الاحتـفال

خاص- ثقافات

*محمود شقير 

قسم الطوارئ تفوح منه روائح الأدوية وبعض موادّ التعقيم التي لا يخطئها أنفه كلما جاءوا به إلى المستشفى. إنه ممدّد الآن على السرير، ومن حوله ابنه وابنته وعدد من الأطباء والممرضات، يضغط على بطنه ألم شديد، ألم لم يجرّبه من قبل، لم يتوقّعه أبداً . الستارة التي تحيط بسريره غير مغلقة بإحكام، لم يكن صعباً عليها أن تراه منذ لحظة وصوله إلى قسم الطوارئ. وصلتُ قبله بساعة واحدة، قال لي الطبيب إنها حالة تسمّم خفيفة. لم ينتبه إلي، رغم أنني مضطجعة في السرير المقابل له تماماً. في هذا القسم، لا يفصلون النساء عن الرجال، رأيته وعرفته بعد خمسين سنة من الفراق. لم تكن الستارة المضروبة حول سريري محكمة الإغلاق، ربما لأنه مقدّر لي أن أراه، وإذا حانت منه التفاتة نحو سريري، فقد يعرفني وقد لا يعرفني بعد كل هذا الغياب.

قال له الطبيب بعد إجراء الفحص: ثمة حصى في كيس المرارة. لا تقلق، كنتُ قلقاً بالفعل. من شدة الألم، قلت اقترب أجلي، حمدتُ الله أنني ذهبت لأداء فريضة الحج كي أقابل وجه ربي بقلب خالٍ من الذنوب، لكن، الصحيح إني قلقت وخفت. بصراحة، أنا أخشى الموت، أقولها بصراحة: أنا أخشاه.

راقبتُه وهو يحاول التماسك ثم لا يلبث أن ينخرط في التأوّه والأنين، أشفقتُ عليه والطبيب يقول له: إصبر يا حاج، إصبر. أعرف أنه عاد قبل شهر، من أداء فريضة الحج. قالت لي ذلك إحدى الجارات، شعرتُ بالتقصير لأنني لم أحجّ حتى الآن. قبل عام فكرت بالذهاب للحج، لم أذهب، لأن زوجي كان مشغولاً بتجارته، لم يكن مستعجلاً، قال: لدينا وقت، لا تقلقي يا عائشة. ظل يقول لي هذا الكلام حتى أصابته نوبة قلبية، تركني ومات.

تراجع الألم بفعل الأدوية المسكّنة. انتعشت نفسه، أيقن أن خطر الموت ابتعد، شعر بالامتنان للأطباء وللمستشفى. راح يجيل النظر في أرجاء المكان، وهو يشعر بالحب لكل شيء تقع عليه عيناه. في الجهة المقابلة لي تماماً امرأة مضطجعة في سريرها. إنهم لا يفصلون النساء عن الرجال، نحن أخوة في الوطن وفي الدين على كل حال، وأنا رجل كبير السن، مضى زماني، لم تعد بي رغبة في أجساد النساء. والمرأة التي أراها في سريرها، تبدو مشدودة القوام رغم أنها ليست صغيرة السن، تنمّ ملامح وجهها عن بقايا جمال لا يمكن أن تخطئه العين. يا سبحان الله، سبحانه الذي يهب الجمال والعزّ والجاه. كأنها تعرفني، كأنني أعرفها، ترسل نحوي نظرات سريعة ثم تغضّ بصرها. يا امرأة، توكلي على الله. لم يعد فينا حيل، لا تخجلي ولا تخافي، المهم، في مثل هذا الوقت، سلامة الأبدان.

ينظر نحوي بفضول، كأنه عرفني، أو ربما لم يعرفني. خمسون سنة مرّت مثل لمح البصر بالرغم مما كابدناه أثناءها من بؤس وشقاء. يظهرُ عليه أنه يسأل نفسه أين رآني أو أين تعرّف علي. كنا جيراناً، لعبت معه وأنا طفلة، ثم خرجنا من البلاد ولم أعد أراه، اكتفيت بتتبع أخباره من بعيد.

لو أن ابني وابنتي بالقرب مني لسألتهما عنها، ذهبا ليجلسا في الخارج، وليتيحا لي فرصة للهدوء وللبقاء وحدي في السرير. قالا لي: حاول أن تنام قليلاً لكي ترتاح، وهذه المرأة تنظر نحوي بخجل وحياء. إنها تثير فضولي، يا رب لا تكتب عليّ إثماً يا الله. نيتي صافية وقلبي أبيض مثل الحليب والله.

_ سلامتك.

_ الله يسلمك. كيف حالك يا حاج؟

_ الحمد لله. كيف حالك أنتِ؟

_ كأنك لا تذكرني، أنا عائشة. كنا جيراناً، الدار لصق الدار.

_ عائشة! سلامات.

يا الله! منذ خمسين سنة لم أرها. ظللت أتتبع أخبارها بعد مغادرتها البلاد مع أسرتها جرّاء النكبة والاحتلال. وهي تضطجع الآن أمامي في سرير المستشفى، تضطجع في كامل بهائها وحضورها. يا الله! كم من أحداث وقعت! وكم من مآسٍ مرت على هذه البلاد!

_ عرفت أنكم عدتم إلى البلاد.

_ عدنا، وأخشى أن تطردنا إسرائيل من جديد.

_ لن تطردكم إن شاء الله. الدنيا تغيرت، لن تقدر على طردكم.

_ الله يسمع منك. هل تذكر تلك الأيام البعيدة؟

_ أذكرها. كأنها وقعت يوم أمس، يا الله! هل تذكرين يوم الاحتفال؟

_ أذكره.

أدارت رأسها وهي تشعر ببعض الخجل الممزوج بشيء من الدفء والحنان. راقه منظر وجهها فكأنها رجعت إلى الوراء خمسين سنة. داهمته رغبة مفاجئة في النهوض من سريره، والتوجّه إلى سريرها للتمدّد إلى جوارها. نفض رأسه مستنكراً هذا الخاطر: إلعن الشيطان يا حاج، لعنة الله على الشيطان. أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، أستغفر الله العظيم. استرخى في سريره: رأى الأولاد يتراكضون نحو الساحة، رأى البنات يتراكضن نحوها. جاءت عائشة متأخرة بعض الشيء، رآها تركض مقتربة من الأولاد والبنات. تجمعت النسوة في البيوت المجاورة، رحن يزغردن ويغنين. جاء الرجال، واصطفوا في الساحة، فاليوم يأتي القائد، يشرح لهم خطته التي أعدها للأيام القادمة. مرّت فرقة من المتطوّعين، يرتدي أفرادها ملابس الكاكي، وفي المقدمة يرفرف علم أخضر. تجمهر الأولاد والبنات، أخذوا يراقبون الفرقة وهي تعبر الساحة بخطوات عسكرية منتظمة. رأيتها وهي تراقب الفرقة، كدتُ أناديها: عائشة، هيا بنا نبتعد من هنا. لم أفعل لسبب لا أدريه. رأيته، كدتُ أناديه: أحمد! أنا هنا غير بعيدة عنك، هل تراني؟ لم أفعل لسبب لا أدريه. هل خجلتُ؟ لا أدري. جاءت سيارات كثيرة من المدينة: حافلات، شاحنات، تاكسيات، كلها جاءت محمّلة بالرجال الذين سيكونون في انتظار القائد. كم اندهشت وأنا أرى هذا العدد الكبير من السيارات! كم تمنيت لو أن لأبي سيارة أركبها معه! أركبها وعائشة إلى جواري.كم تعجبتُ من كثرة الناس الذين جاءوا من المدينة! في لحظة ما، خفت، تمنيت أن يأتي أحمد ويقف إلى جانبي لكي يحميني من أي خطر قد يقع. تشكلت في الساحة حلقة للدبكة، غنى الرجال: يحيا الوطن يحيا الدين/ يحيا سماحة الحاج أمين. التصقتُ بأبي وأنا أراقب كل شيء بانبهار، كان أبي يتنقل في الساحة بثقة كأنه المسؤول عن كل هذه الحشود من الناس. أبي حلف بالطلاق من امرأته، يعني أمي، مصرّاً على أن غداء القائد ومرافقيه، سيكون على نفقته هو وعشيرته. احترمت العشائر الأخرى رغبة أبي، ولم يحلف أحد من رجالاتها بالطلاق من امرأته. حسدتُ أحمد وهو يلتصق بأبيه في مثل هذا الاحتفال الذي لم أشهد مثله من قبل. لم يكن أبي قريباً مني لكي ألتصق به، فهو مشغول بالدبكة وبالغناء. أبصرتها وهي تقف وحيدة، جذبني إليها شيء ما. ابتعدت بخفة عن أبي حينما رأيته منشغلاً بالحديث مع بعض الرجال، ركضتُ نحوها. قبضت على يدها دون تردد، قلت لها: هيا بنا. انطلقنا نمشي، يدي مستسلمة في يده. لم أعد خائفة من أي شيء. وقفنا تحت ظلّ شجرة لا تبعد كثيراً من موقع الاحتفال، انحنى يمهّد التراب: سأبني لكِ ولي بيتاً. انحنت وهي في غاية الحماسة، أخذت تزيح التراب بيدها: أنتَ تبني وأنا أساعدك. صاح رجل في الساحة: أخشى ألا يأتي القائد، هذا ما يقوله لي قلبي. توقفتُ عن بناء البيت لسبب ما، ربما بتأثير ما قاله الرجل. سألتني: ما لك؟ قلت: لا شيء. واصلتُ البناء والغبار ينعقد مثل سحابة صغيرة من حولنا، قلت لها: ملابسي اتسخت وكذلك يداي. قلتُ له: أسخن لكَ الماء وتستحم، أصبّ الماء فوق رأسك وكتفيك. رأيت أمي تصب الماء فوق رأس أبي، سأفعل مثلها: أصب الماء فوق رأسه. أحببتُ كلامها، وأنا أتوقّع حماماً بالماء الساخن، وهي التي تصب الماء فوق رأسي، لم يعد يهمّني الغبار. توقفتْ عن إزاحة التراب بيدها، ركضتْ مبتعدة عدة خطوات، اختارت حجراً متطاولاً وعادت تضمّه إلى صدرها. ضممته إلى صدري، هززته بين ذراعي، هدهدته بحنان: اسكت يا حبيبي، اسكت، حينما ننتهي من بناء البيت سأرضعك. امتلأ صدري بفيض من المشاعر، مشاعر غامضة عجيبة، وهي في الوقت نفسه دافئة، لها مذاق عذب بهيج. نظرتُ إلى وجهها وهي تناغي الولد، أحببت وجهها، نظرتُ إلى الولد: ليته ينام حتى ننتهي من بناء البيت. سجيته بالقرب من ساق الشجرة، ربتّ على كتفه بكفي: نم يا حبيبي، نم. طلب مني أن أغني للولد كي ينام، قلتُ لها: أمي تغني لأخي الصغير، وهو لا ينام إلا بعد أن تغني له أمي بعض الأغنيات. غنيت له: نم يا حبيبي نام، لاذبح لك طير الحمام. نام الولد، تركته نائماً، عدتُ أمهّد التراب بيدي. عملنا دون توقّف والغبار يتطاير من حولنا. نبتت في داخلي أحاسيس لم أعرفها من قبل، قلت لها: اكتمل بناء البيت وعليك أن تنامي هنا. قلت له وأنا لاهثة الأنفاس لسبب لا أعرفه: أين تنام أنت؟ قال: هنا إلى جوارك. نمنا في بيتنا الجديد متلاصقين، نمنا دقيقة أو دقيقتين، جسدها دافئ، جسده حار. فجأة، دوّى انفجار. قفزنا مذعورين مرتعبين، انطلقنا نركض بعيداً عن البيت الذي بنيناه. تفرّقت الحشود، ابتعدت عن الساحة حينما دوّى انفجار آخر. تراجعت فرقة المتطوعين بخطوات غير منتظمة، انفضّ الاحتفال، تأخّر وصول القائد، استمرّ دويّ الانفجارات، ضاعت مني عائشة. عدت باكية إلى أمي، قالت لي: وسّختِ ثوبك، أكيد، كنت تلعبين بالتراب. الحق علي لأني سمحت لك بالخروج من البيت، بكيتُ، بكيت كثيراً ذلك النهار.

تململ في سريره. أرسل نظرة خاطفة نحو سريرها، لم يشأ أن يقول كلمة واحدة، لأنها ستلاحظ تهدّج صوته إذا ما تكلم معها. أيقن أنها ما زالت تذكر ذلك النهار، لأنها حجبت صفحة وجهها عنه في تلك اللحظة بالذات.

عاد ابنه وابنته، ومعهما ثلاثة شبان، عرف أنهم أولاد عائشة. سلّموا عليه وتمنوا له الشفاء العاجل. ذهب ابنه وابنته إلى عائشة، سلّما عليها وتمنيا لها الشفاء العاجل. جاء الطبيب، أعطى عائشة إذناً بمغادرة قسم الطوارئ. قال لها:

_ وضعك الصحي يسمح لك بالعودة إلى البيت.

نهضت عائشة من سريرها، ألقت نظرة عليه:

_ سلامتك يا حاج.

_ الله يسلمك يا عائشة.

مشت بتؤدة ووقار، لها قامة مهيبة، وعلى وجهها مسحة من جمال، لم يفلح الزمن في تبديده. ما شاء الله، ما أبدع وما أروع قامتها! في وقت سابق، استمعتُ إلى قصص عديدة، عن تعلق زوجها بها وغيرته عليها حتى آخر لحظة في حياته. تستحقّ كل الخير، تستحق ذلك وزيادة. امرأة مزيونة، فرس أصيلة والله. لعنة الله على الشيطان. سامحني يا رب، سامحني، والله إن نيتي صافية وقلبي أبيض مثل الحليب، مثل الحليب الصافي والله.

جاءه الطبيب، أخبره أنه سيخضع لعملية جراحية لاستئصال المرارة. ليكن، فالأعمار بيد الله، سبحانه وتعالى، وإذا كان لا بدّ من عملية جراحية، فلا مانع لدي، ولكن، ليت عائشة تعرف ذلك. ليتها تزورني قبل إجراء العملية الجراحية، وبعد إجرائها، لأن ذلك سيقوّي عزيمتي، أي والله، سيقوي عزيمتي ويشدّ أزري، سامحني يا رب، سامحني.
__________
*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *