*رلى راشد
بوب ديلان إلى عرش آداب العالم. قد يُصاب المرء بذهول صاعق يوازي ذاك الذي شاب ملامح الصحافيين الحاضرين في القاعة المهيبة والمنتظرين بشوق أن يُتلى عليهم اسم الفائز بـ #نوبل_الآداب 2016، بعدما ضاعوا خلال الأسابيع القليلة المنصرمة في غياهب الهويّات المتعددة الوجهة والتجربة والمُهيئة لقنص هذا التكريم.
قد يظنّ الناقد الأدبي نفسه مُقصراً في حال لم يكن من المتابعين المُتأنين لمنجز كاتب الأغنية والمؤلّف والمغني بوب ديلان، في أعقاب حركة الإطاحة بجميع المُشتغلين في حقل الآداب على النحو الإصطلاحي وعلى امتداد الكرة الأرضية. لكنه لن يلبث أن يطرح الإستفهام الملائم، هل في القرار المباغت أي منطق؟ ليلحقه بآخر، هل ينبغي أن تسقط مشروعيّة الرواية والقصيدة والمسرحية والقصة القصيرة مثلما دأبنا على متابعتها وتقديرها ونقدها على مدى العقود بل القرون، بحجة أن “الأكاديمية الأسوجية” خطَت خطوة في المجهول؟
في المقام الأول وفي المقام الأخير، هل يَستحق بوب ديلان “نوبل” الآداب؟ ها هنا السؤال المحوري الذي لم يلبث أن طُرح على أمينة سرّ “الأكاديمية الأسوجية” الدائمة، سارة دانيوس، في أعقاب إنتقاء الأميركي فائزا مستحقاً لتُبرر وعلى نحو شبه أعرج وبأسلوب دفاعي لافت ما أقدم عليه الأمناء على آداب العالم.
أبرز موقفها وعلى نحو لا يرقى للشكّ – وإن غير مفصح عنه مباشرة – إحتدام النقاش بين أعضاء اللجنة حول هوية المُصطفى، بعدما كانت تردّدت في الكواليس ان الإجماع ظلّ عسيراً حول الفائز وان ذلك إستدعى تداولاً مستفيضاّ دفع على المستوى العملي إلى تأجيل الإعلان عن الظافر بـ “نوبل الآداب” إلى الأسبوع الثاني من تشرين الأول وليس الأسبوع الأول، على جري العادة.
حين يدخل بوب ديلان مملكة الفائزين بـ “نوبل” الآداب فإنما يجري تجاوز التراتبية المنطقيّة في توزيع الأدوار وفي المقابل تضرب بعرض الحائط جميع التجارب التي استثمرت في فلك الكلمات فحسب.
ليس ديلان كاتب الأغنية الأول الذي ترتقي مضامين أغنياته لتصير نصوصاً أدبيّة مستحقة بحركة من جائزة تتخصص بالأدب، سبقه إلى هذا المكان الكندي ليونارد كوهين حين رصدت إليه “جائزة أمير أستورياس” 2011، ليس في خانة الفنون كما كان مرتقباً، وإنما في خانة الآداب. أما المفارقة فأن تكون لجنة تحكيم “جائزة أمير أستورياس” لم تتجاسر في 2007 على منح ديلان الإمتياز عينه في الخانة عينها وإنما استبقت تجربته، في خانة الفنون، فقط.
اليوم تجنح “الأكاديمية الأسوجية” نحو قرار راديكالي لا بدّ أن مفاعيله ستتردّد طويلاً. تُبشّر إحدى أغنيات ديلان بأن الأزمنة إلى تغيّر، لكن هل يسعها أن تتبدّل إلى هذا الحدّ؟
ديلان هو “الظافر الخارج على المعايير” في الحدّ الأقل من الإعتراض، وهو الفائز غير الملائم في الحدّ الأعلى من الإستهجان. غير انه وفي الحالتين الهوية التي ستطأ عتبة هيكل أدباء العالم، في أعقاب بنتر ومولر وباموق، لنسميّ البعض وليس الجميع.
