ماجد أبو شرار .. نموذج فلسطيني للمثقف الغرامشي

خاص- ثقافات

*جهاد الرنتيسي

ثمة ما يحيل إلى الغرامشية لدى استعراض تجربة المثقف الفلسطيني ماجد أبو شرار دون أن يتعلق الامر بتقارب سنوات عمره مع عمر الفيلسوف الإيطالي انطونيو غرامشي لدى رحيلهما وتأثيرات الفكر الشيوعي عليهما أو عجز روما عن امتصاص صدى موتهما المدوي الذي يتجدد بين حين وآخر في بحث الحائرين عن خيارات مختلفة للخروج من المنزلقات الفلسطينية المتلاحقة وتفكير الأحزاب الشيوعية بتجديد شبابها وإزالة التكلس الذي يعيق آليات تفكيرها.

الإحالة تعيد إلى مواصفات “المثقف العضوي” الذي تحدث عنه غرامشي في “دفاتر السجن” التي كتبها على مدى عشر سنوات قضاها في سجون الفاشية خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي وتضمنت حصيلة تفكيره حول النظرية الماركسية وعوامل تغيير الواقع والأدب والنقد وتربية الأجيال.

الفكرة التي كانت دارجة عن أبي شرار أنه كان شيوعيا قبل انخراطه في حركة فتح وبناء على خلفيته الشيوعية شكل مع ماركسيين وماويين في الحركة تيارا يساريا ترك بصمته على حياتها الداخلية وكيفية صناعتها لقرارها وعلاقاتها مع المنظومة الاشتراكية والقوى التقدمية في المنطقة.

الذين  عرفوا ماجد عن قرب وساجلوه في أفكاره وقناعاته يقللون من وجاهة هذه الفكرة رغم علاقته وشريكه الأقرب في قيادة يسار الحركة نمر صالح بالاتحاد السوفيتي والعواصم الدائرة في فلكه وارتباطاتهما باليسار الفلسطيني والقوى والأحزاب اليسارية في المنطقة والعالم.

الكاتب والسياسي عبدالعزيز السيد الذي تمتد علاقته بماجد إلى بدايات ستينيات القرن الماضي ينفي جازما انتماءه للحزب الشيوعي إلا أنه يشير في شهاده له تضمنها كتاب أصدره بعنوان “ماجد أبو شرار .. مسيرة لم تنته بعد” لصداقات أبي شرار الحميمة مع أساتذته وزملائه الشيوعيين وحرصه على الاحتفاظ بهذه الصداقات وحرصهم عليها.

شهادة عبدالعزيز السيد تلتقي مع ما كتبه الروائي والناقد غالب هلسا عن مجموعة ماجد أبو شرار القصصية “الخبز المر” الصادرة في مطلع الثمانينات حيث يشير لنفاذ القصص إلى التكوين النفسي العميق للفلسطينيين الذي يرتد على الذات فيدمرها أو يتحول إلى فعل يجعل من الفلسطيني فدائيا.

يجد هلسا في ذلك ما يصفه بالافتراق عن المفهوم المشوه والشديد السذاجة للواقعية الاشتراكية الذي كان سائدا في تلك المرحلة ليرجح آراء نقدية تؤشر إلى وجود نزعات وجودية في قصص المجموعة.

غالب هلسا

تضاف إلى شهادة السيد ورؤية هلسا شهادات شفهية لقادة ونشطاء اليسار الفتحاوي الذين يعيدون نسب ماجد أبو شرار ونمر صالح للحركة الشيوعية إلى رغبة يمين الحركة في الحد من نفوذ خصومه اليساريين بتعويمهم ومساواتهم مع رفاقهم الحزبيين السابقين الذين خلعوا انتماءهم الحزبي قبل الانضمام للحركة وتنفير قطاعات فتحوية محافظة من الطرح المناوئ لطروحات اليمين.

يشير الكاتب البريطاني ستيفن جونز في كتابه عن غرامشي إلى كتابة الأخير الكثير من المقالات التي تحث على تثقيف العمال بهدف تطوير المجتمع الايطالي وبث الوعي لدى الطبقة العاملة.

إشارة جونز تقود إلى كتاب سيرة نزيه أبو نضال “من أوراق ثورة مغدورة” الذي يتضمن العديد من الإشارات إلى اهتمام ماجد أبو شرار بإقامة معسكرات لتدريب الكوادر وتثقيفها في الأردن قبل العام 1970 مما يعني اهتمامه برفع سوية وعي الكادر الفتحاوي.

يكشف هذا الاهتمام عن ميل إلى “تثقيف السياسي” لازم حذر الوقوع في “تسييس الثقافي” مما وفر لأبي شرار افقا لتجربة إعلامية مختلفة بمقاييس زمن بعض سماته الاستقطابات والرؤى الأحادية والتمترس وراء المواقف.

غسان كنفاني

تلتقي بعض ملامح تجربة أبو شرار الإعلامية مع بعض ما أنجزه غسان كنفاني حين اختار عبارة “كل الحقيقة للجماهير” شعارا لمجلة الهدف ووضعه إلى جانب “اللوغو” في أعلى الغلاف رغم الطبيعة الحزبية للمجلة ففي مذكراته يشير نزيه ابو نضال إلى معارك خاضها ماجد مع ياسرعرفات في وقت مبكر من أجل إيصال حقيقة ما يجري في خطوط المواجهة وعدم استسهال الفبركات والمبالغات في اظهار البطولات وادعاءات  تحقيق انتصارات لم تتحقق حتى لو كان الهدف منها رفع المعنويات وإثارة الحماسة.

