ثقافات تعيد نشر رساله كتبها الراحل ناهض حتر لصديقه مهدي السعافين ذات يوم .
عزيزي مهدي،
لا أجد مَن أخصّه بهذه الكلمات سواك،وأترك لك حق التصرّف في نشرها من دونه. أنا فخورٌ بك لأنك كسرت الحاجز النفسي وآمنت بوحدة شعبنا ووحدة حركته الوطنية، ومارست هذا الايمان بلا قيود. وانا فخور بك لأنك امتلكت الشجاعة للانخراط في برنامج الحركة الوطنية الاجتماعية، فكرا ونضالا. وإذا كان انحيازك لشخصي يسعدني، فلأنني أحبك فقط. فأنت تعلم أنني بلا مطمح لشعبية أو منصب أو ثروة. وكلها أتيحت لي بأكثر مما أتيحت لأي معارض أردني. لكنني أخشى الوغى وأعفّ…ومغنمي الوحيد هو الحفاظ على موقعي في الحركة الشعبية الأردنية، لا كزعيم ولا كقائد ولا كمرشّح لدور، وإنما كمثقف نقدي مستقل منتج للأفكار والرؤى، اللازمة لتحقيق الثورة الأردنية، سواء أحصلتُ من ورائها على الشعبية أم لا. والثورة، عندي، ليست برتقالية اللون، لا تتمحور على البرلمانية والحكومة البرلمانية والحرية المفرغة من مضمونها الوطني والاجتماعي، بل هي شيء آخر توضحه كتاباتي باستفاضة، ولا يمكن اختصاره بكلمتين.
ومن دون تواضع زائف، أحسب أن الأفكار والرؤى التي طرحتها في نشاطي الفكري والعملي،إنما طرحتها من موقع يساري مجدّد، يأخذ بالاعتبار الشروط اللازمة لإنتاج برنامج تاريخي مطابق لاحتياجات البنية الأردنية، ووفق المنهج اللينيني الذي يدلنا على ضرورة البحث الملموس في الظواهر الملموسة. وقد حقق هذا البحث هيمنته على الحياة الفكرية والسياسية الأردنية. والهيمنة لا تعني القبول بالضرورة، بل تعني صيرورة الأفكار المهيمنة، محلا للنقاش. فالناس معها أو ضدها!
ولستُ كالمتنبي أقول:
أنام ملء عيوني عن شواردها ويسهر القوم جرّاها ويختصمُ
بل أقول إنني لا أحب في هذا العالم سوى الحب، لا تهمني المناصب ولا المكاسب، بل محبة الناس. ومع ذلك، فلا أشتري الحبَّ بالخديعة، بل أطلبه لذاته وفي ذاته، على الخلاف وفي الخلاف، متحزبا ـ لا متحيزا ـ لبرنامجي، قادرا في كل لحظة على تعديله لا كسبا لشعبية ولا تقربا من سلطة، وإنما صلاة في معبد الحقيقة.
يقول السيد المسيح :” الحقيقة تظهر لمن يحبها”. وانا أحبّ الحقيقة وأطاردها. وهذا هو السبب فيما أتعرّض له من سوء فهم والتباس وعداء من جهات عديدة متضادة! مشكلتي مع الآخرين هي أنني أرى ما سيرونه بعد ربع ساعة!
سأدخل في الموضوع مباشرة: في السياسة أوضحتُ تكرارا وجهة نظري حول وحدة الشعب الأردني ووحدة حركته الوطنية. وأخيرا أوضحتها بجلاء في نص منشور تحت عنوان ” شعب واحد، حركة وطنية واحدة”. أرجو العودة إليه وقراءته بمحبة … قبل الوعي. لكنني الآن أريد الإجابة ليس على من لا يقرأون ولا يدركون، بل على ما يدور في أذهان من يقرأون ويدركون لكنهم متمسكين بتلك الفرية المضحكة من أنني “أكره الفلسطيني.”
أعترف، أولا، بأن نمط كتاباتي الحادّ الذي لا يراعي العواطف والحساسيات، مسؤول، إلى هذا الحد أو ذاك، عن انتشار تلك الفرية. لكنها تظل فرية. كيف لمثقف أممي أن يكره شعبا ؟ بل كيف لمثقف عروبي أن يكره شعبا عربيا، وخصوصا ذلك الشعب التوأم، الشعب الفلسطيني؟ هذه بلاهة. بالطبع، أنا أكره الكثير من الفلسطينيين ـ كما الأردنيين والسوريين واللبنانيين الخ ـ لأسباب سياسية. لكن أن أكره فلسطينيا ـ أو يهوديا ـ لأنه كذلك! فهذا يثير سخريتي.
كشيوعي أنا أحب الكادحين بلا تمييز. كأممي أحب الشعوب بلا تمييز . كعروبي أحب العرب بلا تمييز. كاردني أحب الأردنيين بلا تمييز على الأصل أو الجهة أو الدين. بل بلغت هستيريا العداء لشخصي أنني أوصَم بالطائفية؟
انظر، يا عزيزي مهدي، إلى التهم الموجهة إليّ ..إنها تأكل بعضها بعضا: فأنا عنصري ضد الفلسطينيين وقومي سوري ـ وفلسطين كما تعلم سورية ايضا ـ وعراقي الهوى وعميل للمخابرات الأردنية … والسورية ! وطائفي وهواي سني في العراق وشيعي في لبنان وأنا “جعجع” لكنني متهم بعضوية التيار العوني (المعادي لجعجع حتى الموت) وانا كنت بوقا لمحمد الذهبي وعميلا لحزب الله وإيران ومعاديا للفلسطينيين من جهة و” توطيني” من جهة اخرى ومسؤولا عن التحريض ومخربا للحراك الشعبي …وستين ألف شغلة أخرى ! حتى تكسرت النصال على النصال.ولم أعد آبه من زمان لكل ذلك .
أنا، ببساطة، ناهض حتر … مثقف مستقل وشوري من راسي ولا أفكر وأكتب في السياسة من موقع الحب أوالبغض، بل من موقع التحليل الصارم.
طيّب .. سأخوض فيما لا أريد أن أخوض به، ليس جلبا لأصوات انتخابية ولا لزعامة حزبية، ولا دفاعا عن النفس، ولكن من أجل محاولة إزالة الغشاوة عن عيون قد ترى الجوهري:
في صباي كانوا يأخذوننا في رحلات طالبية إلى أريحا. في 25 أيار ال67 قطعنا الجسر وزرنا فصر هشام وفي متنزه جميل جدا كالحلم كنت أغازل زهرة وانكش حولها التراب بينما فيروز تغني والشمس ساطعة ” يا بياع الخواتم …في الموسم اللي جايي جبلي معك شي خاتم” لكن في الموسم اللي جاي كانت اريحا تحت الاحتلال. ومذ ذاك وأنا أودّ أن أعانق تلك الأرض وأسمع فيروز تحت شمسها. لن أفعل ذلك بختم جواز سفري بختم الإحتلال، لكن أملي بحرية الأرض نابض في قلبي ما يزال. فلسطين بالنسبة لي مركز قضيتي التي هي الصراع ضد الصهيونية، لكنها عندي مجسدة في أريحا .. رائحة الليمون والفل والشمس وفيروز.
أنا شخص أردني عادي أختاي متزوجتان من أردنيين ـ فلسطينيين. ولي أقارب وأصدقاء وأحباء من الأردنيين ـ الفلسطينيين. وقد تيسّر لي أن أكون، في معظم حياتي العملية، في مواقع قيادية. ويعلم كل مَن عمل معي أنني لم أميز يوما في تعيين أو ترقية أو مساعدة الخ على أساس الأصل أو الدين، بل فقط على أساس الكفاءة.
أنا شخص أردني عادي تماما … لم أسيء في حياتي لأي كان ، فلسطينيا أو غير فلسطيني. لم أقل كلمة بذيئة بحق أي كان! لم أقطع رزقا ! ولا اعتديت على شخص ولا حق ! ولم أحرّض إلا على التمرد الاجتماعي والسياسي.. لم أخدم في حياتي سوى قضايا الكادحين العمال المعلمين المتقاعدين أبناء المخيمات! ففي الجامعة، كنا نذهب لتنظيف شوارع مخيم البقعة بأيدينا تشرّفا بأقدام الكادحين ـ ومخيم البقعة عندي هو أفضل المخيمات وطنية ووعيا وناسا ـ وسبق لي أن اعتُقلت لأسباب فلسطينية صرف مرتين.
لم احب محمود درويش، لكنني أحببت توفيق زيّاد ! وحسبها علي ” مثقفون” عنصرية. لكن هذا هو مزاجي في الشعر. ولطالما هتفت من القلب لأبناء فلسطين الكادحين الأحرار ـ وليس للبرجوازيين ـ
أناديكم
أشدّ على أياديكم
وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم
كنت مديرا مرارا لكن أصدقائي كانوا من فئة السواقين والمراسلين والفراشين وصغار الموظفين… لم اذبح دجاجة يوما وسامحت مَن ذبحوني. سامحت حتى ضباط المخابرات الذين عذبوني لأن قضيتي مع السلطة لا مع الأفراد ..سامحت حتى الذين اعتدوا علي العام 98 حتى شفا الموت لانهم كانوا أداوات
أنا شخص أردني عادي تماما .. أراهن إذا كانت في حياتي كلها إساءة واحدة لإنسان كائنا من كان.
العداء، إذا، لأفكاري. وأنا أعتقد بأن أفكاري من خندق وطني اجتماعي، مشغولة بدقة وشمولية ومسؤولية. وأقبل نقد الأفكار. واناقش النقد الآتي من الحلفاء بصرامة ولكن بمحبة. وأختم :
أنا الوحيد الذي نظّر جديا لوحدة الشعب الأردني من كل الأصول. فهل يمكن لكاره وعنصري وإقليمي أن يمنح كل هذا الوقت وكل هذا الجهد لإدماج مَن يكرههم ؟ خذوها بالعقل!
أما أنني أحبّ الأردن، طبيعة وإرثا وتراثا وتاريخا وشعبا موحدا ووطنا … فهذا هواي ومحل أبحاثي ومحور حياتي. اسمحوا لي أن أحب وطني … وطنكم.