قد يسعنا مقاربة هذا الفوز من منظور مختلف ليصير ديلان الظافر التقليدي. والحال انه إذا تمهّلنا عند تفصيل انه رجل في السباق إلى امتياز يتذكر تسعة رجال ضمن كل عشرة فائزين، وانه يكتب بالإنكليزية وهي اللغة الأكثر تكريماً تحت سقف “نوبل” وان عمره خمسة وسبعين عاما بينما تتراوح أعمار السواد الأعظم من الظافرين بـ “نوبل” بين واحد وسبعين عاما وثمانين عاماً. أضف إلى ذلك ان ديلان يتحدّر من الولايات المتحدة الأميركية وهي ثانية البلدان التي رصدت إليها “نوبل” الآداب على مرّ تاريخها الحافل ببعض الإخفاقات وبكثير من القرارات الصائبة، بات ديلان تواً الفائز المنتظر. إلتزمت “الأكاديمية الأسوجية” إذاً شتى المعايير التي تدور في جوار المسألة الأدبية، وإنما ظلّت في التخوم.
بفوزه المباغت هذا صار ديلان صنو سينكلير لويس ويوجين أونيل وبيرل باك وتي أس إيليوت وويليام فولكنر وإرنست همنغواي وجون شتاينبيك وتوني موريسون وهؤلاء مواطنوه الذين حصلوا على التكريم عينه. ووفق مقاربة أمينة سرّ الأكاديمية الأسوجيّة الدائمة، سارة دانيوس، فها إنه يرتقي إلى مستوى قامتين إغريقيتين هما هوميروس وسافو، فهل الكلام مُتسرّع أو محسوب بدقة؟ وهل في رصيد ديلان ما يوازي رائعتي هوميروس “الإلياذة” و”الأوديسة”؟ هل يمكن مقارنة فحوى العملين بكلمات أغنية ديلان “أبواب الجنة” حيث نقرأ أو ربما نسمع: “في زمن الحرب والسلام يجري وببساطة تشويه الحقيقة (…) يتراءى ذراعا المصباح الكهربائي مكتوفي اليدين أما ملاقطه المعدنية فمربوطة بأرصفة تحت الحفر حيث يبكي الأطفال (..) في النهاية لا يمكن سوى أن يسقط كل شيء، في صخب مدوٍ يفتقر إلى المعنى”.
لا لبس في أن ديلان رمز لجيل في المعنى الموسيقي ولا شكّ في ان أغنياته نقّبت في الوجع الإجتماعي فاستحالت نسقاً من القطع الثورية دفعت به ليغدو الهوية الأكثر تأثيراً في موسيقى البوب والفولك والروك منذ ألبومه الأول الذي مدّه بإسمه المستعار “بوب ديلان”، في 1962.
منذ خمسة عقود، ديلان أو روبرت ألن زيميرمان وهو إسمه الحقيقي قبل أن يبدّله بقرار قضائي ولمصلحة إسمه الفني، هو أيقونة الموسيقى الشعبية التي جعلها فناً كاملاً. في مسيرته أكثر من سبعمئة أغنية يحفظها جمهور شغوف فضلاً عن كتابين لا يرتقيان إلى مسمّى الأدب الصافي. أحدهما سيرة ذاتية بعنوان “تدوينات” صدر في 2004 وحيث يستعيد حياته المبكرة في نيويورك، ناهيك بكتاب ثان بعنوان “تارانتولا” هو بمثابة مجموعة شعرية نثرية تجريبيّة كتبها في الثالثة والعشرين وتقدم مزيجاً من السوريالية واللامعنى والفولكلور الأميركي.
أغلب الظن أن تكريم ديلان الآن من خلال منحه “نوبل” الآداب 2016 يفهم كتحية للنموذج الذي يمثّله في الثقافة المضادة في زمن مفتون بالتُمرّدين، بيد أن معناه الأعمق هو فوز الموسيقيّ على الكاتب، وهذه مسألة قد لا يمكن احتمال نتائجها بسهولة.
___
*النهار