عِطرُها الممزوجُ بالعَرق

خاص- ثقافات

*حازم شحادة

بالنسبةِ للبعضِ، الشجرة مصدرٌ للأوكسجين.
كما تعلمون، التركيبُ الضوئي وهذهِ القصص.
بالنسبةِ للبعضِ الآخر، الشجرة مصدرٌ للغذاء.
تفاحٌ، زيتونٌ، تينٌ، وما إلى هنالك..
بالنسبةِ للمسافرِ في الصحراء، الشجرة مصدرٌ للفيء..
للنجّار مصدرٌ للخشب، لصاحبِ المطبعة مصدرٌ للورق.. إلخ.. إلخ..
بالنسبةِ لشابٍ فقير في القرية، لا مكانَ يصحبُ إليهِ حبيبتهُ.
الشجرة جنّة.
غرفةٌ واحدةٌ مكانٌ مزدحمٌ لسبعة أشخاص.
من شبهِ المستحيل أن تجدها مهيأة كي تستقبلَ فيها صاحبتك لهذا كانَ من شبهِ المستحيل أن أستقبلَ فيها صاحبتي يا صاحبي.
حينها كنتُ في مطلعِ الرابعة عشر من العمر.
يوشكُ أبي على دخولِ كتابِ غينيس كأفقرِ مُعَلِّمٍ للجغرافيا تمَّ رصدهُ على خريطةِ العالم.
الفتاة الجميلة ذاتِ القوامِ الممشوق معجبة بي.
الهرموناتُ الأنثوية لديها تعملُ بشكلٍ مذهلٍ لكن..
لا مكانَ عندي كي أختلي بها.
ما الحل؟
كان هذا السؤال أكثرَ ما يؤرِّقني طيلة فترةٍ ليست بالقصيرة.
ذاتَ مساء..
وبينما كنتُ أستمعُ لعبدِ الحليم حافظ وهو يغنّي على أثيرِ راديو الشرق بعدَ منتصفِ الليل..
(ضِحكِت تاني.. نفس الضحكة وراحِت ماشية..
زي الدنيا ما تيجي في ثانية وتمشي في ثانية)..
وجميعُ أفرادِ العائلة نيامٌ..
قفزتُ من فراشي كمَا قفز يوماً ابن عمي الإغريقي من حوضِ استحمامهِ وصرختُ بأعلى الصوت كما صرخَ تماماً..
ـ وجدتها.. وجدتها..
هذهِ الـ وجدتها.. جعلت كلَّ من في الغرفةِ يستيقظون..
أمّي الحبيبة توقّعت أن أكون قد وجدتُ ركوة القهوة التي بحثنا عنها صباحاً دونَ طائل.
أبي المعتوه تأمّلَ أن أكونَ وجدت حلّاً لمسألةِ الرياضيات الصعبة التي ناقشتهُ فيها بعد عودتي من المدرسة.
أخوتي الصغار تخيلوا أن أكون قد وجدتُ ثروة تنقذنا من الفقرِ المدقع.
أعتذرتُ منهم على تخييبِ آمالهم العريضة ورجوتهم أن يعودوا للنومِ كي يجدوا أحلامهم على الأقل.
عندما شرحتُ الخطة لصاحبتي تردّدت كثيراً..
ـ هذهِ مغامرة خطيرة..
قالت وهي تعضّ شفتها السفلية.
ـ لا مغامرة ولا بطيخ..
قلتُ بلغةِ الواثقِ، المتوكلِ، المعتصم، المخضرم..
أمّا في أعماقي فقد كنتُ قلِقاً أكثرَ منها.
بعد صدٍّ ورد ومداولاتٍ فاقت عدداً مداولاتِ القضية الفلسطينية في أروقةِ الأمم المتناكحة..
وافقت الفتاة.
ـ تغيبُ الشمسُ في تمام السادسة، سأنتظركِ هناك عندَ السادسة والنصف.
هل أنتِ واثقة من معرفتكِ للمكان؟
ـ واثقة..
كرمُ الزيتون المتاخم لقريتنا كبيرٌ جداً..
السياراتُ في البلد بشكل عام قليلة جداً..
أهلُ القرية لم يكونوا قد اكتشفوا بعد طريقة الفيروساتِ بالتكاثرِ الانشطاري.
مع قليلٍ من الحذر، وبكثيرٍ من التدبيرِ المتقنِ بالاتفاقِ مع صديقة صاحبتي ستقوم برفقة أخيها الصغير بإيصال الفتاة إلى تخومِ كرمِ الزيتون كي أستقبلها هناك وعند العودة في تمام الثامنة ستكون مع أخيها الصغير بالانتظار أيضاً..

وصلتُ الكرمَ قبل الموعدِ بنصفِ ساعةٍ مُزوَّداً بكاملِ العتاد.
حصيرٌةٌ صغيرة.
زجاجة نبيذٍ من الميماسِ المزِّ سرقتُ خمسة وثلاثين ليرة من جيبِ والدي كي أشتريها.
علبة سجائرٍ ماركة (الشام) سرقتُ عشرَ ليراتٍ من حقيبةِ أمّي كي أشتريها.
وبالطبع، كانَ الله العزيز قد أنبتَ شجرة الزيتون هناك قبلَ زمنٍ بعيد.
كلُّ شيءٍ جاهزٌ ولم يبقَ سوى وصولها.
حتى اللحظة، وقد بلغتُ من العمرِ ما بلغت، وبعد حصيلةٍ لا بأس بها من النساء..
لم أعرف تماماً أيهما كان أجمل..
انتظارُ الفتاة بكاملِ اللهفةِ والشغفِ والتوقِ والشوقِ أم لقاؤها بكاملِ اللهفةِ والشغفِ والتوقِ والشوق.
عندما رأيتها تطلُّ برفقة صديقتها شعرتُ بملمسِ قلبي بين قدمي.
إنها لحظة الحقيقةِ ولا شيءَ سوى الحقيقة.
تمالكتُ نفسي.
حفّزتها.
قلتُ لها:
ـ أيتها النفس القلقة.. اثبتي.
فاحت رائحة عطرها وتسرّبت إلى خلايا جسدي.
إنها تقترب أكثر.. وأكثر.
قابلتها عند تخمِ الكرمِ ومددتُ يدي فأمسكتها.
قدتها كما قاد الإسكندر العظيم جيشهُ لا بل أفضل.
كنتُ قد هيأتُ المكانَ كما يليقُ فجَلَسَت ومثلها فعلت.
انتظرتها كي تلتقطَ أنفاسها ثم سكبتُ في الكاسينِ بعضَ النبيذِ وأشعلتُ سيجارة..
على الفورِ قامت هي بسرقتها من فمي وكانت من دونِ أيّ شكّ أروعُ عملية سرقة شهدها التاريخ.
أشعلتُ واحدة لنفسي وقلتُ عبرَ دخانها:
ـ نوّرتِ المكان..
كانت جوقة من كائناتِ المساءِ ترتّلُ أنشودة الفرحِ لبيتهوفن والجوُّ عابقٌ برائحة الأعشابِ الندية ومن بعيدٍ تلوحُ أضواء بسنادا بكسلِّ لذيذ.

تلفتتِ الصبية حولها لترى عبرَ العتمِ الخفيفِ خيالاتٍ لأحجارٍ كبيرةٍ وصغيرة..
جذوعاً منتشرة هنا وهناك لأشجار الزيتون المباركة.
أوراقاً صغيرة وكثيفة.. ثم قالت:
ـ منوّر بوجودك.
عندما يبتسمُ لكَ الإلهُ لا قوة على هذه الأرضِ تستطيعُ تكديرك.
ذلك المساء.. وفي لفتةٍ تاريخيةٍ نادرة.. كان الإله مبتسماً لي.
بعدَ كأسينِ من النبيذِ وثلاث سجائرٍ اقتربتُ حتى غدوتُ ملاصقاً لها فاستنشقتُ شذى عَرَقِهَا الممزوجِ بالعطر.
حين أطبقتُ شفتيَّ على فمها تذوّقتُ بِرِيقِهَا طعمَ النعنعِ البري.
أمّا حينَ أخرجتُ نهدها من عرينهِ وتلمّستُ بأصابعي حلمتهُ السمراء الفتية اندلعت على الفورِ في عروقي نارٌ لم يُخمِدهَا التهامي لذينيكَ النهدينِ وما تيسّرَ من جسدها الاستوائي فكانَ ما كانَ لعلّكم تتخيلون.
بالنسبةِ للبعض، الشجرة مصدرٌ للأوكسجين.
للبعضِ الآخر، الشجرة مصدرٌ للغذاء..
بالنسبةِ للنجّارِ الشجرة مصدرٌ للخشبِ، ولصاحبِ المطبعةِ مصدرٌ للأوراق..
أمّا بالنسبة لشابٍ فقيرٍ في القرية، لا مكانَ يصحبُ إليهِ عشيقته..
الشجرة جنة.

__________
شاعرٌ وكاتبُ قصةٍ قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *