المجد للساخر الأزلي وغالبية الشعوب تصبو إلى العبودية!

*محمد عبد الرحيم

«لتعلمي أن الشخص الذي لا يقيم أدنى اختلاف بين الصيرفي واللص، لا يمكن تصنيفه مجنوناً. هذا هو المعيار الأوحد لتقييم الصحة الذهنية لفرد ما». هذه هي رؤية العالم من وجهة نظر (أسامة) بطل رواية «ألوان العار»، التي كتبها ألبير قصيري (3 تشرين الثاني/نوفمبر 1913 ــ 22 حزيران/يونيو 2008) عام 2003، بعدما هاجر إلى باريس واستقر فيها، بحوالي أكثر من نصف قرن. لم تترك القاهرة مخيلة الرجل واستشرافه مصير المدينة المأساوي، الذي رسمته بصيرته الحادة بطبيعة المكان ومخلوقاته. لم تخرج الرواية عن إطار أعمال قصيري السابقة، «بشر نساهم الله، كسالى الوادي الخصيب، منزل الموت الأكيد، شحاذون ومعتزون، والعنف والسخرية» إلا أن «ألوان العار» تصف حال مصر في السبعينيات من القرن الفائت، وتتلمس مصير عهد الانفتاح الاقتصادي، وتبعات الانقلاب العسكري في تموز/يوليو 1952، أو الثورة في مفهوم المغيبين وفاقدي البصر. لم تزل شخصيات قصيري ــ ثالوث السخرية الأزلي ــ قادرة بأعجوبة على التفاعل مع التغيرات التي تضرب المجتمع المصري، فطن الرجل إلى روح هذا المجتمع وفئاته التي تمتلكه وتصوغه وفق هواها، لذا لم يكن سوى ممارسة السخرية والاحتفاء بالمهازل وكأنها حدث كوني فريد، أو زلزال يقارب المعجزة الإنسانية في الصعود إلى الفضاء. الساخرون فقط هم مَن يبجلهم قصيري ويرسم لوحاتهم في احتفالية تليق بأفكارهم التأملية العظيمة، السخرية التي لم تكن مجانية أو لحظية بل موقفاً من العالم ومن الجميع.

القاهرة الآن وغداً

يفتتح قصيري الرواية على مشهد للقاهرة وأهلها وكأنه يراها الآن .. «حشود البشر الهائمة على وجهها، على إيقاع تسكع صيفي لا مبال فوق الأرصفة غير المستوية لمدينة القاهرة العتيقة، بدت وكأنها قد تكيفت بسكينة، بل وبشيء من السخرية اللاذعة، مع تدهور البيئة المستمر الذي لا رجعة فيه، ربما تحدثنا أنفسنا بأن مجمل هؤلاء الجسورين، المتنزهين تحت الحمم الجارفة لشمس منصهرة، متواطئون بتسامح، في تجوالهم الذي لا يكل، مع العدو الخفي المقوِّض لقواعد وأساسات عاصمة كانت منارة في الماضي، تلك الجماهير التي لا تؤثر فيها المأساة ولا حتى الحزن، أشبه بسيل جارف يحمل معه عينات متنوعة من البشر أصابتها البطالة بالسكينة: عمال عاطلون، حرفيون بلا زبائن، مفكرون خاب أملهم في بلوغ قمة المجد، موظفون إداريون مطرودون من مكاتبهم لعجز في عدد المقاعد، خريجو جامعات رازحون تحت وطأة علمهم العقيم الذي لم يؤت ثماره، وأخيراً الهازئون الأزليون، هؤلاء الفلاسفة المحبون للظلام والعتمة ولهدوئهم، الذين يرون أن هذا التدهور المشهود لمدينتهم صُمِّم خصيصاً لشحذ حاستهم النقدية». ومن هذه الرؤية تتواتر الحكاية، وكعادة قصيري فالشخصيات الأساسية الثلاثة أسامة لص الفئة المُترفة، الذي يعيد توزيع الثروة وفق قناعاته، المعلم نمر أستاذه في السرقة، الذي يعيب عليه هذا الأسلوب، والصحافي المنعزل في المقابر كرم الله، هؤلاء وبالمصادفة يصبح مركز اهتمامهم أحد أشهر مقاولي البناء، والمتورط في قضية سقوط مبنى فوق ساكنيه، وصاحب النفوذ القوي عاطف سليمان. الأمر أشبه بحالة جوهر والكردي يَكَن في مواجهة الضابط نور الدين في رواية «شحاذون ومعتزون»، وكل من هيكل وكريم وطاهر، في مواجهة محافظ المدينة. هناك شكل سلطوي يصبح هدفاً لهم في النهاية، ولا يستطيع الفكاك من المؤامرة الساخرة التي يحيكونها في مهارة.

أخلاق السادة وأخلاق العبيد

«لا شيء أكثر انعداماً للأخلاق من السرقة بدون مخاطر، فالخطر هو ما يفرق بيننا وبين المصرفيين وأقرانهم الذين يمارسون السرقة القانونية تحت رعاية الحكومة، أنا لم أرسّخ فني في ذهنك لتصبح لص سينما، يتمثل همّه الأكبر في عدم إثارة نفور جمهوره». هكذا يرى (المعلم نمر) شرف أن تكون لصاً، فأن تتم المقارنة بينه وبين المصرفي فإنها الإهانة الكبرى، التي لا يغفرها لتلميذه الجليل، الذي أصبح يرتدي الأزياء الفاخرة، حتى يستطيع الوصول وسرقة الأغنياء. فصورة المناضل الوطني التي يعتنقها أسامة لم تكن تتناسب ومنطق نمر بأي حال. حكمة نمر هي التي تقف ما بين رؤية أسامة والصحافي الهارب كرم الله، يقول نمر صاحب الحكمة والرؤية الشعبية، «إنني لا أثق في غالبية هؤلاء الثوريين، ينتهي بهم الأمر دائماً إلى أن يصبحوا رجال سياسة رصينين ويدافعون عن هذا المجتمع نفسه الذي كانوا يُحقّرونه في الماضي». بخلاف (كرم الله) الذي قابله نمر في السجن، حيث وصف في مقال له رئيس إحدى الدول الصديقة بالجنون، المأساة الهزلية أن الشرطة كانت تريد أن تعرف من أين عرف كرم الله بجنون الرجل بالفعل! كرم الله الذي احتمى في النهاية بمقبرة والديه، يحيا ويتأمل العالم من حوله، وقد فقد التعجب والدهشة ــ البداية الصالحة دوماً لحالة السخرية المزمنة ــ فقد كان «يفكر ملياً في تخاذل الشعوب وخضوعها لصفاقة الحكام الظالمين، بامتنانٍ راضٍ للطغاة، مقارب غالباً للورع، وقد توصل إلى أن غالبية الشعوب لا تصبو إلا إلى العبودية». كان من الضروري أن يتقابل أسامة وكرم الله عن طريق نمر، كان لابد أن يتقلّب أسامة ما بين الحكمة الشعبية وبين التأمل العقلي، حتى يقرر الاحتفاظ بالخطاب الذي سرقه مصادفة من حافظة شقيق الوزير، والمتورط بدوره مع المقاول ــ نموذج السبعينيات ــ الذي يكشف تورط رجال ذلك العهد بالفساد، وأشباههم حتى لحظتنا الراهنة.

طريق العمى وعاهة توهم الكرامة

لم يكن والد أسامة ــ الذي يسكن بيتاً آيلاً للسقوط ــ إلا مناضلا يعمه في غيّه، ثار مع العمال وقت الحكم الملكي، فتلقى ضربة فوق رأسه أفقدته البصر، وبعدما جاء انقلاب يوليو/تموز 1952، ظن الرجل أن ما فعله لم يذهب سدىً .. «كنتُ مُنهمكاً في التفكير في مآثر الثورة. لدىّ الانطباع بأن هناك مزيداً من الحركة والنشاط في الحي. أسمع الناس يضحكون ويتنادون فكهين، كما لو كانت الدنيا شيئاً رائعاً بالنسبة لهم. هذا عزاء لي يوم اكتشفت أن السعادة لم تعد حكراً على الأقوياء». الرجل الذي تتلخص أحلامه الآن في بعض مناضد جديدة تكون جديرة بيوم موته «سوف يكون هناك رفقاء المصنع القدامى. أنا على يقين أنهم لم ينسوا أنني قد تلقيت ضربة الهراوة التي أفقدتني بصري أثناء كفاحنا المشترك. ولربما أيضاً أوفدت الحكومة الثورية واحداً من وزرائها، أترى؟ لقد أعددتُ كل شيء حتى يتم دفني في لياقة وكرامة».

في رواية قصيري التي تتجاوز بالكاد المئة صفحة، يستعرض في بساطة وعمق شديدين تاريخاً طويلاً في حياة المصريين ــ ومستقبلاً كما يبدو ــ بدون صخب وكلمات تحمل بلاهة البلاغة، بدون طنطنة ورؤى مشوهة كما فعل وما يزال يفعل الكثير من الروائيين، الذين يحيون فعلياً كالأموات فوق هذه الأرض. اللافت أن تصبح شخصياته تحمل سماتها نفسها، مهما تغيّرت الموضوعات والأزمنة الحكائية والسردية، وكأنه يكتب رواية طويلة، وما عناوين الروايات سوى فصول في حياة هؤلاء الأبطال، وهذه الرؤية التي يكتب من خلالها، والتي لم تزل ــ بعد وفاته ــ باقية ومثيرة للكثير من الدهشة.

الرواية: ألوان العار
المؤلف: ألبير قصيري
ترجمة: منار أنور، ومراجعة: منى صفوت
إصدارات المركز القومي للترجمة، القاهرة 2011.
______

*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *