خاص- ثقافات
*خيري منصور
حين كنا صغارا نلثغ بأسمائنا والزغب في أوله على أجنحة خيالنا تصورنا أن البحر الأسود مياهه بلون الفحم، وأن البحر الأحمر بلون الدم أو عصير التوت، والبحر الأبيض بلون الحليب أو الطباشير، حتى مفردة التصويت وهي الإدلاء بالأصوات في صناديق الانتخابات بدت لنا يومئذ كما لو أنها مجرد الصراخ وإطلاق الأصوات الصاخبة في تجمعات غامضة. ورغم البلوغ واللحاق بعالم الكبار بقيت رواسب كثيرة من طفولتنا في قاع الذاكرة، لكن ما أذكره الآن وهو من المفارقات الأشد طرافة، هو أن نساء القرية كنّ يطلقن على من في وجهه شيء من الشحوب انه متَشرِن نسبة إلى شهر تشرين، وبمرور الأيام والأعوام صادفتني ترجمة عربية لإحدى القصائد الأمريكية يقول فيها الشاعر إن وجه من يحب يجعله يشعر بأنه شهر إبريل/نيسان، بكل ما يوحي به من بواكير الربيع أو من تردده كما يقول محمود درويش الذي جعل من هذا التردد أحد الأسباب التي تجعل الحياة تستحق أن تُعاش. وأذكر أن المترجم توقف طويلا واحتار أمام تلك الكلمة التي حولت اسم شهر ابريل إلى فعل بحيث اصبحت ِAprilization وشعرت أن أمهاتنا في القرى سبقنه إلى ذلك، حين حوّلن شهر تشرين بجفافه وبما يرشح منه من الكآبة الريفية إلى حالة جسدية.
الآن، ندرك أن الماء هو الماء، سواء في البحر الأسود أو الأحمر أو الأبيض أو حتى الميت، فالمياه كلها كما يقول سيروان كما ترجمه الشاعر آدم فتحي هي بلون الغرق، لكن ما أعنيه بالموجة السوداء هو شيء آخر غير الذي يقترن بالبحر، إنها موجة من صميم اليابسة، وسوادها ليس نبيلا كثياب الحداد التي تليق بالكترا أو القدس، إنه سواد الفحم الذي لا يضيء إلا إذا احترق ليصبح رمادا، وما من عنقاء تتخلق منه لأنه خبر الحكاية الكونية وليس مبتدأها.
الموجة السوداء ذات منابع قد تكون مجهولة، ولا تنكسر كغيرها عند الشطآن، فهي أشبه بسحابة من الغربان كتلك التي رسمها فان كوخ فوق حقل القمح، وحين قرر الانتحار لم يجد مكانا مناسبا كذلك المكان.هذه الموجة العارمة بلا زبد ومهمتها أن تؤوي سمكة القرش لتكون كمينا أو فخّا لمن صدق أن سحابة الغربان ماء!
إن لكل عصر إيقاعاته ومناخاته المبثوثة في تفاصيله وكذلك رائحته، فعصور الانحطاط تفرز رائحة العطن حتى من أغلى العطور، ولها إيقاع جنائزي حتى في الأعراس بعكس أزمنة النهوض والقيامات التي يتجوهر فيها الفحم ليصبح ماسّا ويعتذر الغراب عن نعيقه ويحاول الهديل، وتصبح المفاضلة بين الجميل والأجمل هي البديل الأسمي للمراذلة بين القبيح والأقبح.
للوهلة الأولى قد يتصور القارئ أنني أهجو عصرنا الذي نموته على مدار اللحظة ولا نعيشه، لكن العصور التي سبقته لم تكن فردوسا نبكي على فقدانه، لأن المقابر تعج بأبرياء صلبوا وأحرقوا ونكّل بهم لمجرد أنهم صاحوا كما صاح أرخميدس وجدتها، وما وجدوه ليس شيئا طافيا على سطح الماء، بل الحقيقة كما هي، سواء تعلقت بالظلم والجحود أو بالبوح الصادق.
لكن الفارق بين عصرنا وتلك العصور هو أنه يقول بصوت جهوري ما كان يُهمس به في الماضي، فالقتل فيه يتم بالسكين وفي عز الظهيرة وعبر الفضاء، والمهن القذرة القديمة اشتقت لها اسماء جديدة بحيث لم تعد البغي بغيا ولا السمسار سمسارا ولا العبد عبدا ولا الخائن خائنا.
عصرنا تتعايش فيه النقائض والأضداد على نحو بالغ التعسف، والسلعة التي يكتب عليها تحذير من أخطارها كالتبغ أو الكحول يكتب على الوجه الآخر أنها وعد استثنائي بالسعادة والمتعة، والدول التي تزهو بالماغناكارتا وعصر النهضة والثورات كالفرنسية والأمريكية تقتل أو تتسبب في قتل بضعة ملايين من البشر في عام أو عامين، وقاطع الطريق يصعد إلى منصة القضاء والضحية تُطالَب بالاعتذار عما اقترفت لأنها كلّفت السيد بقتلها ولم تنتحر كي تعفيه من هذا العبء.
الموجة السوداء تحتضن سمكة القرش لكنها تطرد الدلفين إلى اليابسة كي يموت غرقا في الرمال لأنه يغيث الغرقى ولا ينهش لحمهم أو يمتص دمهم ونخاعهم! وحين يكتب مؤرخ مثل ويل ديورانت صاحب قصتي الفلسفة والحضارة عن التاريخ باعتباره حربا متصلة، وأن ما يسمى السلم من مراحله هو مجرد استراحات لشحذ الأسلحة وإحصاء الغنائم والقتلى، فإن ما حدث في عصرنا خلال أقل من نصف قرن يعادل ما حدث خلال ألفية على الأقل، ليس من حيث عدد الضحايا فقط، الذين بلغ عددهم في رقعة صغيرة كراوندا أكثر من مليون بل من حيث الاستخفاف بالآدميين فهم مجرد أرقام صماء، وبلا اسماء كما لو أنهم خراف.