لكي تصل الحقيقة كاملة إلى الناس عمد أبوشرار إلى مبادرة غير مسبوقة حين فتح أبواب الصحيفة المركزية لحركته “فتح” امام كافة كتاب ومنظري القوى السياسية الفلسطينية التي تختلف في وجهة نظرها مع الحركة حيث يشير الشاعر أحمد دحبور إلى ان ماجد “كسر” بذلك العصبية التنظيمية وحول الصحيفة إلى ناطق رسمي باسم عموم المقاومة دون أن تفقد اسمها.

كانت لأبي شرار رؤية  مختلفة للاداء الإعلامي تقوم على فهم الوعي الشعبي وإيجاد آليات النهوض به بدلا من البناء على الأوهام وادعاء البطولات ففي إحدى لقاءاته يعيد الشاعر “أبوعرب” الذي تحول فيما بعد إلى نجم غناء ـ يتداول أشرطته الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم ـ فكرة عمله في إذاعة الثورة الفلسطينية  إلى ماجد، الأمر الذي فتح أفقا لإغناء الإحساس بهوية كانت الحركة الوطنية تسعى في ذلك الوقت لبلورتها، وأتاح لأجيال فلسطينية الاقتراب من تراث لا يعرفه بعضها بالاستماع إلى لون مختلف من الشعر والغناء.

خلال مراسلات مع المثقف العراقي فخري كريم ناشر “المدى” وصاحب التجربة الشيوعية العتيدة تطرقنا إلى كتابات ماجد أبو شرار وفوجئت بانبهار الأول وهو يعود إلى علاقته بالأخير قائلا إنه لا ينسى الدور الذي كان يقوم به في دعم الشيوعيين العراقيين خلال وجودهم في بيروت .

انبهار كريم بذكر أبو شرار لم يكن الأول فقد صادفت ما يماثلة خلال لقاءات مع كتاب و روائيين عرب لكنه لفت نظري إلى تفاصيل سمعتها من مجايلي ماجد حول علاقته بالكتاب والمثقفين الذين كانوا يفرون من بلدانهم إلى بيروت بحثا عن النجاة من أنظمتهم أو مساحات أوسع للتفكير وارتباطات ابو شرار بمثقفي اليسار الفلسطيني وكان لافتا للنظر أن معظم هذه العلاقات كانت تأخذ منحى الرعاية والدعم الذي يأخذ في بعض جوانبه منحى التماهي في توحيد المواقف وتصليبها لمواجهة “الهيمنة الثقافية” التي وردت في دفاتر غرامشي.

انتشرت في إحدى مراحل العمل الفلسطيني ظاهرة القيادة التي تعاملت مع المقاتلين بمنطق المقاول والعمال ووصل الأمر إلى الإتيان بعمالة آسيوية للقيام ببعض الأعمال واحتاجت هذه الظاهرة إلى سنوات لتخرج من دائرة المسكوت عنه وتجد صداها في كتابات خجولة وهناك .

 من خلال شهادات الذين عملوا مع ابو شرار يبدو واضحا انه كان حساسا تجاه هذه الظاهرة حيث يشير أحمد دحبور إلى قول ماجد خلال حوار ثنائي ” اسمع يا احمد يوميات مقاتل هذه التي تكتبها عن المقاتلين سننشرها دون توقيعك، لا تجحظ ، أعرف أنك تكتبها بدم الشاعر وانفجاراته، لكنها ليست لك؛ إنها للمقاتلين الذين كتبتها عنهم ، لماذا يقاتل الفدائي دون أن يشهر اسمه ، ثم نطالب باسمائنا في كل مناسبة” وفي تخريج دورة عسكرية لطلبة فلسطينيين قدموا إلى لبنان من باكستان كان يسمو وهو يتحدث عن المقاتل الذي “يحمل بندقيته في يده، وظهره إلى الحائط، ولا يرى من العالم إلا قضيته” معبرا بذلك عن ذهنية المثقف الذي تحولت الثورة بالنسبة إليه مشروع حياة ولم تكن يوما سبيلا للثراء.

اميل حبيبي

تكتمل الملامح بانغماس ماجد في الاتحادات الشعبية حيث كان يجد الوقت الكافي لمتابعة قطاعات الطلاب والمرأة التي كانت من أكثر القطاعات حيوية في العمل الوطني الفلسطيني.

وتتجلى تجربة المثقف العضوي وقدرته على النفاذ والالتحام في علاقة أبو شرار بفلسطيني الخط الاخضر حيث يشير محمد بركة رئيس لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في مناطق “48” خلال إشهار كتاب “مسيرة لم تنته” إلى أن وقع مقولة ماجد “أنتم اشرف من في هذه الأرض من المحيط إلى الخليج” على فلسطينيي الداخل بعد أحداث يوم الأرض كان أشبه بما يقع على مسامع الابن الذي ضاع بين خرائب البيوت والنكبة فيما يرى الروائي ايميل حبيبي في اغتياله بعض محاولات اغتيال المستقبل ويربطه باغتيال غسان كنفاني ليظهر حجم الخسارة .

يصعب قراءة النسخة الفلسطينية من المثقف الغرامشي التي مثلها ماجد أبوشرار خارج سياقها الزمني وبعيدا عن التجربة التي كانت تستقطب هذا النمط من المثقفين فمن غير الممكن أن يأتي ذكر ماجد دون الحديث عن ناجي علوش أو حنا ميخائيل  وغيرهما من الذين كرسوا حالة تطهر وانسجام بين الفكرة والممارسة وصاروا حراسا لضمائر أجيال من النخب الفلسطينية ما زالت تستعصي على الغزو الثقافي والإفساد المالي والسياسي.
_________________

جهاد الرنتيسي

*كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *