا في هذا الجزء من القراءة، سينصب على بعض الانزياحات المتّصلة بالعلاقات التجاوُرية. وحسبُ النتائجِ التي سنتوصّل إليها في هذا الجزء من اشتغالنا، أن تؤكّد قيمة السّياق في رسم معالم الطريق للقارئ، من خلال إرشاده إلى وجوه التأويل في بعض التّعابير المنطوية على تناقض ظاهري.. وهذا ما سيتّضح من خلال قراءة بعض النماذج:

جاء في المقطع الأوّل “المريد”:

فباطِنُ الأشْيَاءِ

ظاهرُها- فظُنّ ما تشاء

وجاء في المقطع الرابع “المحاكمة”:

بُحت بكلمتين للسلطان

قلت له جبان

خارج السمات الأسلوبية التي يتميّز بها كلٌّ من النّموذجين، يمكن العثور على قاسم مشترك يربط بينهما، ويتجلى ذلك في “الانقطاع” الذي يحصل داخل السياق، والمستند إلى التنافر الدّلالي.. فالقول إنّ باطن الأشياء ظاهرها لا يستقيم ألبتّه في الاستعمال العادي للّغة، لأنّ الباطن مضادّ للظاهر، وهذا ممّا لا يختلف فيه اثنان. والذي يشدّ انتباهنا في هذا الجمع بين الباطن والظاهر في هذا السياق هو نفي وجود الباطن من قبل الشاعر، وذلك بتوريته خلف الظاهر (وهو ما ينسجم مع تأويلنا السابق لعبارة “أصباغ الروح”).

إنّ أهمّ ما يميّز التجربة الصوفية عموما، وتجربة الحلاج (قناع الشاعر) خصوصا، هو غوصها فيما وراء المحسوس؛ فهي تجربة لا تخضع لمنطق العقل الواعي وقوانينه، وإنّما هي تعبيرٌ عن أحوال الوجود الباطن، وبوحٌ بأسراره بتوسّط رموز مخصوصة..إنّها غربةٌ روحية، واعتزالٌ للعالم البشري، ونفي وتجاوز للواقع بما ينطوي عليه من عقلانية وانتظام ونسقية… هذا النفي والتّجاوُز للواقع وللظّاهر، يقابله توكيد وتثبيت للباطن وما يتّصل به من معان وتجلّيات. لكنّ الذي يبدو من خلال قول الشاعر السّابق هو أنّه يتعمّد مخالفة هذا المذهب، وهنا يجد القارئ نفسه مُلزما بالدُّخول في حوار مع السياق النصّي الذي وردت فيه العبارة. فالشاعر منذ بداية المقطع، يبدو أنّه يقصد إلى لوم مخاطبه الذي أودى به ركوب سفينة الباطن والطلسمة، وتبني لغة الإشارة، إلى إساءة الظنّ به من قِبل الفقهاء (أرباب الرّسوم حسب الاصطلاح الصوفي) وذوي السلطان، فكان ذلك مؤشّرا على هلاكه، على بداية نهايته:

من أين لي؟ وأنت في الحضرة تستجلي

وأين أنتهي؟ وأنت في بداية انتهاء

وهو في الآن نفسه يلوم الصوفية عموما –والحلاج واحد منهم- على انشغالهم بقضايا النفس والباطن وإهمالهم لقضايا النّاس وهمومهم.. وعلى هذا فهو يحاول إلغاء الباطن لحساب الظاهر، جاعلا قضايا الناس مقدَّمَة على قضايا النفس. وهذه رؤية ثورية ملتزمة تشبّع بها الشاعر في الديوان ككل (أي ديوان: سِفر الفقر والثورة)([32]).

وفي المقاطع الثلاثة الأخيرة: “المحاكمة”؛ و”الصلب”؛ و”رماد في الريح” يصوّر الشاعر كواليس المحاكمة التي أسفرت عن الحكم بالصلب، وهو يتحدّث هنا بضمير المتكلّم بدلا من ضميري المخاطب والغائب الموظّفَيْن في المقاطع الثلاثة الأولى: “المريد”؛ و”رحلة حول الكلمات”؛ و”فسيفساء”. وقبل الكشف عن دلالة هذا التّوظيف في سياق المقاطع الثلاثة المشار إليها، نعود إلى قوله:

بحت بكلمتين للسلطان

قلت له: جبان

حيث نقف مرّة أخرى عند هذا التناقض الذي يربك القارئ، فيدعوه إلى طرق باب السياق.. فالبوح يرتبط في اللّغة ارتباطا وثيقا بما هو شخصي كالسرّ ونحوه، والبوح بالسرّ لا يكون إلاّ لعزيز نرتاح إليه ونأمَنُ جانبه، ونعرف فيه كتمانه وإخلاصه. يقول المتنبي:

وللسّرّ منّي موضع لا يناله        نديم ولا يفضي إليه شراب

والّذي يبدو من خلال السّطر الأوّل لهذا المقطع، أنّ الشاعر يرتاح للسلطان ويبادله الوُدَّ، فلا مانع للبوح له بسرّه أو بالكلمتين اللتين كانتا في عداد السرّ عنده. لكنّ هذا الفهم يختلّ بمجرّد قراءة السطر الموالي، وذلك حين نكتشف أن السرّ الذي كان الشاعرُ يودّ البوح به هو، قوله للسلطان: جبان.. فهذا ممّا لا يستقيم في الاستعمال اللغوي المعتاد. وإذا ما أردنا قراءة السطرين في إطار السياق الذي يضمّهما، يتّضح أنّ السلطان هنا هو رمز للسلطة الجائرة الظالمة. وهذه السلطة ينبغي أن تواجَه بما يردعها ويضعف شوكتها، وهو في أضعف الأحوال الجهر بالحقّ في وجهها.. وقد كان الحقّ الذي جهر به الشاعر هو تلفّظه بكلمة: جبان، فقط، بينما كان يريد أن يقول كلمتين. وهذا ملمح دال على براعة الشاعر في تجسيد القمع الذي يواجه به المُجاهِرُ بالحقّ، حيث لا تترك له الفرصة لإتمام كلامه حتى يكون قد قُتل أو قطع لسانه.. وربما كان هذا الارتباك في الكلمة التي نطق بها الشاعر، دليلا على غموض ألفاظ الصوفية وجريانها مجرى الإشارة ودخولها في دائرة الأسرار، التي لا يجوز للعارف البوح بها، وإلاّ فإنّه يؤاخذ على ذلك إذا حُمل كلامه على معنى العبارة.

ولما كان لفظ السرّ يطلق عند القوم “على ما يكون مصونا مكتوما بين العبد وربّه من الأحوال”([33])، حتى قالوا: «صدور الأحرار قبور الأسرار»، فإنّ كبار الصوفية أنكروا أشدّ الإنكار على من أذاعها هذه الأسرار وأفشاها وسمّوا ذلك شطحا؛ وهو تعبير باللّسان عن المعنى المستقرّ في القلب.. قال بعضهم: “الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهي نادرة أن توجد من المحقّقين”([34])؛ وقال آخر “والشطح زلّة المحقّقين إذا لم يؤمر به”([35]). وقد تنبّه ابن خلدون إلى هذه العلاقة بين غموض العبارة الصّوفية ومراتب أصحابها ومآلاتهم، بل وسطّر معايير وضوابط لقَبُول تصريحات هؤلاء وتأويلها بما يناسب أحوالهم مقاماتهم، أو مؤاخذتهم بها حين قال: «وأمّا الألفاظ الموهمة التي يعبّرون عنها بالشّطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أنّ الإنصاف في شأنِ القوم أنّهم أهل غيبة عن الحسّ، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور معذور. فمن عُلِمَ منهم فضله واقتداؤه، حُمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإنّ العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله. ومن لم يُعلم فضله ولا اشتُهر، فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك، إذا لم يتبيّن لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأمّا من تكلّم بمثلها، وهو حاضر في حسّه، ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوّفة بقتل الحلاج، لأنّه تكلّم في حضور، وهو مالك لحاله. والله أعلم».([36])

وتأسيسا على هذا يمكن النظر إلى السلطان (وأتباعه من الفقهاء والعامّة)، باعتباره رمزا للمتلقي غير الكفء الذي يكتفي بالفهم السّطحي للعبارة التي يبوح بها العارف/ الشاعر.. ونستطيع هنا أن نتحسّس نبرة اللوم التي أشرنا إليها سابقا. إنّه لوم على عدم كتمان السرّ وعلى البوح به لغير أهله، وما يترتّب عن ذلك من سوء فهم ومن محاكمة وقتل.. إلاّ أنّ المفارقة تكمن في أنّ الحلاّج باح لمخاطبيه بحقيقة حاله، بينما فضّل الشاعر البوح بحقيقة حال مخاطبه (قوله: جبان)، وهو يعلم أن المصير واحد.

وإذا كانت المقاطع الثلاثة الأولى –وقد وظّفت ضميري المخاطب والغائب- تميل إلى نوع من اللّعب اللغوي الموهِم بالتّباعد الظاهري بين شخصيتي القناع: الشاعر والحلاج، فإنّ المقاطع الثلاثة الأخيرة –وقد جاءت جميعها بضمير المتكلّم- تأتي لتلملم الشّتات ولتبني الاتِّساق على أنقاض التّضاد؛ فالشاعر في هذه المقاطع –التي تكشف عناوينها عن تدرّج منطقي يبدأ بالمحاكمة وينتهي بإحراق الجثّة (رمادٌ في الريح)([37]) مرورا بالصلب- لا يملك إلاّ التّماهي التّام مع قناعه (الحلاّج).

قلت لكلب الصيد كلمتين

ونمت ليلتين

حلمت فيهما بأنّي لم أعد لفظين

توحّدت
تعانقت
وباركت ـ أنت أنا

هذا التّماهي الذي يكشف في بعض من وجوهه عن واحدة من القضايا الأكثر إثارة للجدل، في تاريخ التصوّف الإسلامي عموما، وفي التصوّف الفلسفي الذي يعتبر الحلاج أحد أعلامه الكبار، وهي قضية القول بالحلول التي ربّما كانت قضية القضايا في سياق التُّهم التي أدين بها الحلاّج.. وهي التّهمة التي برّرها خصومه بفهم مخصوص للأقوال المنسوبة إليه، مثل قوله:

رأيــتُ رَبّــــــــــــــــــــــــــــي بعـينِ قلـبــي       فقُلتُ: مَنْ أنتَ؟ قال: أنتَ([38])

وقوله:

 مُزِجَتْ روحُك في روحي كما      تُمزَجُ الخمرةُ بالماءِ الزُّلال
فــــــــــــــــإذا مسّـَكَ شـيءٌ مسّنـــــــــــي      فـإذا أنتَ أنا في كلِّ حال([39])

إنّ إعلان التّماهي -الذي تزداد حدّته كلّما اتّجهنا نحو النهاية- يفضي بما لا يترك مجالا للشكّ إلى جعل تيمة العذاب –المضمّنة في العنوان- تَرِكةً وقدَراً متعاليا (حكَمْتَ بالموت عليَّ قبل ألف عامنزل بالشّاعر في غمرة انشغاله بهموم الناس ومحاولته التعبير عنها، وتمسّكه بالحلاج مبدأً ولغةً ومصيراً..

يا مسكري بحبه
محيري في قربه([40])

وهو قدر أشبه ما يكون بقدر المسيح (مرّة أخرى) الذي جاء بالبيِّنات الدّالة على صدق دعواه؛

مائدتي([41])، عشائي الأخير([42]) في وليمة الحياة

إلاّ أنّه كُذِّب وخانه من لم يعرف كنهه، فارتقى إلى عليائه؛

فافتح لي الشباك([43])، مدّ لي يديك آه !

وأما بعد،

فتبدو قصيدة عذاب الحلاج– بعد الذي تقدّم- وكأنّها فصل من فصول أسطورة ضاربة في عمق التّاريخ، تحكي عن صراع الإنسان: الشاعر/ الصوفيّ/ النبيّ…مع “الكلمة” التي تأبى إلاّ الانفلات من عقالها، ومحو آثارها الأصلية، للظّهور في صور متناقضة تُربك المتلقي، وتخلق حالات من سوء الفهمِ وتعسُّفِ التأويل، المؤدّي إلى التّكذيب والتّكفير وإلصاق تُهَمِ الجنون، والمروق، والهرطقة.. وما يترتّب عن ذلك من سَجْن وقَتْل وتَنْكيل بالجُثث…إلخ

إنّها صور تدعونا –في حالة القصيدة العربية المعاصرة- إلى استدعاء الأنساق المعرفية والثّقافية التي اشتغلت في وعي الشاعر ولاوعيه، وتبدّت بصور مشوّشة بعدما توارت خلف الأقنعة في التّشكيل اللغوي الذي نسمّيه نصّاً. من هنا فإنّ وقوفنا عند مستويَيْ الانزياح السالفَيْ الذّكر، كان وسيلة لإظهار التّناقُض، سعيا إلى إعادة بناء الانسجام ورسم الملامح، من خلال استنطاق خلفيات النصّ ومضمراته.

وبعيدًا عن ادِّعاء أيِّ شكلٍ من أشكال الإحاطة النّهائية بمعاني النصّ، والإمساك المحكم بتلابيبه وإمكاناته التّدليلية.. فإنّ هذه القراءة توطّر نفسها باعتبارها صوتا ينْضَافُ إلى تشكيلة الأصوات الناظمة لسمفونية النصّ (الحلاّج، والبياتي، والقصص الديني، والقراءات المتعاقبة على النصّ).. وهي محاولةٌ تنطلق من منطوق النصّ للبحث عن المسكوت عنه وملء الفراغات، على اعتبار أنّ لغة النصّ هي مركز الثّقل ولسان الميزان الذي لا غنى عنه لخلق التّوازُنات التي من شأنها إرضاء القارئ والقراءة ولو مؤقّتا.

_______________

— ثبت المراجع —

– القرآن الكريم.

  • الكتب والدوريات

  1. (ابن خلدون) عبد الرحمن، المقدّمة، مكتبة دار المدينة المنوّرة للنشر والتوزيع- الدّار التونسية للنشر، 1984.

  2. (ابن خلكان) أبو العباس شمس الدين، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، المجلد الثاني، دار صادر- بيروت، د ت.

  3. (أركون) محمد، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، ط 2، 2005.

  4. (إسماعيل) عز الدين، مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين، مجلة فصول، المجلد الأوّل، العدد الرابع، يوليو- 1971.

  5. (البغدادي) علي بن أنجب الساعي،أخبار الحلاّج، تحقيق: موفق فوزي الجبر، دار الطليعة الجديدة، دمشق، ط 2، 1997.

  6. (البياتي) عبد الوهاب، ديوان عبد الوهاب البياتي، المجلّد الثاني، دار العودة، بيروت، ط 4، 1990.

  7. (الحلاج) أبو المغيث الحسين بن منصور، ديوان الحلاج، إعداد: محمد باسل عيون السّود، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط 1، 2007.

  8. (الذهبي) محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز، سير أعلام النبلاء، تحقيق: حسّان عبد المنان، ج 1، طبعة بيت الأفكار الدولية، د ت.

  9. (السلّمي) محمد بن الحسين، طبقات الصوفية، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط 1، 1998.

  10. (الشنطي) محمد صالح، قضية اللغة في الشعر العربي الحديث، مجلّة الفيصل، ع:129، السنة الحادية عشرة، نوفمبر 1987.

  11. (العجم) رفيق، موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلامي، مكتبة لبنان ناشرون، ط 1، 1999.

  12. (القرطبي) أبو بكر، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، الجزء العاشر، ط1، 2006.

  13. (إليوت) ت. س، في الشعر والشعراء، ترجمة: محمد جديد، دار كنعان للدراسات والنشر- دمشق، ط 1، 1991.

  14. (بارت) رولان، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة: محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، ط 1، 2002.

  15. (بدوي) عبد الرحمن، شخصيات قلقة في الإسلام، دار النهضة العربية، القاهرة، ط 2، 1964.

  16. (بن فارس) أحمد، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، ج 3، دار الفكر- بيروت، دت.

  17. (راجع) عبد الله، القصيدة المغربية بنية الشهادة والاستشهاد، ج 1، منشورات عيون، ط 1، 1987.

  18. (زيدان) يوسف، الحلاج ومحاولة تفجير اللغة،مجلة الهلال، القاهرة، مارس، 1992.

  19. (عصفور) جابر، أقنعة الشعر المعاصر مهيار الدمشقي، مجلة فصول،المجلد الأول، العدد 4، يوليو1981.

  20. (كوهن) جان، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، ط 1، 1986.

  21. (مفتاح) محمد، مجهول البيان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 1، 1990.

  • المواقع الإلكترونية

  • موقع إرسالية مار نارساي الكادانية الكاثوليكية- http://www.marnarsay.com.

  • الموقع الرسمي لكنيسة الأنبا تكلا هيمانوت القبطية الأرثوذكسية اﻹسكندرية، مصر– http://st-takla.org.

*  – أستاذ اللغة العربية بسلك الثانوي التأهيلي- نيابة سطات- المملكة المغربية.

[1] – ينظر: محمد صالح الشنطي، قضية اللغة في الشعر العربي الحديث، مجلّة الفيصل، (ع:129)، السنة الحادية عشرة، نوفمبر- 1987، ص:26.

[2] – ديوان سفر الفقر والثورة، ضمن ديوان عبد الوهاب البياتي، المجلّد الثاني، دار العودة، بيروت، (ط 4)، 1990، ص:9.

[3] – عبد الوهّاب البياتي شاعر وأديب عراقي (ولد في بغداد سنة 1926). يعد من الرّواد المؤسّسين لمدرسة الشعر الحرّ في العراق. من أعماله الشعرية التي بلغت ثمانية عشر ديوانا: ملائكة وشياطين (1950)؛ أباريق مهمّشة (1955)؛ المجد للأطفال والزيتون (1956)… بالإضافة إلى مسرحية بعنوان: محاكمة في نيسابور (1973). ومؤلّفات أخرى نذكُر منها: “أراجون“، و”تجربتي الشعرية“، و”مدن ورجال ومتاهات”.. وقد جُمعت حواراته في كتاب “كنت أشكو إلى الحجر”. هذا فضلا عن اشتراكه عام 1954 في تحرير مجلّة «الثقافة الجديدة» التي أغلقت فيما بعد، وفُصِلَ البياتي عن وظيفته، واعتقل بسبب مواقفه الوطنية، وفي سنة 1963 أسقطت عنه الجنسية العراقية. غادر العراق بعد الإفراج عنه وعاد إليها بعد ثورة 1958 ليعيّن بعد فترة قصيرة ملحقا ثقافيا في السفارة العراقية بموسكو… توفي بدمشق سنة 1999.

[4] – أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج (244- 309هـ) تَرْجَم له ابن خِلكان بقوله: “أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج الزّاهد المشهور؛ من أهل البيضاء، وهي بلدة بفارس، نشأ بواسط  والعراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره، والناسُ في أَمْرِهِ مختلفون: فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفّره” (ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر- بيروت، المجلد الثاني، ص:140).

[5] – أخبار الحلاّج، تصنيف: علي بن أنجب الساعي البغدادي، تحقيق: موفق فوزي الجبر، دار الطليعة الجديدة، دمشق، (ط 2)، 1997، ص:84.

[6] – نخص بالذكر هنا المستشرق لويس ماسينيون Louis Massignon (1883- 1962م) وهو من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم. تعلّم العربية والتركية والفارسية والألمانية والإنكليزية وعني بالآثار القديمة… درس في الجامعة المصرية القديمة (1913).. استهواه التصوف الإسلامي فدرس الحلاج دراسة مستفيضة، ونشر “ديوان الحلاج” مع ترجمته إلى الفرنسية، وكذلك “مصطلحات الصوفية” و”أخبار الحلاج” و”الطواسين”… ويرجع إليه الفضل الأكبر في إعادة نفض الغبار عن شخصية الحلاج..كما كتب ماسينيون عن ابن سبعين الصوفي الأندلسي، وعن سلمان الفارسي. تولى لويس تحرير “مجلة الدراسات الإسلامية” وأصدر بالفرنسية “حوليات العالم الإسلامي” حتى عام 1954. (للمزيد من التفاصيل حول حياة ماسينيون وإسهاماته العلمية، يمكن الرجوع إلى كتاب: شخصيات قلقة في الإسلام، دراسات ألّف بينها وترجمها: د. عبد الرحمن بدوي، دار النهضة العربية، القاهرة، (ط 2)، 1964، الصفحات: و- يز).  

[7] – رولان بارت، الكتابة في درجة الصفر، ترجمة: محمد نديم خشفة، مركز الإنماء الحضاري، (ط 1)، 2002، ص:24.

[8] – للتوسّع أكثر يمكن العودة إلى: جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، (ط 1)، 1986. 

[9] – ت.س. إليوت، في الشعر والشعراء، ترجمة: محمد جديد، دار كنعان للدراسات والنشر- دمشق، (ط 1)، 1991، ص:132.

[10] – ينظر: عز الدين إسماعيل، مفهوم الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين، مجلة فصول، المجلد الأوّل، (العدد الرابع)، يوليو- 1971، ص:54.

[11] – ينظر: عبد الله راجع، القصيدة المغربية بنية الشهادة والاستشهاد، ج 1، منشورات عيون، (ط 1)، 1987، ص:24.

[12] – إنّ القناع –كما يرى جابر عصفور- عبارة عن صوتين مختلفين، يعملان معا، خلال قصيدة تدعم كلا الصوتين، ليكون معنى القناع محصّلة لتفاعل كلا الصوتين. (ينظر: جابر عصفور، أقنعة الشعر المعاصر مهيار الدمشقي، مجلة فصول، المجلد الأول، (العدد 4)، يوليو- 1981، ص:124).

[13] – ينظر: عبد الرحمن بدوي، شخصيات قلقة في الإسلام (مرجع مذكور)، ص: هـ.

[14] – “الرّوح جوهر مفارق للمواد، لا يوصف بالاتّصال ولا بالانفصال، ولا بالسكون ولا بالحركة، وليس بداخل العالم ولا بخارجه، بريء بالجملة عن لواحق الجسوم، نور إلهي لا واسطة بينه وبين العالم الإلهي (رفيق العجم، موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلامي، مكتبة لبنان ناشرون، (ط 1)، 1999، ص:417).

[15] – ممّا ذكر في هذا الصدد أنّ الحلاج –بما أوتي من كرامات- كان يستطيع التخلص من السّجن، إلاّ أنّه آثر البقاء فيه لنشر تعاليمه والدعوة إلى مذهبه.. ومن الأخبار التي وردت في ذلك ما رواه أحمد بن فاتك: “لمّا حبس الحلاج ببغداد كنت معه، فأوّل ليلة جاء السجان وقت العتمة فقيّده ووضع في عنقه سلسلة وأدخله بيتا ضيقا. قال له الحسين: لم فعلت بي هذا؟ قال: كذا أُمرت. فقال الحلاج: الآن أمنت منّي؟ قال: نعم. فتحرّك الحلاّج فتناثر الحديد عنه كالعجين؛ وأشار بيده إلى الحائط فانفتح فيه باب، فرأى السجان فضاء واسعا فعجب من ذلك. ثمّ مدّ الشيخ يده وقال: الآن افعل ما أمرت به. فأعاده كما فعل أوّل مرّة”. (أخبار الحلاج، ص:87-88).

[16] – “الصاد والميم والتاء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على إبهام وإغلاق. من ذلك صَمَتَ الرّجُل، إذا سَكَتَ…” (أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام هارون، (ج 3)، دار الفكر- بيروت، د- ت، ص:308).

[17] – سورة التوبة، الآية:40.

[18] – أبو بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، الجزء العاشر، (ط1)، 2006، ص:213). القَائِفٌ: من يُحسِنُ معرفةَ الأثر وتتبُّعَه.

[19] – نفسه، ص:214.

[20] – يوسف زيدان، الحلاج ومحاولة تفجير اللغة، مجلة الهلال، القاهرة، مارس- 1992، ص:47.

[21] – في قوله تعالى:« فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» سورة النساء/ الآية: 155.

[22] – “قال السُّدِّي: كان ملك بني إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الأمر، فاستشاره الملك أن يتزوّج بنت امرأة له، فنهاه عنها وقال: إنّها لا تحلّ لك، فحقدت أمّها على يحيى عليه السلام، ثمّ ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا، وطيّبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرّض له، وإن أرادها أبت حتّى يعطيها ما تسأله، فإذا أجاب سألتْ أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب، ففعلت ذلك، حتى أتي برأس زكريا…” أبو بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، الجزء الثالث عشر، (ط1)، 2006، ص:25.

[23] – إنّ المخلّص –كما يرى محمد أركون- “ليس إحدى شخصيات تاريخ النجاة الخاص بالتوراة والأناجيل، وإنّما هو أيضا –ولعلّه أكثر- قوّةٌ مشكِّلة أو مؤسِّسَة لكلّ وعي ديني، أو قومي، أو عرقي- ثقافي. وهي قوّةٌ ميالة لاستملاك قيم العدالة، والأمن، والمعرفة، والخلاص (أو تاريخ النجاة في الدّار الآخرة). إنّ النزعة الخلاصية قوّة مؤهّلة لتحويل كلّ تاريخ العالم عن طريق الأمل الجارف الذي لا يقمع. وهو أملٌ ينطوي على احتجاج جذري ضدّ النظام القائم الجائر، وذلك باسم نظام آخر عادل سوف يجيء المخلّص لكي يقيمه على هذه الأرض (في الإسلام يتخذ هذا المخلّص إسم المهدي أو الإمام)”. (محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة- بيروت، ط 2، 2005، ص:87).

[24]– هذه المماثلة تنبّه إليها محمد مفتاح، في سياق تحليله لنص من نصوص الترجمة- المنقبة في الفصل الأخير من كتابه مجهول البيان، (وإن كان قد نظر إليها من زاوية الأعمال الخارقة التي تصدر عن الصوفي).. يقول: «الصوفي هو إنسان ونبي أو نصف إله في وقت واحد. فللصوفي بعض صفات النبي ويقوم ببعض وظائفه… إنّه يتماثل ويتفارق، إنّ له هويتين: هوية الإنسانية العادية، وهوية اللاّ عادية في آن واحد » (محمد مفتاح، مجهول البيان، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، (ط 1)، 1990، ص:120).  

[25] – طبقات الصوفية، محمد بن الحسين السلّمي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، (ط 1)، 1998، ص:182.

[26] – إنجيل متّى/ الإصحاح السابع والعشرون/ 27-28-29-30-31. (الموقع الرسمي لكنيسة الأنبا تكلا هيمانوت القبطية الأرثوذكسية اﻹسكندرية، مصر.  http://st-takla.org/).

[27] – نقرأ في مقالة بعنوان: “إكليل الشوك” (منشورة بموقع إرسالية مار نارساي الكادانية الكاثوليكية) ما يلي: «لقد اعتاد الفنّانون أن يرسموا إكليل الشوك حلقة دائرية فوق رأس المخلّص، أمّا صورة (الربّ) المطبوعة على كفنه المقدّس فتقطع بغير هذا، لأنّ منظر الدّماء المنسابة من الرأس يدُلّ على أنّ طاقية كاملة من الشوك قد غطّت رأس المخلّص وأحدثت آلاما نارية في كلّ جزء فيه، ولا ننسى أنّ عادة ملوك الشرق قديما أن يلبسوا تيجانا مرصّعة بالجواهر تملأ كلّ الرأس. لقد اختار (الربّ) لتاجه جواهر لا مثيل لها…»

http://www.marnarsay.com .

* – ولعلّ ممّا يعضد هذا التأويل أنّ نبات الصُّبار نبات مُرُّ المذاق.

[28] – موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلامي، ص:526.

[29] – نفسه، ص:529.

[30] – ذُكر في سير أعلام النبلاء أنّ جماعة من الوراقين أُحضِروا بعد قتل الحلاج، فأُحْلِفُوا أن لا يبيعوا من كتب الحلاج شيئا ولا يشتروها. (محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق: حسان عبد المنان، طبعة بيت الأفكار الدولية، ج 1/ ص:1546).

[31] – “… يقال أمرغ عرضه ومرّغه، كأنّه لطّخه وأسال عليه قيحا” (أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص:312).

[32] – هذا الديوان كما يبدو من خلال عناوين قصائده: «إلى جمال عبد الناصر»؛ «لكنّ الأرض تدور»؛ «سفر الفقر والثورة»… هو ثمرة معاناة الشاعر من الاغتراب والظلم والإحساس العميق بمرارة المنفى، وما ولّده ذلك الإحساس من مشاعر الغضب والتوتّر؛ حيث أسقطت عنه الجنسية العراقية، وسحب منه جواز السفر.. فراح يضرب في الآفاق غريبا منفيا، ليدفع ثمن الحرية الشخصية باهظا. 

[33] – مصطلحات التصوّف الإسلامي، ص:462.

[34] – نفسه، ص:498.

[35] – نفسه، الصفحة نفسها.

[36] – ابن خلدون، المقدّمة، مكتبة دار المدينة المنوّرة للنشر والتوزيع- الدّار التونسية للنشر، 1984، ص:596.

[37] – عن أبي بكر الشّبلي قال: قصدت الحلاج وقد قطعت يداه ورجلاه وصلب على الجذع (…) فلمّا كان من الغد أنزل من الجذع، وقدّم لتضرب عنقه. فقال بأعلى صوته: حسب الواحد إفراد الواجد له، ثم قال: «يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنّها الحقّ» الآية. وقيل: هذا آخر شيء سُمع منه. ثمّ ضربت عنقه ولُفّ في بارية، وصُبّ عليه النفط وأحرق، وحُمل رماده على رأس منارة لتنسفه الريح. (أخبار الحلاج، ص:75).   

[38] – ديوان الحلاج، إعداد: محمد باسل عيون السّود، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان، ط 1، 2007، ص:131.

[39] – نفسه، ص:160.

[40] – عن ابن حدّاد المصري قال: «خرجت في ليلة مقمرة إلى قبر أحمد بن حنبل، رحمه الله، فرأيت هناك من بعيد رجلا قائما مستقبلا القبلة. فدنوت منه من غير أن يعلم، فإذا هو الحسين بن منصور وهو يبكي ويقول: يا من أسكرني بحبّه وحيّرني في ميادين قربه، أنت المفرد بالقدم، والمتوحّد بالقيام على مقعد الصدق (…) أسألك بحرمة هذه التُّرَب المقبولة والمراتب المسؤولة، أن لا تردّني إليّ بعدما اختطفتني منّي، ولا تريني نفسي بعدما حجبتها عنّي…إلخ ». (أخبار الحلاج، ص:67).

[41] – قال تعالى: «إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»112/ سورة المائدة.

[42] – العشاء الأخير طبقًا للعهد الجديد (الإنجيل)، هو عشاء عيد الفصح اليهودي التقليدي، وكان آخر ما احتفل به يسوع مع تلاميذه.

[43] – «بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما» (158/ سورة النساء)؛ «إنّي متوفيك ورافعك إلي» (55/ سورة آل عمران). قال القرطبي في تفسير الآية الأخيرة: “…والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد ، وهو اختيار الطبري. وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك (…) وذكر أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أراد الله تبارك وتعالى أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه -وهم اثنا عشر رجلا- من عينٍ في البيت ورأسه يقطر ماءً، فقال لهم: أما إنّ منكم من سيكفر بي اثنتي عشرةَ مرّة بعد أن آمن بي، ثم قال: أيكم يلقى عليه شبَهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم فقال أنا، فقال عيسى: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال:أنا. فقال عيسى : اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال نعم أنت ذاك. فألقى الله عليه شبَه عيسى عليه السلام. قال: ورفع الله تعالى عيسى من رَوْزَنَةٍ كانت في البيت إلى السماء. (أبو بكر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، القاهرة، الجزء الخامس، (ط1)، 2006، ص:153- 154. والروزنة: الكوّة، أو النافذة الصغيرة.

_________
*هذه المقالة سبق نشرها في العدد السابع من مجلة آفاق أدبية- 1436ه/2015م

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *