مِنْ كثرةِ الرزاياَ التي تهدّه في مواسمِ الجفَاف، وفي أوقاتِ الحَصادِ لمْ يعُد يُبالي بشيءٍ يفْرِحُ القلْبَ أو يُحزنه.. استوي ظهرُه منْ أثرِ النِّصال على النصالِ،وعندما يبوحُ بالشكْوى يزأرُ كالأَسدِ الجريحِ، يَشّدك بريقَ الأسْى المُنبعِثَ من عينين صغيرتين عميقتين. يفتح معزوفته الصباحية بغمغمةٍ من كلماتِ ثلاث، ثم يلوذُ بصمتٍ رهيبٍ، خلاله يهْتك عوْرة الكلام، في تلكِ اللحظة تسْقُط اللغةُ الفارغةُ، ويُدفَن جثمانُها بكلمةٍ مشحونةٍ بطاقة العوْدةِ إلى عَرينه حيثُ يعلَمُ أنّ هناكَ عِقْدٍ من الصبيةِ والأطفالِ في انتظاره.
يتجه إلى رُكنٍ قصيّ من الْبَيْتِ، يرْمي كاهلَه على الأرْضِ في غُرفة نائية فيتحلقون حَوْلَه أشبالاً كالدبابيسِ يشاكسونه ويلحّون في تِعْدادِ مطالبهم من الأَلعابِ والحلْوى والكراساتِ، يفحصهم بعيونِ مستريبةٍ نافذةٍ إلى أعماقِهم ؛ فلا يلوي إلا أن يردَّ على شِكاتِهم بهمهمة غامضةٍ، يرتعدُ منها الطفلَ والصبيَّ في بادئِ الأمرِ، ثُمَّ يهدأَ من نغْمِها الهادئ الوقورِ الذي يتكررُ كُلَّ يومٍ، رُبَّما لعذوبةِ الأَمْلِ الذي يسري في نغْمات كلماتِها القليلةِ المركزةِ : ( إذا جَاءَ المساءُ في الغدِ، وغاصت الشمسُ وراء البحْرِ ) على أثرِ هذه الجُملة المقتضبةِ المُوحية بإشعاع الأَمْلِ وانطفاء الشمسِ فيما وراء البحْرِ ، يُحدثُ لهم بإيقاعِها الموسيقي الرتيبِ زغللةً في أعّيُنِهم الصغيرةِ فيهجعون الواحدُ تلوَ الآخرِ حولَه كأَعوادِ ثِقابٍ منطفئةٍ، ويكونُ قدْ سبقَهُم بشَخِيره المتزنِ الذي يعْلو ويصْدمُ جدران الْبَيْتِ ، ويردُّ صداه هزيعَ اللّيْل.
_____
*أديب من ليبيا.