آلبير قصيري‮ :في حوار عن الحب والقاهرة والكتابة



*حوار‮: ‬ميشال ميترانى ‮/ ‬ترجمة‮ : ‬أحمد عثمان

في الثانية والتسعين من عمره،‮ ‬التزم بجمل مثل‮ : “‬أحب،‮ ‬بعد أن‮ ‬يقرأني الناس،‮ ‬أن لا‮ ‬يذهبوا إلى أعمالهم في الغد‮”. ‬تمتلك كتب آلبير قصيري،‮ ‬الأديب المصري المقيم في باريس منذ‮ ‬1945،‮ ‬في الغرفة‮ ‬58‮ ‬بفندق‮ “‬لا لويزيان‮”‬،‮ ‬جاذبية منفتحة وحكمة معدية،‮ ‬وتحمل نظرة حية ودقيقة عن العالم الذي‮ ‬يجعل القارئ‮ ‬يتساءل عنه‮. ‬هو ذا،‮ ‬من بين حجج عدة،‮ ‬يتبدى لماذا جمعت دار النشر‮ (‬دويل لوزفيلد‮) ‬أعمال هذا الكاتب الحر الكاملة مما جعله حدثا أدبيا كبيرا‮. ‬والمناسبة هي العودة إلى أحد أهم الأدباء الأخاذين في المشهد الأدبي الفرنسي المعاصر‮. ‬

‮ ‬المكتب،‮ ‬لم‮ ‬يعرفه آلبير قصيري أبدا‮. ‬ولد في القاهرة عام‮ ‬1913،‮ ‬لعائلة من ملاك الأراضي الصغار‮. ‬درس في مدارس كاثوليكية وفي سن العاشرة،‮ ‬بدأ الكتابة،‮ ‬قبل أن‮ ‬يتجه إلى الدراسة بالليسيه الفرنسية‮. ‬في السابعة عشرة من عمره،‮ ‬غطس في قراءة بلزاك بشغف كبير،‮ ‬وعندما بلغ‮ ‬مونبارناس كانت لديه الرغبة في اكتشاف هذا الحي الشهير‮.‬
في‮ ‬1941،‮ ‬صدرت بالعربية والفرنسية في آن معا مجموعته القصصية الأولي‮ “‬الناس الذين نساهم الرب‮”‬،‮ ‬ثم قدم هنري ميلر الطبعة الإنجليزية‮ : “‬لم‮ ‬يكتب أي كاتب حي بهذه الحدة والقسوة عن حياة الذين‮ ‬يشكلون القاعدة العريضة من الجماهير‮…”. ‬خلال الحرب،‮ ‬عمل قصيري رئيسا للخدم على باخرة تعمل بين نيويورك وبور سعيد‮. ‬في الميناء،‮ ‬كتب أولى رواياته‮ : “‬منزل الموت المؤكد‮”‬،‮ ‬قبل أن‮ ‬يستقر نهائيا في فرنسا،‮ ‬في هذه الغرفة الكائنة في شارع السين والتي لم‮ ‬يزل قاطنها حتى اليوم‮. “‬فكر العالم كله‮ ‬يوجد‮ ‬في هذا الحي‮”‬،‮ ‬هكذا أعرب قصيري عن حنينه‮. ‬هو،‮ ‬من لم‮ ‬يعمل أبدا بالمعنى المألوف للكلمة والذي أمضى عشر سنوات لكي‮ ‬يكتب كتابا،‮ ‬عاش في باريس الأسطورية حيث كان مالكو المعارض الفنية‮ ‬يهدونه أحيانا لوحة فيبيعها لكي‮ ‬يسدد إيجار‮ ‬غرفته‮. ‬في‮ (‬مقهي‮) ‬فلور،‮ ‬عنده حساب مفتوح‮. ‬كان كأصدقائه،‮ ‬آلبير كامو وروجيه نيميه أو لورنس داريل ضمانة مؤكدة كضمانة المصرفي‮. ‬يا للزمن‮ !‬
‮ ‬كما شخصيات رواياته التي‮ ‬ينصهر معها‮ “‬هذه الشخصيات حياتي،‮ ‬ذريعة لحكي ما أفكر فيه عن هذا العالم‮” ‬لم‮ ‬يرض قصيري بأي عقبة تهدد حريته،‮ ‬مؤكدا نصف جاد‮ “‬أنا حي لأنني لم أتزوج أبدا،‮ ‬وليس لدي أبناء،‮ ‬خادمة،‮ ‬سيارة ولا فاتورة كهرباء‮. ‬يكفيني أن أحيا‮”. ‬شخصيات رواياته،‮ ‬أطفال من قاع المجتمع القاهري أو شحاذون رائعون،‮ ‬بشائر هذه الفلسفة الحاذقة والمعقدة التي لا‮ ‬يكشف صاحبها عنها بسهولة‮. ‬مثله مثل جوهر،‮ ‬المعلم في‮ “‬شحاذون ومتكبرون‮”‬،‮ ‬يشير إلى الفقر‮ “‬إذ أننا نعلم الحياة بدون أن نعيشها هي جريمة الجهل المكروه للغاية‮”. ‬يمسك المعلم حساب منزل للدعارة ويكتب خطابات العاهرات قبل أن‮ ‬يقوده مصيره،‮ ‬تحت تأثير الحشيش،‮ ‬إلى الجريمة‮. ‬حتى النظرة اللاذعة‮ ‬أحيانا المنذرة‮ ‬في‮ “‬بيت الموت المؤكد‮”‬،‮ ‬حيث انتهى سكان المنزل‮ ‬غير الصحي إلى الاطمئنان على أنفسهم بينما هم متأكدون أن منزلهم سينهار‮ .‬
وبمناسبة‮ ‬100‮ ‬عام علي ميلاده الذي‮ ‬يحتفل به العالم ننشر هنا ترجمة للفصل الثالث من كتاب‮ : ‬ميشال ميتراني،‮ ‬حوار مع آلبير‮ ‬قصيري،‮ ‬مطبوعات جويل روزفيلد،‮ ‬باريس‮.‬
‮ ‬* آلبير قصيري،‮ ‬كتاب كل عشرة أعوام،‮ ‬ايقاعك لإنضاج الحكاية‮. ‬هل ستعمل على نشر‮ “‬لصوص صغار ولصوص كبار‮” ‬؟
‮ – ‬لم أعرف أبدا متى أنتهي من كتابة أي كتاب‮. ‬يجب أن أقول أنني لست متعجلا بما أنني أكتب نفس الكتاب‮.‬
‮ ‬ألم‮ ‬ينتج كبار الأدباء سوى عمل وأحدب،‮ ‬كما قال مارسيل بروست ذات مرة‮.‬
‮ ‬بيد أن معظم الكتاب‮ ‬يعرفونها جيدا‮… ‬أقول في كل كتبي ما لدي‮.‬
‮ ‬نعم،‮ ‬يستحق كلامك أن‮ ‬يكون قابلا للتأويل بالنسبة للقراء الذين‮ ‬يحبون كتبك وينتظرون كتابك القادم‮.‬
‮ ‬لديك الحظ أنك تمتلك سبعة كتب لي‮. ‬اذا كنت كتبت ثلاثين،‮ ‬كنت ستكون في حالة مزرية‮…‬
‮ * ‬دراسة ضخمة لموريس بلانشو،‮ ‬معنونة‮ “‬الحوار اللا نهائي‮”‬،‮ ‬كما تعرف‮… ‬على وجه العموم،‮ ‬بما أن هناك فاصلا زمنيا‮ ‬يقارب العشر سنين‮ – ‬تقترب اللفظة من نهايتها‮ ‬يفصل بين ظهور كتبك‮ ‬كإحصائية‮ -‬،‮ ‬لماذا تظل وقتا طويلا في الكتابة ؟
‮ -‬لأنني أعمل‮… ‬لتفترض خمسة عشر‮ ‬يوما متتابعة،‮ ‬ثم أبقى شهرا بدون كتابة‮. ‬يتأتى أن أبقى ثلاثة أشهر بدون أن أفعل شيئا،‮ ‬قبل أن أعاود الكتابة‮. ‬الكتابة صبر طويل‮.‬
‮ * ‬اذأ،‮ ‬لا تكتب منهجيا كل‮ ‬يوم،‮ ‬كما‮ ‬يفعل بعض الكتاب ؟
‮ – ‬بالطبع لا‮ !‬. ‬كل نهار في العاشرة صباحا‮…‬ ‬أنهض متأخرا‮. ‬أحتسي قهوة‮. ‬تلزمني ساعتين حتى أبدأ العمل‮.‬
‮ * ‬كيف تحافظ حياتك اليومية على رابطة مع مصر،‮ ‬التي تلقح نتاجك ؟
‮ -‬قلت لك أنني لم أغادر مصر،‮ ‬أي أنني أحيا دوما نفس المناخ‮.‬
‮ * ‬تحيا في باريس،‮ ‬ولا تقرأ‮ “‬الأهرام‮” ‬كل صباح،‮ ‬حتى تكون مطلعا على ما‮ ‬يجري‮.‬
‮ – ‬نعم‮… ‬لا أشتري‮ “‬الأهرام‮”. ‬في تناقص،‮ ‬أقرأ بالعربية،‮ ‬لأنه على مدى خمسين عاما في باريس،‮ ‬أصبح الأمر صعبا‮. ‬أنا خجل‮. ‬مع من سأتحدث العربية ؟ حتى عندما‮ ‬يأتي إخوتي الى باريس،‮ ‬نتبادل الأحاديث بالفرنسية‮. ‬أصدقائي المصريون الذين‮ ‬يأتون،‮ ‬يتحدثون الفرنسية‮. ‬آخر الأمر،‮ ‬ينسى المرء لغته على مدى عدد من السنوات‮.‬
‮ * ‬ومع ذلك،‮ ‬اندهشت،‮ ‬حتى بعد العدوان الفرنسي‮-‬البريطاني الغبي على السويس،‮ ‬من عدد المصريين الذين استمروا في الكلام بالفرنسية في حياتهم العادية‮. ‬Comment ca va؟‮… ‬كيف الحال ؟ كما‮ ‬يقولون في محادثاتهم الهاتفية،‮ ‬التي‮ ‬يجرونها بالعربية والفرنسية،‮ ‬بلا تمييز‮…‬
‮ – ‬نعم‮. ‬من قبل،‮ ‬كان هناك الكثير ممن‮ ‬يتحدثون الفرنسية‮. ‬الآن،‮ ‬لا توجد سوى فتيات العائلات المرموقة لأنهن درسن في مدارس الارساليات،‮ ‬لدي‮ (‬مدراس‮) ‬الأخوات‮… ‬لا أعرف أية مدرسة‮.‬
‮ ‬يجب أن‮ ‬يعمل المصريون،‮ ‬ولذا‮ ‬يتعلمون الانجليزية‮.‬ ‬حتى أسماء الشوارع كانت بالفرنسية‮.‬
‮ * ‬الحواسيب آمريكية‮…‬؟
‮ – ‬نعم‮… ‬الحواسيب‮… ‬حتى اليوم،‮ ‬لا أعرف فيم تختص‮. ‬لا تثير اهتمامي‮. ‬سمعتهم‮ ‬يتحدثون عن‮ “‬المينيتل‮” (‬2‮)‬،‮ ‬غير أنني لا أعرفه،‮ ‬ولا أريد أن أعرفه‮. ‬بالنسبة لي،‮ ‬يكفيني قلم رصاص وورقة،‮ ‬وهو كل ما أحتاجه للكتابة‮. ‬غير أنني لا أكتب‮… ‬الا اذا كان عندي شيء جديد لقوله،‮ ‬واذا لم أجده،‮ ‬لا أكتب‮. ‬اذا كان لعدم قول أي شئ‮… ‬ربما بسبب التعب عديم الفائدة،‮ ‬وبالتالي لدي كل الوقت‮ !…‬
‮ * ‬شخصياتك عربية وتتحدث بالفرنسية‮.؟
‮ – ‬لا،‮ ‬أترجم كلامهم الى الفرنسية‮. ‬لا أستخدم تعبيرا باريسيا خالصا،‮ ‬على سبيل المثال‮… ‬الكاتب الفرنسي الذي‮ ‬يكتب عن باريس لديه حرية أكبر‮. ‬يقول‮ : ‬عبرت الشخصية شارع سان-جاك ودخلت الى مكتبة‮…‬
‮ *‬لكي تنمي الموقف،‮ ‬هل تفكر بالعربية أم بالفرنسية ؟
‮ -‬لا،‮ ‬أفكر بالعربية،‮ ‬أي أمنح جملتي محيطا،‮ ‬ليس محيطا باريسيا أو،‮ ‬لنقل،‮ ‬غربيا‮. ‬بالنسبة للحوارات أو الأجوبة،‮ ‬أفكر بالعربية‮. ‬غير أن أسلوبي،‮ ‬في نفس الوقت،‮ ‬يأخذ شكلا آخر اذا كتبت حول باريس أو أي شئ آخر‮. ‬لئلا أعطي الانطباع بأن فرنسيا‮ ‬يكتب عن مصر‮…‬
‮ * ‬دوما،‮ ‬تكتب،‮ ‬مباشرة،‮ ‬بالفرنسية‮.‬؟
‮ – ‬نعم‮. ‬ولكن هناك دوما،‮ ‬في عقلي،‮ ‬المناخ العربي،‮ ‬طريقة الكلام‮. ‬تعرف حتي ان قال أحد لك‮ “‬صباح الخير‮”‬،‮ ‬تشعر أن شيئا خلفها‮. ‬أنه ليس دائما‮ “‬صباح الخير‮” ‬على الطريقة الأوروبية،‮ ‬أي الذي لا‮ ‬يعني أي شئ‮. ‬وهذا السلام،‮ ‬يستلزم أن أرده‮.‬
‮ ‬في المعنى : ‬هل تعرف مع من تتحدث ؟ ‬في مصر،‮ ‬يتبقى هذا أكثر شعبية،‮ ‬بدون طيف البورجوازي الصغير‮.‬
‮ ‬* هل تمثل الكتابة بالفرنسية ضغطا خاصا ؟
‮ -‬بالتأكيد‮. ‬يلزمني أن أجد الأسلوب اللازم‮. ‬غير أنني أجده سريعا‮. ‬مثلما لاحظت،‮ ‬منذ كتبي الأولى‮. ‬لأن هناك شكل الذهن الشرقي،‮ ‬أخيرا‮… ‬المصري بالأخص‮. ‬هناك دوما شئ من الدعابة‮. ‬بخصوص التحية على وجه الدقة،‮ ‬هناك الصداقة،‮ ‬طريقة للسخرية منه‮. ‬هناك دوما شئ ما‮.‬
‮ ‬*هل تستطيع دوما أن تحكي مسعى إعداد الكتاب ؟
‮ -‬في‮ ‬غالب الأحايين،‮ ‬سؤال‮ ‬يطرحه القراء،‮ ‬الذين لا‮ ‬يعرفون الكتابة‮ (‬أو لا تمتلكهم الرغبة‮)‬،‮ ‬وانما‮ ‬يحبون القراءة‮. ‬لكل كاتب طريقته في الكتابة‮.‬
‮ *‬وطريقتك ؟
‮ -‬بعض الكتاب‮ ‬يكتب مباشرة ويقول لكم‮ : ‬أكتب خمس صفحات‮ ‬يوميا،‮ ‬وهذا‮ ‬يتبدى لي‮ ‬غريبا‮. ‬لا‮ ‬يكتب،‮ ‬بالضبط‮ ‬يحرر نصا ما‮. ‬أنا أكتب جملة‮. ‬فقط،‮ ‬أتفحصها عشرين مرة كي أضيف شيئا ما فيها‮.‬
‮ * ‬كيف تولد فكرة الكتاب ؟
‮ -‬أنها عملية تحضير طويلة،‮ ‬ولهذا أخذ كثيرا من الوقت لكتابتها‮. ‬بداية،‮ ‬لأنني لست متعجلا‮. ‬ليس لدي أي طموح‮.‬
‮ * ‬ألا‮ ‬يتأتى هذا البطء من رفضك للتغيير،‮ ‬للجدول ؟ هل من الممكن أن‮ ‬يتغير كاتب ما حينما‮ ‬يحتوي نتاجه على نفس الصور-القوي ؟
‮ – ‬لست روائيا‮. ‬يكتب الروائي كتابا‮ ‬يدور في باريس،‮ ‬في افريقيا،‮ ‬في أي مكان في العالم،‮ ‬وبأي حكاية‮. ‬قسرا،‮ ‬يغير الجدول،‮ ‬بينما أنا أعمل دائما على نفس الشيء.
‮ *‬بطريقة ما،‮ ‬ألا تغترف،‮ ‬في كل مرة،‮ ‬من مادة محدودة وثابتة ؟ لا أشير فقط الى وفائك الاقصائي لمصر‮.‬
‮ – ‬نفس الفكرة موجودة في جميع كتبي،‮ ‬أعمل عليها بصورة مختلفة‮. ‬الكاتب الحقيقي‮ ‬يتصرف بالمادة المحدودة التي تمثل وجهة نظره للعالم‮.‬
‮ ‬*من أين تأتي شخصياتك ؟ هل لها بطاقة وصفية مشتركة ؟
‮ -‬إنها شخصيات عرفتها في مصر،‮ ‬تمثل جزءاً‮ ‬من هذا التصور عن العالم‮. ‬أستطيع،‮ ‬بعد خمسين عاما،‮ ‬أن أكتب كتابا،‮ ‬بتفصيلة،‮ ‬بصفة للشخص الذي قابلته في شبابي‮. ‬وبدون أن أدون ملاحظات،‮ ‬لست في حاجة إلى ملاحظات‮.‬
‮ *‬ذاكرة الكاتب انتقائية،‮ ‬كما قال جوليان جراك،‮ ‬تتعامل مع المخزون،‮ ‬ولكنها لا تحدد موضوع الكتاب ولا حبكته‮. ‬ما دور الحبكة في رواياتك ؟
‮ -‬الحبكة‮… ‬بالتأكيد،‮ ‬من الواجب أن أجد حبكة فريدة،‮ ‬لأن شخصياتي فريدة،‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن تحدث معها حكاية تافهة‮… ‬عن سيد متزوج‮ ‬يحب امرأة أخرى،‮ ‬وهكذا‮. ‬بالتالي،‮ ‬أبتكر لها حكاية‮. ‬ولكن الشخصيات هي التي تثير اهتمامي على وجه الخصوص،‮ ‬وما سيقولونه‮. ‬لأنه،‮ ‬بعد كل شئ،‮ ‬يعبرون عن فكري‮. ‬فضلا عن ذلك،‮ ‬لا أعتقد أن القارئ‮ ‬ينشغل بالحبكة،‮ ‬وانما بالشخصيات‮. ‬تعرف أن الناس الذين‮ ‬يأتون لرؤيتي،‮ ‬والشباب بالأخص،‮ ‬لم‮ ‬يقولوا لي أبدا‮ : ‬كتبت رواية جميلة‮. ‬أنهم مفتونون بالشخصيات وبما تعبر عنه‮…‬
‮*.. ‬بأسلوبك الخاص‮. ‬جملك المرصعة بدقة تنتج صورا قوية،‮ ‬عنيفة دوما‮. ‬بطريقة تقنية خالصة،‮ ‬تستعمل دوما الصفات‮. ‬أنت سخي في استعمال الصفات‮.‬
‮ -‬لأنه،‮ ‬أيضا،‮ ‬أسلوب اللغة العربية‮.‬
‮ ‬من الصحيح أن هذه الصفات المباشرة للغاية لا توفر الحالة ولا الشخصيات النضرة‮. ‬هذه الصفات تمحو كل التباس‮.‬
‮ ‬من اللازم أن تحتوي كل جملة على النقد بينما أقوم بالوصف‮. ‬اذا تكلمت عن مصباح،‮ ‬أقول عمن‮ ‬يملكه‮. ‬أقول‮ : ‬مصباح الحكومة‮…‬
‮ ‬في‮ “‬طموح في الصحراء‮”‬،‮ ‬بينت هيكل الدريك‮ (‬4‮) ‬صدئا بأكمله،‮ ‬أي أن الشركات النفطية أخفقت في عملها‮…‬
‮ ‬يخدم الأطفال الذين‮ ‬يلهون‮. ‬يتسلقونه‮. ‬يجب أن‮ ‬يؤدي الديكور دورا‮. ‬لا أكتب روايات لكي أصف مدينة أو منظرا،‮ ‬هذا لا أهمية له‮.‬
‮ *‬لا تتردد أبدا عن تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية،‮ ‬الوغد وغد،‮ ‬وحتى الدنيء‮…‬
‮ – ‬نعم‮ ! ‬أحب الأوغاد،‮ ‬أنهم من‮ ‬يمنحون الحياة بعض الملح‮.‬
*‬الأوساخ هم من‮ ‬يقتلون كل فرحة حولهم،‮ ‬كما قلت على لسان هيكل‮. ‬وبالتالي،‮ ‬من هم الأوساخ،‮ ‬بالنسبة اليك ؟
‮ – ‬أنه الفرد الذي‮ ‬يستفيد من هذا المجتمع الذي نحيا فيه‮.‬
‮ * ‬محتال‮… ‬هل هذا الاحتيال الذي تعريه منهجيا عاما ؟
‮ ‬-الاحتيال‮ ‬يحيا منذ قرون وقرون‮.‬
‮ * ‬ما هو شكله الأكثر مقتا ؟
‮ – ‬الطغيان‮. ‬غير أن الطغاة،‮ ‬دوما،‮ ‬موجودون‮. ‬يوجدون دوما‮.‬ ‬وبالتالي،‮ ‬بدون أدنى شك،‮ ‬من العبث محاربتهم،‮ ‬لا‮ ‬يثيرون الضحك‮ ! ‬اذا كنت فهمت جيدا،‮ ‬هؤلاء الطغاة‮ ‬يجب النظر اليهم على اعتبار أنهم دمى متحركة،‮ ‬وكل طغيان أداة سخرية‮. ‬يلهو البطل القصيري بها،‮ ‬ويريد أن‮ ‬يخلدهم لكي‮ ‬يسخر منهم‮. ‬للاحتيال مستقبل مشرق‮…‬
‮ ‬أنه دائم بما أن الأثرياء نصوا عليه،‮ ‬وكذا الناس الذين لهم مكانة ما‮.‬
‮ *‬هل من الممكن أن تعرفه ؟
‮ – ‬أنه موجود في كل مكان‮ ! ‬فقط،‮ ‬هذا لا‮ ‬يعني ألا نحب الحياة‮. ‬الحياة رائعة‮. ‬من اللازم التوفر على صفة ما،‮ ‬أن‮ ‬يكون المرء ذكيا لكي‮ ‬يخرج منه،‮ ‬ويلاحظ كل هذا الاحتيال بفرح،‮ ‬أي تناوله بسخرية،‮ ‬دوما‮…‬
‮ * ‬متى تحتفي بالحياة،‮ ‬تحدد الأخوية للذوات‮.‬
‮ ‬-الأخوة بين الناس الذين‮ ‬يتلاقون،‮ ‬لأنهم من نفس العائلة‮.‬
‮ *‬غير أن هذه الأخوية لم تعد موجودة‮… ‬مثل قصة حب بين‮ “‬خبراء‮”.‬
‮ – ‬نعم،‮ ‬إنها ذوات تتلاقي،‮ ‬وليس جميع الذوات‮. ‬لا‮ ‬يعرف الناس سوى الحب بين رجل وامرأة،‮ ‬الذي‮ ‬يعتبر صورة من صور الحب‮. ‬تفكر شخصياتي في نفس الشئ،‮ ‬هم أنفسهم ضاعوا وسط هذا الاحتيال،‮ ‬وبالتالي تعارفوا‮. ‬مثل أناس تائهين في الصحراء،‮ ‬وبالتالي هناك أخوة بينهم‮.‬
‮ ‬بين مدحت وتيمور،‮ ‬هيكل وكريم،‮ ‬سامنتار وشعث‮… ‬بالتأكيد‮.‬
‮ ‬تبادلوا الاختيار‮.‬ ‬إنها هبة الذات أيضا‮.‬
‮ ‬عرفت آلاف الأفراد،‮ ‬ولم أختر سوى أربعة أو خمسة منهم طوال حياتي‮. ‬لقاء أحد أفراد العائلة‮ ‬يماثلك‮ (‬أتكلم عن العائلة الفكرية‮) ‬شئ نادر‮.‬
‮ ‬تفترض هذه الأخوية،‮ ‬هذا‮ “‬الكمال‮”‬،‮ ‬فن العيش المشترك‮.‬
‮ * ‬نعم‮…‬ ‬وما هو فن العيش ؟
‮ -‬أن تتخلي عن كل ما علموك اياه،‮ ‬عن كل القيم،‮ ‬عن الدوغمائيات‮. ‬وهذا ما قلته من قبل،‮ ‬أي أن‮ ‬يقوم المرء بثورته‮.‬
‮ *‬هل قمت بثورتك ؟
‮ – ‬أوه‮ ! ‬وأنا شاب‮ ! ‬غير أن كان الحظ رفيقي،‮ ‬كان لدي إخوة أكبر مني،‮ ‬من المثقفين،‮ ‬وقرأت،‮ ‬في السن التي‮ ‬يقرأ أطفال اليوم فيها الرسوم المتحركة،‮ ‬كل الكلاسيكيات الفرنسية‮.‬
‮ *‬ما الذي‮ ‬يميز فن العيش لدي الشخصيات التي ابتدعتها ؟
‮ -‬في بادئ الأمر،‮ ‬انعدام الطموح‮. ‬الطموح‮ ‬يقتل الناس‮. ‬وأيضا هذا الاندفاع نحو مجتمع الاستهلاك‮. ‬أنا،‮ ‬حينما أتابع الاعلانات في التلفاز،‮ ‬أقول في نفسي‮ : ‬يستطيعون أن‮ ‬يقوموا بهذا أمامي لسنوات،‮ ‬لن أشتري شيئا مما‮ ‬يعرضونه‮. ‬لم أتمن أبدا سيارة جميلة،‮ ‬لم أتمن شيئا آخر سوى أن أكون نفسي‮. ‬أستطيع أن أمشي في الشوارع ويداي في جيبي،‮ ‬وأشعر بكوني أميرا‮.‬
‮ ‬*هذا الأسلوب الحياتي صاغ‮ ‬شخصيات نتاجك‮. ‬يعيشون علي الهامش،‮ ‬ويجابهون بالسخرية الصفة القمعية لمجتمع‮ ‬يعدد نظامه التنافرات،‮ ‬يعقدها طوعا‮ “‬خلله الوظيفي‮”‬،‮ ‬كما‮ ‬يقال اليوم‮ ‬لكي‮ ‬يحتال بصورة فضلى على الناس‮. ‬شخصياتك تحب الحياة الطبيعية،‮ ‬خارج كل ابتذال‮ ‬يحقق العنف‮. ‬يتصرفون كأمراء على خشبة الحياة،‮ ‬أيا كانت،‮ ‬وعلى وجه الخصوص حسبما‮ ‬يختارون أن‮ ‬يعيشوها‮.‬
‮ -‬هو ذا،‮ ‬الأرستقراطية الحقيقية،‮ ‬هي تلك المتحررة من هذا العالم الاستهلاكي،‮ ‬من العنف ومن الاحتيال‮.‬
‮ * ‬لشخصياتك رقة خاصة ؟
-‮ ‬لا‮ ‬يكرهون‮.‬
‮ ‬لا‮ ‬يكرهون،‮ ‬بما أنهم لا‮ ‬يملكون أي طموح‮. ‬كالعادة،‮ ‬الطموح‮ ‬يكره الطموحين الآخرين مثله،‮ ‬الذين‮ ‬يريدون أن‮ ‬يبلغوا نفس المكانة‮.‬
‮ *‬أنه التحرر من ثروات هذا العالم الذي تمتدحه‮…‬
‮ -‬من الثروات،‮ ‬ولكن ليس من الحياة‮. ‬لا تستطيع امتلاك الثروات أن ترضي انسانا ذكيا،‮ ‬فهم العالم الذي‮ ‬يحياه‮. ‬لأن الذكاء،‮ ‬يعني فهم العالم الذي نحياه‮ ! ‬فهمه كثير من الناس،‮ ‬ولكن من،‮ ‬لئلا‮ ‬يفقد مكانه،‮ ‬أو أمام مديرهم،‮ ‬يستمرون في الكذب،‮ ‬في العيش في هذه الكذبة‮. ‬اذا لم‮ ‬يكن لديك مدير،‮ ‬اذا لم‮ ‬يكن لديك أي دين لأي شخص،‮ ‬لست في حاجة الى العيش في الكذبة‮.‬
‮ * ‬لا تعمل شخصياتك،‮ ‬لا تتبع أحدا‮. ‬أنها أحرارمن خلال تحررها من كافة القيود والعمل‮.‬
‮ – ‬نعم‮. ‬هو ذا بالضبط‮.‬
‮ ‬بيد أن هذه المسافة،‮ لا تفضي إلى نوع من الأنانية،‮ ‬إلى أريحية تحديدية،‮ إلى اختزال الحنو،‮ ‬حتى،‮ ‬أقول‮… ‬أين‮ ‬يتموضع هذا الحنو الانساني في هذا التحرر ؟ ‬ولكن بالضبط،‮ ‬هذا التحرر‮ ‬يمنح الامكانية للمرء بأن‮ ‬يكون سخيا،‮ ‬بما أنه،‮ ‬كما قلت من قبل،‮ ‬لا‮ ‬يوجد سوى الطموحين من‮ ‬يكرهون‮.‬
‮ *‬هل من الممكن أن‮ ‬يكون الحنو انتقائيا ؟
‮ -‬أنه انتقائي لأن المرء لا‮ ‬يستطيع أن‮ ‬يحب سوى من‮ ‬يشبهه‮.‬
‮ ‬حينما أقول أنه انتقائي،‮ ‬بمعنى أنه خارج العائلة الشرعية‮. ‬ينتخب المرء أصدقاءه،‮ ‬يختار من‮ ‬يحبه‮.‬
‮ ‬شعرت بهذا لما كنت شابا،‮ ‬لأن،‮ ‬كما قلت في سياق حوارنا،‮ ‬والدي لم‮ ‬يعمل أبدا وبالتالي لم أشعر بأي ثقل‮. ‬تعرف،‮ ‬في العائلات التي‮ ‬يستلزم أن‮ ‬يعمل الأب لكسب المال،‮ ‬أن‮ ‬يجلب المال للبيت،‮ ‬وبالتالي،‮ ‬هناك شئ من السلطة‮. ‬لم‮ ‬يكن لأبي أية سلطة علينا‮. ‬لم‮ ‬يقل أبدا‮ : ‬عليك أن تفعل هذا أو ذاك‮. ‬ليس الآباء من‮ ‬يستطيعون تربية الأطفال‮.‬
‮ * ‬ألم تر أبدا الي أن المجتمعات من الممكن أن تتقدم ؟
‮ -‬التقدم الروحي،‮ ‬نعم‮ ! ‬ليس بالمعنى الديني‮. ‬الروحي،‮ ‬أي في الروح‮. ‬صعب للغاية،‮ ‬ولذا لم تتقدم الانسانية قيد أنملة منذ آلاف الأعوام‮. ‬نراه اليوم في كل مكان بالعالم‮ : ‬الناس تتكاره،‮ ‬يصنعون الحروب،‮ ‬يتقاتلون‮.‬
‮ *‬ولكن كيف تستطيع المجتمعات أن تصلح من شأنها بدون التقدم التقني،‮ ‬المادي ؟
‮ -‬دوما،‮ ‬في الاحتيال،‮ ‬أي‮ ‬يدفع الفقراء ثمن هذا التقدم‮.‬ وبالتالي،‮ ‬بقدر ما‮ ‬يتبقى من فقراء‮…‬
‮ ‬لا أقول إن العالم لا‮ ‬يجب أن‮ ‬يتطور عبر التقدم‮. ‬لست ضد هذا العالم‮. ‬أتخلص منه بلباقة وذا كل شئ‮. ‬هناك كثيرون مثلي‮.‬
‮ ‬*مثل شخصيات كتبك ؟
‮ – ‬نعم‮. ‬ومثل كثير من الناس،‮ ‬الشباب بالأخص،‮ ‬الذين قرأوني‮. ‬ولكن العالم‮ ‬يستمر كما‮ ‬يريد‮. ‬لست ضد أي شئ‮. ‬يستمر هؤلاء،‮ ‬ويفعلون ما‮ ‬يحلو لهم‮. ‬غير أن لا رابط بيني وبينهم‮.‬
‮ * ‬تتحدث في معظم الأحيان عن الدعابة،‮ ‬عن هذه الدعابة الخالدة التي تهيمن على وجود الإنسان المصري،‮ ‬يتبدى بالمثل أن التهكم والسخرية أمر قصيري خالص‮؟
‮ – ‬لا‮. ‬كذلك الشعب المصري‮. ‬يسخر من نفسه أيضا‮. ‬تعرف،‮ ‬في مصر،‮ ‬كل‮ ‬يوم،‮ ‬هناك حكاية‮ ‬غريبة،‮ ‬لا نعرف من أبدعها،‮ ‬عن الأحوال الراهنة‮. ‬ولا أحد‮ ‬يتضايق‮.‬
‮ * ‬ولكن هناك معنى للسخرية‮ ‬ينتمي اليك ؟
‮ -‬نما من محيطي‮.‬
‮ * ‬وجهة نظرك تنمي هذه السخرية‮…‬
‮ – ‬في مصر،‮ ‬أنا،‮ ‬كنت ألهو طوال اليوم برفقة أصدقائي‮. ‬إنها الطريقة الوحيدة لفهم الحياة‮. ‬علي أي حال،‮ ‬بالنسبة لي ولكثير من الناس‮. ‬في مصر،‮ ‬كنت محاطا بكثير من الناس الذين‮ ‬يفكرون مثلي‮. ‬لم أبدع هذه السخرية‮.‬
‮ * ‬أخيرا،‮ ‬بالمثل،‮ ‬في نتاجك،‮ ‬هناك تطور‮. ‬رأيناه،‮ ‬يقدم كتاباك الأولان وقائع تشهد على الشعب المصري بؤسهم الفظيع‮. ‬في كتبك التالية،‮ ‬تنمي صفات الشخصيات،‮ ‬تتأكد أكثر فأكثر‮. ‬شخصيات رئيسية،‮ ‬تبرز،‮ ‬شيئا بعد شئ،‮ ‬البطل القصيري الذي‮ ‬يتكلم دوما علي لسانك‮. ‬لا‮ ‬يمكن أن نكتفي،‮ ‬حتى وإن كان أرستقراطيا‮ ‬بالنسبة لك‮ ‬استحضاره،‮ ‬بأطروحتك عن كون هذه الشخصيات تنتج نماذج مجهزة سلفا،‮ ‬تمت مقابلتها في شبابك‮. ‬السخرية المكشوفة البصيرة لرفيق من ابداعك‮. ‬جوهر،‮ ‬أبدعته‮. ‬هيكل،‮ ‬سامنتار،‮ ‬شخصيتان مبتكرتان،‮ ‬حسبما نماذج بعيدة بدون شك‮. ‬ولكن فيهم،‮ ‬هناك روح المبدع،‮ ‬النظرة،‮ ‬مهارة الكاتب،‮ ‬آلبير قصيري‮؟
‮ – ‬نعم،‮ ‬ولكن‮… ‬بالتأكيد،‮ ‬هناك المهارة،‮ ‬بما أنني الكاتب الذي‮ ‬يكتب‮… ‬الذي‮ ‬يصف هذه الشخصيات‮. ‬هناك الأسلوب،‮ ‬هناك شئ من المغالاة أيضا،‮ ‬لأنني روائي،‮ ‬بقدر ما ان التاريخ لا‮ ‬يثير اهتمامي‮. ‬هذا هو كل شئ‮.‬
‮ * ‬أهذا هو كل شئ ؟
‮ – ‬ولكنني لا أخرج من عالمي،‮ ‬وهذا العالم،‮ ‬عشته‮. ‬وأصفه،‮ ‬بالتأكيد،‮ ‬بطريقة الروائي‮.‬
‮ * ‬تعيد ابداعه‮.‬
‮ – ‬في رواية‮ “‬تنابلة الوادي الخصيب‮”‬،‮ ‬كانت عائلتي التي وصفتها،‮ ‬وإنما‮ ‬غيرت أحوالها بالطبع‮.‬
‮ *‬اذاً،‮ ‬هل تعيد إبداع هذا العالم ؟
‮ – ‬نعم‮.‬
‮ ‬قبلته‮. ‬ولكنني أعيد ابداعه بكل تأكيد،‮ ‬بما أنني كاتب‮ !‬
‮ * ‬ألا تمتلك إرادة،‮ ‬دوما عبر الدعابة والسخرية،‮ ‬طرد المثير للشجن،‮ ‬الايمان الزائف،‮ ‬وما شابه‮ ‬أخيرا،‮ ‬المشاعر الصريحة المتعلقة بالقيم الهابطة لمجتمع مؤسس على النفاق ؟
‮ -‬هذه المشاعر الانسانية،‮ ‬حذار‮ ! ‬مم ولدت ؟ ولدت من دوغمائيات نتعلمها،‮ ‬من قيم نتعلمها منذ قرون،‮ ‬وتجعل الإنسان تابعا لهذه الدوغمائيات‮. ‬إذا تخلصت منها،‮ ‬سيعم صفاء استثنائي‮ ‬الحياة‮. ‬اذا،‮ ‬ترى أن الأمر بسيط للغاية‮. ‬لست كاتبا معقدا‮. ‬لايمكن أن‮ ‬يقول أحد ما علي هذا‮. ‬ولذا،‮ ‬بسبب هذه البساطة،‮ ‬لا‮ ‬يفكر أحد في أن الأمر عميق،‮ ‬لأن،‮ ‬كما تعرف،‮ ‬بالنسبة للنقد‮… ‬كلما كان الكتاب‮ ‬غير مفهوم،‮ ‬كان عميقا‮.‬
‮ *‬في هذا الفن،‮ ‬فن الحياة،‮ ‬أية مكانة تحتلها المرأة ؟ لم تتحدث عنها أبدا‮.‬
‮ – ‬ولكن المرأة تحتل المكان‮… ‬الأكبر والمتميز‮.‬
‮ *‬ولكن ليس في هذه الأخوة،‮ ‬دوما بين الرجال‮.‬
‮ -‬بلى‮. ‬ولكن‮… ‬دوما هن شابات صغيرات السن‮. ‬لا أستطيع أن أقيم علاقة مع امرأة بالغة،‮ ‬أي امرأة،‮ ‬ما تسمى امرأة‮. ‬يلزمني أن أمتلك أفكارا مبطنة عنها‮.‬
‮ * ‬للحكم عليها ؟
‮ ‬‮- ‬نعم‮. ‬بينما فتاة صغيرة السن،‮ ‬لا أحكم عليها‮. ‬شرحت هذا من قبل‮.‬
‮ * ‬في آخر الأمر،‮ ‬هل تعبر شخصياتك دوما عن أفكارك في كتبك،‮ ‬دائما‮ ‬
‮ -‬نعم،‮ ‬أيضا،‮ ‬إنه الشرق‮.‬
‮ ‬نعم،‮ ‬أفكر في الكاتب المصري،‮ ‬توفيق الحكيم‮ (‬5‮)‬،‮ ‬الذي أطلق عليه‮ “‬عدو المرأة‮”…‬
‮ ‬أطلقوا عليه هذا المسمي لأنه انصرف اإى مداعبات بدون سوء نية‮. ‬وأنا أيضا،‮ ‬في كتبي،‮ ‬أسخر نوعا ما من المرأة‮. ‬المرأة،‮ ‬وليس الفتيات صغيرات السن‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬لدي قارئات تقرأني‮…‬
‮ * ‬ولكنك تمتلك شيئا كبيرا من التسامح مع الممالقين،‮ ‬أخيرا شخصياتك تحترم الممالقين،‮ ‬العاهرات‮. ‬وهن كثيرات في كتبك‮.‬
‮ ‬-غير أنهن جديرات بالاحترام،‮ ‬في كل مكان بالعالم،‮ ‬وليس من قبل شخصيات كتبي فقط‮. ‬هذا‮ ‬يمثل جزءاً‮ ‬من العالم‮.‬
‮ * ‬والأطفال ؟
‮ – ‬نعم‮… ‬أعشق الأطفال،‮ ‬وكما قال لوي كارول‮ : “‬أحب كل الأطفال،‮ ‬ماعدا الأولاد‮”. ‬لأن الأولاد،‮ ‬أراهم أصبحوا رجالا‮. ‬سوف أعترف لك‮ : ‬أحببت أن تكون لي بنات‮. ‬لم أنجب أطفالا،‮ ‬اذ خفت أن‮ ‬يكون لي أولاد‮. ‬اذا كنت أنجبت بنتا،‮ ‬لأحببت أن تظل طفلة‮…‬
‮ ‬*أحتفظ بصورة هذا الطفل،‮ ‬العاري دوما،‮ ‬الذي‮ ‬يجوب نتاجك والريف المصري‮. ‬غريزته الحيوية تجعله‮ ‬يرى في بعض الأحايين الحقيقة قبل والديه،‮ ‬قبل البالغين ؟ ما الدور الذي‮ ‬يؤديه في نتاجك ؟
‮ -‬يؤدي دورا في المشهد،‮ ‬لأنه موجود في هذا المشهد،‮ ‬ولكن هذا الطفل،‮ ‬ذكي للغاية،‮ ‬لأنه في الشارع،‮ ‬وفي الشارع نتعلم أن نحيا‮.‬
‮ * ‬الطفل ممثل أكثر عما قلته‮ : ‬عنصر بسيط مصور في المشهد‮. ‬أفكر في هذا الطفل الذي‮ ‬يشتري البرسيم بينما لا‮ ‬يمتلك خروفا،‮ ‬في‮ “‬أناس نسيهم الرب‮”. ‬وفي طفل آخر،‮ ‬طفل العربجي عبد الله في‮ “‬بيت الموت المؤكد‮”‬،‮ ‬الذي‮ ‬ينتقد أباه بقسوة‮. ‬والطفل الذي‮ ‬يصطاد بالمقلاع في‮ “‬تنابلة الوادي الخصيب‮”…‬
‮ – ‬نعم،‮ ‬ولكنهم بالضبط أبناء الشعب،‮ ‬وأنا،‮ ‬عندما أتكلم عن الأولاد،‮ ‬يتعلق الأمر بأولاد البورجوازية‮. ‬هؤلاء أطفال الشعب،‮ ‬لا أراهم قد أصبحوا من الطغاة ومن الوزراء‮…‬
‮ ‬ولا من الظالمين‮…‬
‮ ‬حضرت تصوير فيلم في مصر،‮ ‬مأخوذ عن‮ “‬شحاذون ومتعجرفون‮”. ‬كان هناك أطفال صغار‮ ‬يمثلون في الفيلم‮. ‬وقت الغداء،‮ ‬نسي وجود أحد الأطفال‮. ‬لم‮ ‬يحضروه معهم‮. ‬منحته بعض المال لكي‮ ‬يشتري شيئا‮ ‬يأكله،‮ ‬فلافل أو كما‮ ‬يريد‮. ‬لم‮ ‬يكن عمره‮ ‬يتعدى الخامسة‮. ‬ذهب،‮ ‬ولما عاد أحضر لي قطعة شيكولاته لكي‮ ‬يشكرني لأنني منحته بعض القروش‮. ‬في الخامسة من عمره‮ ! ‬حينما‮ ‬يحيا المرء في الشارع،‮ ‬يتعلم أن‮ ‬يكون كريما‮. ‬الشعب المصري شعب كريم‮. ‬بالبداهة،‮ ‬أتكلم عن الشعب المصري‮.‬
‮ * ‬آلبير قصيري،‮ ‬تمدح دوما البطالة والكسل‮. ‬عن شخص كسول،‮ ‬كتبت سبعة كتب،‮ ‬سيناريوهات‮(‬6‮)… ‬هل عملت‮…‬؟
‮ – ‬حسب وجهة نظري،‮ ‬لم‮ ‬يكن هذا من قبيل العمل‮. ‬لم أبحث عن كسب المال،‮ ‬والا كنت عملت شيئا آخر‮ ‬غير الكتابة‮. ‬بالتالي،‮ ‬هذا لا‮ ‬ينتمي إلى فكري‮. ‬بعد ذاك،‮ ‬الكلمة‮ “‬كسل‮” ‬ينظر اليها سيئا في الدول الغربية،‮ ‬لأن الكسل،‮ ‬في هذه الدول،‮ ‬يعني إلى حد ما الغباء،‮ ‬وليس هذا المقصود تماما‮. ‬بالنسبة لي،‮ ‬الكسل نوع من البطالة‮. ‬لا بد منه للتأمل‮. ‬لهذا نجد،‮ ‬في الشرق،‮ ‬الأنبياء والحكماء‮.‬
‮ *‬ألا‮ ‬يقابل أي نشاط،‮ ‬أيا كان نوعه،‮ ‬الكسل ؟
‮ -‬ليس نشاط الذهن،‮ ‬النشاط اليدوي أو التجاري‮.‬
‮ *‬ماذا‮ ‬يمثل العالم أو الباحث ؟ شخص‮ ‬يعمل ؟
‮ – ‬يعمل ما‮ ‬يعجبه‮. ‬هناك اختلاف كبير‮. ‬تعمل في مصنع،‮ ‬ليس لمتعتك‮. ‬أو بالتالي،‮ ‬أنت مخبول بأنه‮ ‬يمثل طريقتك في العيش‮.‬
‮ ‬صفحة بيضاء،‮ ‬من الصعب ملؤها‮…‬
‮ ‬هذا‮ ‬يتعلق بما‮ ‬يقال‮. ‬بالنسبة لبعض الأشخاص،‮ ‬أمر سهل،‮ ‬لأن نفاد البصيرة‮ ‬ينقصهم‮. ‬بالنسبة لهم،‮ ‬كل ما‮ ‬يكتبونه طيب‮.‬
‮ * ‬لديك،‮ ‬من الممكن أن‮ ‬يصبح البطل القصيري شحاذا‮. ‬عمل الشحاذ‮ ‬يتبدى كعمل مثل أية أعمال أخرى،‮ ‬كما قال جوهر‮.‬
‮ – ‬ولكن الشحاذ بطل من هذا العالم
‮ ‬يستطيع المرء أن‮ ‬يكون شحاذا بكل صفاء،‮ ‬بدون أن‮ ‬يفقد احترام ذاته،‮ ‬ومع ذلك ترى أنه من الضروري الحفاظ على احترام ذاته‮…‬
‮ ‬يتعلق الأمر بوجود الشحاذ في بلد حار أو بلد بارد‮. ‬في بلد حار،‮ ‬من الممكن أن‮ ‬يحيا الشحاذ،‮ ‬بل وحتى أن‮ ‬ينام في الشارع‮. ‬ولكن كيف‮ ‬يمكن التخلص من العالم الذي‮ ‬يحيط بنا ؟ من الضروري أن نجد مخرجا‮. ‬حسنا‮… ‬ولهذا،‮ ‬في‮ ” ‬شحاذون ومتعجرفون‮”‬،‮ ‬قلت‮ : ‬من الممكن أن‮ ‬يصبح المرء شحاذا ومتعجرفا،‮ ‬وهذا لا علاقة له برؤية الغرب للشحاذين‮. ‬في البلاد الأخرى.. ‬لا توجد دعابة كما في مصر‮. ‬تماما،‮ ‬شأن مصري خاص‮. ‬وهو ما‮ ‬يدعمهم في بؤسهم‮. ‬وهو ليس مثل البؤس الذي‮ ‬يلقاه المرء في أوروبا،‮ ‬حيث المناخ قاس،‮ ‬والناس قساة‮.‬
‮ ‬*هل سمعت قارئا قال لك إن أحد كتبك‮ ‬غير حياته ؟
‮ – ‬نعم،‮ ‬لدي كثير من النماذج،‮ ‬من الشباب على وجه الخصوص‮. ‬لأنني بلغت عمرا،‮ ‬لا‮ ‬يغير المرء فيه من حياته،‮ ‬يتحسر على ما فاته،‮ ‬وما فقده‮. ‬غير أنه بالنسبة للشباب‮. ‬يجب أن أقول لك أن كثيرا من هؤلاء الشباب‮ ‬يرحلون إلى مصر لأنهم قرأوا كتبي‮. ‬وبالتأكيد أقاموا هناك‮.‬
‮ *‬هل وجدوا مصر التي وصفتها ؟
‮ – ‬نعم،‮ ‬ثم‮ ‬يسليهم هذا الأمر،‮ ‬لأن القاهرة عاصمة حية،‮ ‬استثنائية لدى الشباب‮…‬
‮ *‬من هم الكتاب الذين قرروا موهبتك ؟ هل هناك لحظة ؟ حيث قلت،‮ ‬حسبما نموذجهم‮ : ‬أستطيع أن أكون كاتبا بدوري ؟
‮ – ‬ولكن بالتأكيد،‮ ‬بما أنه في سن العاشرة،‮ ‬كنت أعرف بأنني سأكون كاتبا‮.‬
‮ *ولكن،‮ ‬من من الكتاب اعتبرته الأهم ؟
‮ -‬دوستويفسكي،‮ ‬نيتشه،‮ ‬ستندال‮. ‬وكشاعر،‮ ‬بودلير‮. ‬وقرأت الألمان أيضا،‮ ‬توماس مان،‮ ‬والأنجليز‮…‬
‮ ‬*بودلير الأكثر انسانية من كثير من الشعراء‮. ‬أثر عليك شابا‮.‬
‮ – ‬قرأت بودلير في سن العاشرة‮. ‬ورامبو أيضا‮…‬
‮ * ‬لا أقاوم ذكر احدى قصائدك،‮ ‬كتبتها خلال المراهقة،‮ ‬في عمر رامبو تحديدا‮.‬
‮ – ‬تبرأت من هذه القصائد‮ 
‮ ‬ومع ذلك أحتفظ بهذين البيتين‮ :‬
‮”‬وحيدا كجثة جميلة،
في‮ ‬يومها الأول بالقبر‮”‬
بالتأكيد،‮ ‬كنت ناضجا قبل الأوان‮…‬
‮ ‬صدفة الحياة‮…‬
‮ * ‬أنها فرصة اكتشاف،‮ ‬كما تفعلها،‮ ‬النصوص الكبرى في طفولتك،‮ ‬وإعادة قراءتها على مدار حياتك‮. ‬هذه الفرصة من الممكن أن تكون دوما محجوزة،‮ ‬حسبما تقول‮ ‬غالبا للشباب‮. ‬الكتب الكبرى تعلمنا الروحية الحقيقية،‮ ‬المتحررة من الدوغمائيات‮. ‬من خلال أعمالهم،‮ ‬نصب كبار الكتاب سورا ازاء الغباء‮. ‬هل تستطيع أن تبدي رأيك،‮ ‬في كلمات قليلة،‮ ‬للقراء عن نهاية هذا الحوار ؟
‮ – ‬لكي ترجعوا الى الكتب‮… ‬كتاب كبير‮ ‬يمنحكم قدرة استثنائية‮. ‬من الممكن أن تكونوا فقراء،‮ ‬بؤساء،‮ ‬مرضى،‮ ‬يائسين،‮ ‬قراءة عمل بارز‮ ‬ينسيكم كل هذا‮.‬
_________
* ألبير قصيري، كاتب مصري يكتب بالفرنسية، لقب بفولتير النيل وأوسكار وايلد الفرنسي وباستر كيتون العربي.
(أخبار الأدب) 

شاهد أيضاً

الكتابة الابداعية كما أراها: 23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف

الكتابة الابداعية كما أراها:  23 خلاصة تصلح للكاتب الجديد والمحترف*  يحيى القيسي   بدأتُ الكتابة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *