روايات غسان كنفاني التي لم تكتمل


*مصطفى الولي

رحل الكاتب الروائي الفلسطيني غسان كنفاني، وترك للقراء إرثا كبيرا، قياسا برحيله المبكر (توفي سنة 1972، عن سن تناهز 36 عاما). موزعا على ثلاثة مجلدات، الأول منها كان للروايات، وهي “رجال في الشمس” و”ما تبقى لكم” و”أم سعد” و”عائد إلى حيفا” و”الشيء الآخر: من الذي قتل ليلى الحايك”، كما تضمن المجلد ثلاث روايات وصفها الكتاب والنقاد بأنها لم تكتمل، وهي “العاشق” و”الأعمى والأطرش” و”برقوق نيسان”.

في كلمة الناشر، وربما لجنة تخليد غسان كنفاني، جاء تقديم “الروايات الثلاث” غير المكتملة، مربكا ولا يخلو من غموض. فـ”العاشق” هو عنوان اختاره غسان بنفسه، و”الأعمى والأطرش”، أطلق عليه كاتب التوضيح “عنوان موضوعي”، ولم نعرف زمن كتابة مقاطع الرواية المنشورة، عكس العاشق التي توضح لنا أنها كتبت في 1966.
أما “برقوق نيسان” فلم نعرف هل الذي اختار لها العنوان هو غسان بنفسه، أم رفاقه وزملاؤه من الكتاب المعنيين بإعداد المختارات للطباعة.
ملابسات وغموض
ما أريد قوله إن ما جاء في التوضيح لم يفك ملابسات الروايات الثلاث، سواء من ناحية الأسباب التي عطلت غسان عن إكمالها، أو عن الزمن الذي كتبت فيه روايتا “الأعمى والأطرش” و”برقوق نيسان”.
أما الناقد المصري الراحل إحسان عباس، وهو الذي تكفل بالتقديم للإصدار المذكور، فهو لم يتوقف عند تلك الروايات، ولم يحاول أن يطرح تقديراته لها، فنيا وأدبيا. ولم يقدم في صفحات المقدمة أية احتمالات تساعد على إلقاء الضوء، والاقتراب من فك الملابسات، وتوضيح ما هو مبهم وغامض؛ تواريخ نشر روايات غسان، يكشف عن فجوة زمنية طويلة.
اثنتان منها في سنة 1963 هما “ما تبقى لكم” و”رجال في الشمس”، وبعد مضي ست سنوات، ينشر غسان روايتي”أم سعد” و”عائد إلى حيفا”. في هذه الفجوة الزمنية، وحسب التوضيح الذي جاء استهلالا للروايات غير المكتملة، نتعرف إلى أن “رواية العاشق” كتبها غسان عام 1966، ولم يكملها.
يحتاج هذا العزوف من غسان عن الاستمرار بها، والانتقال إلى روايات أخرى ليكملها وينشرها ويترك رواية “العاشق” في الأدراج، إلى تفسير. وليس مستبعدا أن يكون الشأن ذاته ينطبق على الروايتين “الأعمى والأطرش” و”برقوق نيسان”. حيث ليس هناك ما يبين لنا زمن كتابة الروايتين.
أغامر بالقول: إن غسان في هذه الفترة كان مضطربا ومشتتا. وأبني نظرتي هذه على واقعة أدبية حصلت في ذات الفترة 1966-1969، تتعلق بغسان كنفاني. نشر غسان في سنة 1966 روايته الموسومة بـ”الشيء الآخر: من الذي قتل ليلى الحايك”، وتعرض بسببها لحملة انتقادات عنيفة جدا، لأن عالمها يختلف جذريا عن عالم الروايتين السابقتين “ما تبقى لكم” و”رجال في الشمس”.
ضجة نقدية
كأنَ منتقديه وضعوا له إطارا يحظر عليه الخروج منه. وهو الإطار “الوطني والقومي والنضالي”. وعندما تحولت رواية “رجال في الشمس” إلى فيلم سينمائي حمل عنوان “المخدوعون”، وجاء في الإعلان الدعائي له، واسم غسان مثبت عليه، اضطربت المؤسسة الحزبية التي كان غسان عضوا فيها، وكأن الرواية “لوثت” الشرف الوطني والقومي لغسان، وبالتالي للمنظمة الحزبية.
بعد الضجة “النقدية” الهجومية على غسان، كتب ونشر روايتي “أم سعد” و”عائد إلى حيفا”. ويحيلنا هذا الواقع إلى خطورة الازدواج في الشخصية وميادين نشاطها، فالسياسي حين يخضع الفني لشروطه، يشوّه روح الإبداع. في هذا الإطار، أضع الاحتمالات التي يمكن أن تفسر تراجع غسان عن استكمال “رواياته الثلاث”، مع العلم أنها تختلف في عوالمها عن عالم “الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك”، لكن من أتيح له الاطلاع على المقاطع المنشورة منها، ستقف عند اتجاه نقدي اجتماعي وثقافي وتاريخي للحالة الفلسطينية.
وليس مستبعدا أن يكون غسان قد غض النظر عن استكمالها، والعودة إليها في وقت آخر، أو العدول نهائيا عن استكمالها، تجنبا للتصادم مع “الوعي السائد”.
وأشير في الختام إلى انتشال رواية “الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك”، من ترتيبها الزمني في مجلد الروايات، و”رميها” في آخر المجلد، وكأن المعنيين بتراث غسان ظلوا على ضيقهم من تلك الرواية، فعاقبوها. ومن ناحيتي أعتبرها، بلونها المختلف، أجمل روايات غسان فنيا وفكريا.
خلاصة القول، مع هذا الكاتب لا وجود للنهايات أبدا. هناك البحث الذي يفتح آفاقا جديدة عندما ينغلق كل أفق.
لم تنشر هذه الروايات، غير المكتملة، إلا بعد استشهاد كنفاني. وهي، حين نشرت للمرة الأولى، كان لها وقع المفاجأة. الرواية الأولى “العاشق”، فيها يرسم المؤلف صورا للنسيج النضالي، الذي يجسده المناضلون الفلسطينيون، أما الرواية الثانية “الأعمى والأطرش” فيستعيد كنفاني رموزه، كلفة يضعها داخل بنية لغوية- شعرية، مدهشة.
أما الرواية الثالثة ”برقوق نيسان”. فيستعيد كنفاني أجواء “عائد إلى حيفا” لكنه يقوم بقلب طرف المعادلة، فأبوالقاسم الذي ينكر جثة ابنه الشهيد، هو الوجه الآخر لسعيد س. ثلاث روايات غير مكتملة، تقدم في عدم اكتمالها الصورة الرمزية الكبرى، التي لم يستطع كنفاني أن يكتبها على الورق.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *