كازو إيشيغورو Kazuo Ishiguro : روائيّ بريطاني يابانيّ المولد عرِف بحكاياته الغنائية المرهفة التي تحكي عن الندم المشوب بروح تفاؤليّة رقيقة و حاذقة.
ولد إيشيغورو سنة 1954 في ناغازاكي وغادرت عائلته إلى لندن سنة 1960 وهو في سنّ السادسة مع أخته الكبرى فوميكو على أمل أن يعودوا بعد عام إلى اليابان لكنّهم آثروا البقاء في بريطانيا ربّما هرباً من عار الهزيمة و لأنّ الحكومة البريطانيّة عيّنت والده كمختصّ بعلم المحيطات للعمل في بحر الشمال ، و يعلّق إيشيغورو على هذا بقوله : ( أهلي أرادوا الإغتسال من العار والهزيمة بالمسافة والضباب لكي لايتهدّموا كجدران ناغازاكي ) ، وبعد عشر سنوات من وصوله إلى بريطانيا توفيّ جدّه في بيت العائلة القديم في ناغازاكي حيث عاشوا مجتمعين وكان الجدّ يمثّل له الصلة الوحيدة باليابان ، ولم يزر إيشيغورو اليابان إلّا مرّة واحدة بمناسبة صدور الطبعة اليابانيّة لروايته ( بقايا النهار THE REMAINS OF THE DAY ) ، ثم تجنّب العودة ثانية لأنّه خشي أن (يقترف جريمة إكتشاف موت الجميع ) كما صرّح مرّة . حصل إيشيغورو على شهادة جامعيّة أوّلية من جامعة كنت عام 1978 ثم حصل على الماجستير من جامعة إيست أنكليا عام 1980 و عمل بعد تخرّجه في منظمّة خيريّة بريطانيّة تعنى بالمشرّدين و كان يستغلّ أوقات الفراغ المتاحة له في الكتابة .
أدهش إيشيغورو الناشرين البريطانيين وهو في الثالثة والعشرين عندما قدّم لهم روايته الأولى ( منظر شاحب للتلالA PALE VIEW OF HILLS ) الّتي تحكي عن الذكريات الأليمة لإمرأة يابانيّة في حقبة ما بعد الحرب العالميّة الثانية و محاولتها التعامل مع حقيقة إنتحار إبنتها ، و يقول إيشيغورو عن ذلك : ” كان لدى الناشرين نهم عظيم لهذا الطراز الجديد من النزعة العالمية في الأدب ، وكان النقّاد توّاقين إلى إكتشاف جيل جديد من الروائيّين بعد إستغراق المجتمع لزمن طويل في روايات تتحدّث عن النظام الطبقيّ الإنكليزي وزنا المحارم والخيانة الزوجية وغيرها ،،، أراد القرّاء جيلاً مختلفاً تماماً عن الجيل العجوز من الكتاّب البريطانيين ” .
حقّق إيشيغورو موازنةً بارعةً بين جذوره اليابانيّة وتربيته ودراسته البريطانية ولغته الإنكليزية وقد حبّبه هذا المزيج المثير من الثقافات إلى الناشرين البريطانيّين ، و يخبرنا ايشيغورو عن ذلك : ” منذ البدء قدّمت نفسي لهم بوصف محدّد أثار إنتباههم : أنا ياباني لكنّي لاأعرف اليابان معرفة عميقة ،،، أنا من ناغازاكي لكنّي لست عميلاً للموت ” .
آخر أعمال إيشيغورو رواية ( نوكتيرن NOCTURNES ) 2009 و ( نوكتيرن ) مصطلح موسيقيّ يعني (ليليّات ) وترجم البعض عنوان الرّواية إلى ( لوحات ليليّة ) وقد سبقت هذه الرواية روايته الضخمة ( لاتدعني أذهب أبداً NEVER LET ME GO ) التي حوّلت إلى فيلم سينمائي في 2009 و يتناول إيشيغورو في هذه الرواية الإشكاليّات الأخلاقياتيّة الّتي تترافق مع الإرتقاء الإنفجاري للهندسة الوراثيّة . كتب إيشيغورو سيناريوهات سينمائيّة وتمثيليات للتلفزيون وكتب ولحّن أغنيات لمغنّية الجاز( ستاسي كنت ) وحقّقت أسطوانتهما المدمجة المشتركة ( فطور في ترام الصباح ) أعلى مبيعات لآلبوم جاز في فرنسا . حقّقت رواية إيشيغورو (بقايا نهار ) شهرة عالميّة للكاتب وباعت في إنكلترا وحدها مليون نسخة ، وفازت بجائزة البوكر البريطانية لسنة 1989 ، وحوّلت عام 1993 إلى فيلم سينمائي بطولة النجم البريطاني اللورد أنتوني هوبكنز . حاز إيشيغورو على وسام الإمبراطورية البريطانية OBE وعلقت صورته في 10 داوننغ ستريت مقرّ الحكومة البريطانية ، وتحدّياً لنفسه بعد هذا التكريس الرسمي أدهش القرّاء بروايته الكبيرة ( من لاعزاء لهم ) – و قد صدرت بالعربيّة سنة 2005 عن المشروع القومي للترجمة في مصر – ، وهي رواية تعتمد إنهمارات تيّار الوعي على مدى 650 صفحة و تبدو مشاهدها الملتبسة مربكةً أحياناً وثقيلة الوطأة ومملّة وكأنّها كابوس يتشظّى ، وقد تعرّضت الرواية إلى هجوم قاس من بعض النقّاد الذين أربكهم أسلوبها لكنّ نقّاداً آخرين تصدّوا للدفاع عنها ووصفتها ( أنيتا بروكنر ) : إنّها بحق رائعة إيشيغورو .
يعرف عن إيشيغورو إنتقاده اللاذع للنزعة العسكرتارية اليابانيّة و يقول في هذا الصّدد : ” قادة اليابان وعجائزها الذين إستنهضوا غريزة الحلم العسكري والتفوّق الشوفيني قادوا البلاد إلى الجحيم ، و عندما إنتهت الحرب إنصرف بعضهم لترميم الخراب فيما إنتحر البعض الآخر،،، جدّي رفض أن يصحبنا إلى بريطانيا ،،، لم نقل له وداعاً ، وهذه محنة عذابنا ،،،كان لديه مفهوم آخر للأرض والوطن : حتّى الموتى يحمون الأرض من الرحيل أو من التفكك !! . بقي جدّي شاهداً على أنّ ناغازاكي لن تزول ، ولكن أليس جدّي واحداً من جيل العار ذاك ؟ ” .
تلعب موضوعة الانتحار دور ثيمة أساسيّة في اعمال إيشيغورو يقاربها بكثير من الرهافة غير المتوقّعة : ففي رواية ( منظر شاحب للتلال ) ينتحر ( أغاتا ) وفي رواية( فنان من عالم عائم ) ينتحر الرسّام العجوز ، و يعلّق ايشيغورو : ” لكنّ إنتحارهم جاء متأخّراً جدّاً : كان عليهم أن ينتحروا ساعة دقّت طبول الحرب فهم مسؤولون عن إلقاء اليابان في هوّة الجحيم ” .
يدين إيشيغورو في كلّ وقت ذلك الجيل الذي تغنّى بالحرب ومجّد الطيّارين الإنتحاريّين ( الكاميكاز ) ممّن ألقوا بأنفسهم وطائراتهم على سفن الحلفاء ، و لم يكن هؤلاء المبتهجون بالحرب والموت يأبهون بأنّ آلاف الأمّهات ثكلن بأبنائهنّ وماعدن ينتظرن عودة الإبن المجنّد . يعلّق إيشيغورو : ” هل يدري هؤلاء ماذا يعني أن تمضي الأمّ دون انتظار؟؟ معنى ذلك أنّنا نضع قنبلة موقوتة في قلبها ” .
الحوار التالي ترجمة لبعض الاسئلة المنتخبة مع إجابات إيشيغورو عليها و هي منقولة عن موقعين : الاوّل هو الحوار الذي أجراه موقع ( BOOKBROWSE ) مع إيشيغورو و يمكن الإطّلاع عليه في خانة الحوارات في الموقع ، و الموقع الثاني هو مجلّة ( باريس ريفيو ) المرموقة في عددها الصادر ربيع عام 2008 .
____________ الحوار * لنبدأ من واحدةٍ من رواياتك الأحدث : لا تدعني أذهب أبداً . كيف بدأت في حياكة نسيج هذه الرواية ؟
– خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة واظبت على كتابة قصاصات تحكي كلّ واحدة منها عن جزء من قصّة حول مجموعة من الطلبة الإنكليز الذين يحيون حياة غريبة في بيت ريفيّ أقرب إلى بناءٍ متداعٍ في أطراف الريف الإنكليزيّ . لم أكن أعرف عن هؤلاء شيئاً بإستثناء أنّهم مجموعة غريبة من الطلبة الذين يتجادلون دوماً حول الكتب التي يقرأونها و بعدها ينغمسون في كتابة مقالةٍ ما ، و كان ثمّة علاقات عاطفيّة تجمعهم و لم يرد ذكر لأيّة مدينة جامعيّةٍ و لا أستاذ في المشاهد الروائيّة المدوّنة على قصاصاتي !! . إعتدت طوال حياتي على كتابة قصاصاتٍ مثل هذه و لو زرتني في مكتبي البيتيّ لرأيت على طاولة مكتبي الكثير من أمثال هذه القصاصات الورقيّة التي لا أعرف كيف سأجعلها تستحيل فكرة لروايةٍ يوماً ما . حصل مرّة أنّني كنت أستمع إلى المذياع و كان البرنامج الإذاعي يدور حول موضوع علميّ في التقنية الأحيائيّة و كان هذا إيذاناً لي لكي أغادر بعيداً فأنا لا أطيق أمثال هذه البرامج العلميّة و لكن حصل – و لدهشتي المفرطة – أنّني واظبت على الإستماع و قدحت في ذهني فكرة لِما سأعمله مع طلّابي المنزوين في كوخهم الريفيّ ، و هكذا خرجت برواية بسيطة في نسيجها الروائيّ و لكنّها تحكي عن الحزن الذي يبدو سمةً أساسيّةً ملازمةً للحالة البشريّة .
* تعدّ روايتك هذه من الروايات الّتي تحكي عن البؤس الملازم للحياة الإنسانيّة DYSTOPIAN ، كما تحتوي على عنصرٍ من العناصر المشكّلة لروايات الخيال العلميّ التي تتنبّأ بالفتوحات العلميّة المستقبليّة مثل ( عالم جديد شجاع ) ( الرواية الأشهر بين اعمال ألدوس هكسلي ALDOUS HUXLEY ، المترجمة ). هل راودك إغراء منذ بدء العمل في جعل روايتك هذه مستقبليّة التوجّه؟
– لم أجد نفسي أبداً واقعاً تحت ضغط الإغراء بكتابة حكايات مستقبليّة : أنا لست من مريدي أدب المستقبليّات و لا أحِبّ الكتابة عن تضاريس العالم المستقبليّ و لست امتلك ما يكفي من الطاقة في التفكير بالشكل الذي ستكون عليه السيّارات أو مقابض الأكواب في حضارتنا المستقبليّة بالإضافة إلى انّني لم أرغب يوماً بكتابة ما يمكن أن يفهم على أنّه نصّ يحمل شحنة نبوئيّة و كلّ ما ابتغيه دوماً هو كتابة حكايةٍ يمكن لكلّ فرد أن يجد فيها صدىً لجانبٍ من جوانب حياته . بالنسبة لروايتي يمكنني القول أنّ ثمّة ملمح إنسانيّ مأساويّ بالإضافة إلى شئٍ من مذاق ” الخيال العلميّ ” يمكن أن نتحسّسه في الرواية و لكنّني لا أراها مستقبليّةً بالمعنى المهنيّ لأدب المستقبليّات و أراها تنتمي إلى ما يجوز تسميته روايات ” التأريخ البديل ” من مثل : ما الّذي سيكون عليه العالم لو أنّ هتلر ربح الحرب ؟ أو كيف كانت صورة أمريكا و العالم ستبدو لو أنّ كينيدي لم يلاقِ حتفه إغتيالاً ؟ . إنّ روايتي تتحدّث ببساطة عن الشكل الذي كانت ستبدو عليه بريطانيا لو أنّ أمراً علميّاً أو إثنين حصلا بطريقة مختلفةٍ عّما حصلا به فعلاً.
* هل تبدو لك تجربةً مدهشةً عندما تكتب من وجهة نظر أنثويّة ؟
– لست أبه كثيراً لكون السارد في رواياتي شخصيّة أنثويّةً ، ففي روايتي الأولى المنشورة كان السارد إمرأة . عندما كنت يافعاً أعتدت على الإستعانة بساردين من ذوي خلفيّاتٍ شتّى : كبار سنّ أو ممّن يقيمون في بيئاتٍ ثقافيّةٍ متباينةٍ عن بيئتي الثقافيّة ، و ثمّة الكثير من قدرة الخيال في تخليق شخصيّاتٍ روائيّة كهذه و لا أرى انّ الإستعانة بإمرأة في السرد يشكّل إستثناءً من هذا بل أرى أنّ المرأة أقلً تطلّباً من شخصيّاتٍ ساردة ذات مواصفات غير أنثويّة .
* لم تزر اليابان مذ كنت في الخامسة لكنّك كتبت عن اليابان . أيّ طراز من اليابانيّين كان والداك ؟
– والدتي كانت سيّدة مميّزة بين بنات جيلها ولديها عادات وسلوكيات سيّدات اليابان في عهد ما قبل نشوء الحركات النسويّة . عندما أشاهد افلاماً يابانيّة قديمةً أجد ان تصرّفات النساء وطريقة حديثهنّ تشبه تصرفات أمّي وأسلوب حديثها : النساء اليابانيّات كنّ يستخدمن لغة تختلف إلى حدّ ما عن اللغة المتعارف عليها لدى الرجال ، أمّا في أيّامنا هذه فقد زالت الفوارق وتمازجت لغتا الرجال والنساء ، وقد فوجئت والدتي – عندما عادت لزيارة اليابان في الثمانينيات من القرن الماضي – وصعقت لدى سماعها البنات يتحدّثن لغة ذكوريّة !! . عاشت والدتي في مدينة ناغازاكي و عندما ألقيت القنبلة النووية كانت تقترب من الثلاثين وهي الفتاة الوحيدة بين أربعة أخوة ،،، دمّر الإنفجار منزلها وتهاوت أجزاء منه وأصابتها شظية من حطام الانفجار وبينما كانت تتعافى في البيت من اصابتها كان افراد عائلتها يساعدون في إغاثة الناس على الجانب الآخر من المدينة ، تخبرني أمي ان خوفها لم يكن من القنبلة النووية بقدر ماكان من الغارات الجوية المتتالية وهم مختبئون في ملجأ المصنع الذي كانت تعمل فيه ،وكانوا واثقين من الموت والقنابل تتساقط فوق رؤؤسهم ، أبي لم يكن يابانيا بالقدر ذاته فقد نشأ في ( شانغهاي )واكتسب ميزة صينية خاصة وهي مواجهة المصائب بابتسامة عريضة .
يتبع