مفاتيح الكيالي لقراءة مآلات الحركة الوطنية الفلسطينية




*جهاد الرنتيسي


خاص ( ثقافات ) 
يحرص الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي على وضع العوامل الذاتية والموضوعية في سياقها التاريخي، ودقة الربط بين الأسباب والنتائج، لتحقيق حالة من التوازن في ما يعتبره محاولة أولية لقراءة تجربة الحركة الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية الفلسطينية على مدى النصف الثاني من قرن منصرم وقرابة العقدين من القرن الحالي .
لكن جوانب الغموض التي تكتنف الهوية التنظيمية والسياسية وغياب مراجعة الحركة المستهدفة بالبحث لتجربتها وعدم اشتغالها على هضم المتغيرات السياسية والاجتماعية وانتقالها من المبادرة إلى الارتهان للخيارات الأحادية وعجزها عن تجديد شبابها كما جاء في مقدمة كتاب ” فتح 50 عاما : قراءة نقدية في مآلات حركة وطنية ” حولت قراءة الكيالي إلى مهمة شاقة . 
للتغلب على هذه الصعوبة لجأ الكاتب في كتابه الذي يأتي بعد كتاب “الثورة المجهضة” الصادر قبل ثلاثة أعوام إلى منهجية تعتمد على ظروف نشأة الحركة وتفكيرها السياسي والتحولات النوعية التي طرأت على ادائها ليصل إلى ما آلت إليه ويضع رؤيته لكيفية خروجها من مأزقها المركب. 
يحدد الكتاب عددا من العناصر التي أدت لصعود فتح وتحولها إلى انقلاب في الحياة السياسية العربية من بينها أن الحركة ذات جوهر وطني غير ايديولوجي مما مكنها من تمثل حالة تنوع وتعددية أهلتها لكي تكون الأكثر شبها بشعبها، وأتاحت لها أن تطرح نفسها باعتبارها ثورة في الوعي العربي، كما أهلها ذلك لأن تكون حالة جبهوية وليست حزبا، إلا أن أهم عوامل الصعود الفتحاوي في المجتمع الفلسطيني تمثلت في طرح الحركة وتنفيذها لفكرة الكفاح المسلح وإعلائها شأن الهوية الفلسطينية وتعويمها للمضمون الاجتماعي الذي يدخلها في جدل الفرز الطبقي .
لدى تطرقه للأفكار المؤسسة يشرح الكتاب أسباب التحولات التي دفعت فتح إلى الخروج عن أدبياتها الأولى وفي مقدمتها إقامة “الدولة الواحدة الديمقراطية” على كامل التراب الفلسطيني، ورفض إقامة كيان فلسطيني مسخ ومرتبط بالصهيونية كما جاء في مقررات المؤتمر العام الرابع للحركة، ويعتبر الكاتب المؤتمر السادس الذي عقد في بيت لحم عام 2009 ـ بعد رحيل ياسر عرفات وإخفاق الانتفاضة الثانية ـ المحطة الأساسية في النكوص عن تلك المبادئ .
وبما أن محطة النكوص جاءت بعد عدة محطات حافظت فيها الحركة على معظم طروحاتها رغم هبوب رياح السياسة الفلسطينية في اتجاهات أخرى، يصل الكاتب إلى أن قيادة فتح ظلت عمليا تفضل انتهاج التورية والازدواجية حتى ذلك التاريخ .
يتعامل الكتاب مع المؤتمر العام السادس للحركة باعتباره منعطفا حادا ترك بصماته على التفكير والاداء الفتحاويين حيث جاء في زمن تماهي الطبقة السياسية السائدة في فتح مع السلطة، مما أضعف أهليتها في البحث عن خيارات بديلة وبمعنى آخر أتاح المنعطف شرعنة التغيير الجاري في حركة فتح منذ خروجها من لبنان عام 1982 وأحدث نوعا من التطابق بين بنيتها وتفكيرها السياسي ففي عهد قائدها محمود عباس لم تعد بحاجة إلى الازدواجية التي وسمت تاريخها في عهد ياسر عرفات وفي هذا السياق يمسك الكاتب عصبا عاريا بإشارته إلى الخطأ الذي يرتكبه البعض عند تحميل عباس مسؤولية اتفاق اوسلو ويستند في تخطئة الخاطئين إلى أن تمرير الاتفاق في فتح والمنظمة وأوساط الفلسطينيين لم يكن ممكنا لولا مكانة عرفات التاريخية والوطنية والرمزية لدى شعبه، وهناك دلالات اخرى تمخضت عن المرور بذلك المنعطف من بينها أن الحركة لم تكن تولي اهتماما لفكرها السياسي، وأن الطبقة القيادية هي التي تتحكم بخياراتها الكبرى .
النظام الداخلي لحركة فتح يعبرعن بعض مظاهر أزمتها حيث يشير الكتاب إلى عمومية في صوغ المفاهيم التي تحكم الحياة التنظيمية وتكتمل الصورة مع استعراض شواهد غياب البناء الهرمي أو العنقودي مما حول الحركة إلى جسم متعدد الأطراف يمثل التنظيم قسما من أقسامه وفي ذلك تسهيل لانفلاش الأطر والتمكين من التفرد والتحكم بالحراكات الداخلية واحتكار القرارات والخيارات السياسية وتسهيل الانزياح عن المفاهيم المؤسسة بدعوى الواقعية أو الضرورات العملية .
عوامل انحسار الحركة يحددها الكتاب بإخفاقها في تأطير حالة الالتفاف الشعبي الفلسطيني والعربي التي أعقبت هزيمة حزيران 1967 وعدم القدرة على تحويل هذه الحالة من حالة كمية إلى نوعية، الاعتماد المفرط على التمويل المالي العربي مما أدى إلى ظهور طبقة سياسية تحصل على مواردها من خارج علاقات الإنتاج الطبيعية واعتماد قسم من الشعب على حركته الوطنية بدلا من اعتمادها عليه، استخدام النظام الرسمي العربي للحركة الوطنية الفلسطينية، الانخراط في التسوية السياسية لتتحول حركة التحرير إلى سلطة، واستبدال خيار المقاومة المسلحة بالمفاوضات، ليخلص إلى أن التغيرات التي حصلت في فتح لم تكن كلها استجابة لسياقات التطور الطبيعي ولم تأت في سياق التكيف الاضطراري مع التحولات المتولدة فيها أو المحيطة بها، وإنما تغيرات ذات طبيعة نكوصية أو تراجعية .
يشير الكتاب إلى عدد من مظاهر نكوص فتح بينها غياب الهوية التنظيمية الواضحة وتخلي الحركة عن دورها كحامل للمشروع الوطني وحاضنة للهوية الجامعة وخروج اللاجئين من معادلاتها السياسية ـ مما ساهم في تحول الفلسطينيين إلى مجتمعات متعددة ـ مع التحول إلى حزب للسلطة، وتخلفها عن تطور التفكير السياسي الفلسطيني، وخضوعها للوصاية الدولية مع اعتمادها على المعونات الخارجية، الأمر الذي يعني من بين ما يعنيه التخلي عن المنجز .
لكن المقترحات والحلول التي يقدمها الكتاب في آخر فصوله ـ يتمثل أبرزها في طرح البرنامج السياسي الذي سيقدم إلى المؤتمر العام المقبل للنقاش العام، إنهاء النظام الذي تأسس على التماهي بين منظمة التحرير والسلطة، انتخاب اللجنة المركزية من قبل المجلس الثوري، إنهاء السيطرة على مؤسسات السلطة والمنظمة، إعادة بناء منظمة التحرير، وقف التنسيق الأمني، صياغة استراتيجية للمقاومة الشعبية ـ لا تمتلك الروافع اللازمة للأخذ بها في ظل المتغيرات التي مرت بها الحركة على مدى العقدين الماضيين، كما تبقي تناقضات الحالة الفلسطينية وخضوعها للاحتلال ووضعية الانكفاء العربي واللاتوازن الدولي المجال مفتوحا أمام المزيد من الانهيارات .
وفرت معادلة النهوض والانحسار التي صاغها الكيالي بدقة في كتابيه الأخيرين المفاتيح اللازمة لفهم معضلات الحركة الوطنية الفلسطينية التي تمثل فتح عامودها الفقري والبحث عن مخارج قد تبلور أشكال عمل مختلفة تتناسب مع التعقيدات المتجددة ولا يخلو الأمر من تأطير نظري يسد فراغا في تجارب وشهادات تناولت التجربة ومن بينها ما جاء في كتب د. شفيق الغبرا “حياة غير آمنة” ونزيه أبو نضال “الثورة المغدورة” وتأملات معين الطاهر حول تجربة الكتبية الطلابية ، التي لم تخل من التقاطات نقدية في حياة سياسية تفتقر للمراجعة .
_________
*كاتب من الأردن 

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *