*خلود الفلاح
لم تكن الأمومة حدثا عابرا في حياة الكاتبات، هناك من كانت علاقتها بأولادها مربكة أو تعيسة كعلاقة الروائية البريطانية دوريس ليسينغ بابنها، ورغم علاقة الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث الإيجابية بأطفالها إلا أن مشاكلها النفسية كانت أكبر منها فانتحرت.
وهناك من قدمن كتبا كانت الأمومة حاضرة فيها، حيث قالت الروائية المجرية أغوتا كريستوف في كتابها “الأمية”، أطفالي هم من تكفلوا بجعل حياتي سعيدة، أسوأ من كان في حياتي هما زوجاي”.
والنجمة السينمائية النرويجية ليف أولمن في مذكراتها “أتغيّر” كانت ابنتها لين محورا رئيسيا لكتابها وكانت رفيقة رحلتها السينمائية، كما دار موضوع كتاب “حليب أسود” للروائية التركية أليف شافاق حول العلاقة المتشابكة بين الكتابة والأمومة وحول الدور الجديد الذي تلعبه هذه العلاقة في العملية الإبداعية.
أنانية الأمومة
تتساءل الشاعرة الأردنية نداء غانم “الأمومة أم الكتابة؟”، وتضيف “هو سؤال عصف في مرحلة ما بحياة معظم الأمهات الكاتبات. وأحسبه بلا إجابة حاسمة.
الكتابة والأمومة تورط لذيذ ومرعب في آن واحد، عالمان لا يمكن معهما بلوغ النهاية. غرقت في كليهما بلا تخطيط مسبق كما هي عادة الحياة معي حيث تسير بي إلى ما هو مقدر في عالم الغيب.
فالكتابة فعل ذاتي أناني يهوى العزلة، والأمومة فعل بذل مستمر بلا نهاية وتضحية بالذات من أجل ذاتك الصغيرة حديثة الولادة، لذا حين وصلت لحظة الأمومة هزت عرش الكتابة. وهنا أتفق مع الكاتبة والروائية أليف شفق حين قالت: “وقد صرتُ أُمّاً وربّة منزلٍ، فلن يعود بإمكاني كتابة الروايات. مثل سجّادةٍ قديمةٍ، سُحِبَت شخصيتي القديمة من تحت أقدامي”.
وتتابع ضيفتنا “أصبت باكتئاب الولادة كما هو متوقع، ثم عملتُ على تسخير الأمومة بتفاصيلها من أجل الكتابة. ومع ذلك ظل الصراع بينهما قائما؛ فتارة تتغلب الأمومة على الكتابة وتارة أخرى العكس. أدرك الآن أني لا أملك الرغبة في حسم الصراع لصالح أي منهما، بعكس أليف شفق التي حسمت صراع ذواتها المتعددة على حد قولها لصالح الكتابة فعبرت عن ذلك بالقول: “أعتقد أنّ في كل واحد منّا، سواء أكان امرأة أم رجلا، أصواتًا داخليّة متعدِّدة، فعندما نخرج إلى المجال العام نقدِّم أحد هذه الأصوات إلى الواجهة، أنا اخترتُ الكتابة أحد هذه الأصوات منحازة إلى‘عقلي’ ضدّ ‘الجسد’، والثقافة ضدّ الأنوثة والأمومة”.
تجربة الشاعرة التونسية هدى حاجي مختلفة، فهي أم لثلاثة ذكور مستقلين، وحسب قولها “هم من يحاولون دائما الابتعاد عني والانشغال بأصدقائهم وألعابهم وعوالمهم المختلفة عن عالمي المحبب الذي هو البيت. لا أحد من أولادي الثلاثة يحبذ البقاء معي. إنهم منخرطون كليا في أنشطتهم المتنوعة”.
من جانبها تقول الروائية التونسية رشيدة الشارني “ليس أروع من إحساس الأمومة لدى المرأة، المعاناة أثناء الحمل وتجربة المخاض تمنحان الأمّ الطاقة، وتقويان عزيمتها وتوازن روحها، وحدها هذه العاطفة المتدفقة بإمكانها أن ترمّم المرأة وتجدّد أحلامها وتبعثها مكللة بلذة الخلق، الأمومة امتلاء بشيء من الذات الإلهية والأبناء هدية كرّم بها الله الأنثى. من هنا كان مفهومي للأمومة وتقديري لها. دوري كأمّ كان دوما قبل مهمّتي ككاتبة والمسألة كانت محسومة عندي منذ البداية ‘لا مجال للتقصير أو الإخلال أو التنازل مقابل الكتابة’. ابني كان ومازال فوق كلّ اعتبار. حاجته إليّ وهو طفل أكبر من حاجتي إلى الكتابة ومع ذلك كتبت عددا من قصصي الأولى وأنا حامل وكتبت البعض الآخر وطفلي رضيع، وكثيرا ما قرأت وهو بين أحضاني مع العلم أنني أقوم بأعباء البيت بمفردي ولم أكن امرأة مرفهة”.
تتابع الشارني “الأمومة لم تعقني ولم تبلّد مشاعري ولم تلهني عن المرأة الأخرى التي في أعماقي، على العكس أيقظت ينبوع العطاء لديّ واكتشفت عوالم مدهشة من خلالها وخاصّة خصوصياتي كأنثى، بالإضافة إلى وجود تشابه كبير بين الكتابة والأمومة، كلاهما لحظات متفجرة من العاطفة ومشروع بناء وهوس وانشغال.
وتضيف “إنّ ما يعيق المرأة حقا عن الكتابة ليس الأمومة وإنّما استمرار الموروث الثقافي في الحثّ على استغلال جهدها وإهدار وقتها وتدمير حسّها الجماليّ واعتبارها خادمة من واجبها كلّ شيء والتشكيك بقدراتها واحتقار إنسانيتها وسرقة إنتاجها في حالات كثيرة. وللأسف المرأة تساهم في تهميش الذات المبدعة التي في داخلها فتصمت لسنوات طويلة تحت وطأة هذه الظروف الشاقة وهذا ما يفسّر قلّة إنتاج المرأة الكاتبة مقارنة بالرجل. لذلك تختفي العديد من الكاتبات المتميّزات قبل أن تتبلور تجاربهن.
ومن الغريب أننا لا نجد بحثا واحدا يتناول أسباب صمت النساء المبدعات مع أنّها ظاهرة لافتة. الموهوبات الأصيلات فقط تقويهن الأمومة، ويعدن إلى عوالمهن الخاصة جدا مهما طال الصمت”.
ولا تعتقد الشاعرة الليبية حنان محفوظ أن الأمومة عائق لأي حلم أو طموح خصوصا لحظة قدوم الطفل الأول حيث تكون الكاتبة في حالة انتشاء، و”خاصة عندما تكون الأم قارئة من الدرجة الأولى في فترة الحمل. أنا شخصيا أشعر بأن طفلي”محمد” كان دافعا لي للتعبير والابداع حتى لو مارست مطاردته اللذيذة المضحكة”.
سرقة جميلة
ترى القاصة الفلسطينية أنوار الأنوار أن الأمومة ربما سلبتها أوقاتا كثيرة من العزلة وحالت دون نشاطها أحياناً أخرى، لكنها وهبتها فرصة مدهشة لرعرعة أفكارها وكتابتها عالما واقعيا ينصف رؤاها.
تقول “منذ اللحظة الأولى لميلاد طفلي، وإذ أضمّه إلى صدري وأسنده بذراعٍ تحمل بين أطراف أصابعها كتابا، وأستعين بذراعي الأخرى لأقلب الصفحات مرة وأداعب وجه طفلي مرات، وإذ تمتزج مناغاتي له بصوت فيروز أو موسيقى بيتهوفن، أراها اختبارا حقيقيا لإيماني بالإنسان وبالمستقبل والحياة”.
وتضيف الكاتبة “أمومتي كما كتابتي وكما عملي مربية للأطفال ومحاضرة ومرشدة للمربيات، كانت ومازالت مرآة مؤثرة في رسم عالمي البديل لما أرفضه في المحيط الذي يصر على القبح والعمى وثقافة الموت، بأن أنشئ أبناء مغايرين فأغرس أفكاري وأسقيها برعايتي لخلق حديقة تزهو فيها كائناتٌ جمالية متنوّعة تحتفي بالحياة والحبّ والشعر والفكر والموسيقى”.
تتابع ضيفتنا “يوم تعرضتُ لتهديداتٍ كادت تودي بحياتي وغادرتُ بيتي وجهود عمري والذكريات، لم أحمل معي إلا أطفالي إيمانًا بالمستقبل الحيّ ونقضًا لثقافة الموت المتشبثة بالماضي والغياب، فألهمَتني حالات حبّ رسمت نصوصي التالية.
ربما بدوتُ أحيانًا أقرب إلى علياء المنذر التي لم تتفرّغ تمامًا لموهبتها، لكنها منحتنا فريد الأطرش وأسمهان. حين يكنّيني البعض من أصدقائي الكتّاب بأمّ العصافير والكلمات، أبتسم. وكلّما فرَد أحد عصافيري جناحيه حرًّا، أتذكر أنّي منذ أوّل الزغب نسجتُ ريشاته بالحبّ وتهاليل الجمال، ومع كلّ سقسقة غرستُ في قلبه أشجار رؤى لا تخنقها الجدران. علمتهم أن الحق أن يبحث أحدنا عن إلهه فيه، وأن يعتنق السؤال دينا، والشعر سبيلا، والموسيقى دربا، والضمير رفيقًا، كي يدرك إنسانَه المنشود”.
أرضعتُهم أنّ الأسقفَ خائنةٌ وأنّ صداقتَها دربُ العمى، وغنّيتُ في كلّ تهليلةٍ غناءَ عشق الأفق رحبًا، وابتسمتُ في كلّ لثغةٍ إذ أراهم يهشّمون أفكار القبيلة، ويتحررون مني قبل سواي، ويسبقونني لغةً وفكرًا وانطلاقًا، يرتّلون آياتِ السؤال ومزاميرَ الحبّ الملهمة، ويكتبون أناجيلَ الحرية المتمرّدة عليّ، مظفرة بتجارب خضناها معًا، بعيونٍ تتمسّك بإشارات الاتّساع.
وتؤكد ضيفتنا “نعم سرقت مني الأمومة أوقاتًا وجهودًا وفرَصًا من حرية ممارسة الكتابة، لكنها منحتني إحياءَ قناعاتي واختبارَها لرؤيتها حديقة يانعة من النماذج الإنسانية المتعددة حرة ومسؤولة. في الأمومة فرصة للاحتفاء بالحياة وخلق عالم أصدق، فما قيمة أن نكتب أفكارنا للآخرين إن كنا غير قادرات على منحها الرعاية الكاملة لتغدو واقعا حيا نابضا؟ هي امتحان رؤانا وأفكارنا وذواتنا أمام محك الحقيقة لئلا تكون الكتابة انفصالا ولا انفصاما عن معاني الحياة بل تكاملا بها، ولأن الأمومة كما الكتابة فعل خلق، فقد سعيتُ لإحالة قيدها إلى إمكانيات مساءلة قناعاتي المتجددة، وتنشئة كائناتٍ تحمل نواة إنسانيتها وتتزود بتعدد سبل إغنائها لتبدو الحياة أصدق النصوص تدفقا. كان التحدّي وما زال صعبا جدا ومرهقا، لكنه لم يعرف المستحيل أبدا”.
بناء المجتمع
من جانبها تقول القاصة السورية ماجدولين الرفاعي تفاعلا مع موضوع الأمومة والكتابة “أولادي هم أجمل الروايات التي كتبتها بكل فخر وما زلت أعتز بإنجازاتي العظيمة. فبناء المجتمع لا يقل أهمية عن الإبداع في مجالات القص والشعر والرواية. وفي الحقيقة فإن وجود الأطفال في حياة الكاتبة يؤثر على إبداعها بشكل كبير ويضغط على أعصابها؛ فالطفل بحاجة إلى تفرغ ورعاية تامة، قد يقول البعض إن بإمكان المرأة تنظيم أوقاتها حتى تستطيع الكتابة؛ قد ينجح ذلك عندما يتجاوز الطفل سنته السادسة ويبدأ بالذهاب إلى المدرسة. وإجمالا فإن تربية الأبناء رسالة نبيلة لا يجب التقليل من شأنها؛ فالأمهات النبيلات هن اللاتي أنجبن وربين عظماء التاريخ”.
وتتابع ضيفتنا “لا أظن أن تجربتي يمكن أن تعمم فقد تزوجت صغيرة وعشت فترة طويلة متفرغة تماما للبيت والأولاد، فأنا أم لخمسة أبناء تفرغت لهم وأعطيتهم كل الوقت والرعاية والاهتمام وخاصة في فترة الشهادات الحساسة والمفصلية التي تحدد توجهاتهم وشكل مستقبلهم، وبعد ذلك بدأت رحلتي مع الأدب والصحافة والإبداع وحتى مع العمل، فجمعت من المجد ما يجعلني راضية عن نفسي فأنا اليوم أقف في كل المحافل الاجتماعية والأدبية بفخر وأنا أتحدث عن نجاحات أولادي الذين حصلوا على شهادات عالية في الطب وطب الأسنان والتحاليل الطبية وصناعة الأسنان، وفي المقابل أستعرض إنجازاتي الأدبية في الرواية والقصة والسرد الأدبي والصحافة،وقد أصدرت ثمانية كتب، وهو ما يشعرني بالفرح ويحثني على المزيد من العمل”.
وتخبرنا ماجدولين الرفاعي بأنها كتبت روايتها الأخيرة – “وكأن اسمها سوريا”- وعندها أربعة أحفاد، وأنطولوجيا “عزف على وتر الغياب” أنجزتها وعندها 5 أحفاد وسادسهم في الطريق.
تختم القاصة قائلة “أنا فخورة بأمومتي بمقدار فرحي بإنجازاتي الأدبية لهذا أنصح المبدعات الشابات بألا يتأففن من تربية أطفالهن وأدعوهن إلى أخذ إجازة قصيرة إذا اقتضى الأمر”.
_____________________