وصلوا إلى المكان المخصّص لهم في الطرف القصي من المدينة الكبيرة. وصلوا من كل جهات الأرض، وعلى مقربة من البحر أقاموا. كانت اجتماعاتهم الطويلة مكرسة لقضية واحدة دون غيرها (ما يدفع إلى الملل في بعض الأحيان)، وحينما يستبدّ بهم التعب، يغادرون القاعة الفسيحة، يقتربون من الأمواج التي تتلاشى عند رمل الشاطئ، يتأملونها كما لو أنها تحمل رسائل غامضة من شاطئ بعيد يحفظه آباؤهم عن ظهر قلب.
في اليوم الأول تحدثوا عن مشاقّ السفر، عن المطارات ورجال الأمن، عن الدول الصديقة والدول غير الصديقة. في اليوم الثاني تبادلوا الذكريات، أكثروا من سرد القصص التي تدور حول التين والزيتون والعنب. في اليوم الثالث أطال الرجل القادم من المدينة الوادعة النظر إلى المرأة التي انفصل عنها حديثاً. كان يحاول وصْلَ ما انقطع، لأنه يشعر بالحاجة إلى امرأة في مثل هذا الطقس المملّ الثقيل. أدركت المرأة القادمة من المدينة الوادعة، ما يعتمل في نفس الرجل، فقد جرّبت ذلك في ليالي سهاده الطويلة، كان يلذّ لها جنونه المنفلت من كل عقال، لم تتذمر من نظراته النهمة، كما لو أنه يراها للمرة الأولى.
في اليوم الرابع احتدم الخلاف بينهم، تناثر الكلام حتى اختلط رذاذه برذاذ الماء على شاطئ البحر القريب، كان السبب عائداً إلى بحر بعيد في الأذهان. (في حمى الخلاف، تعطل الاجتماع، وجد الشعراء المغمورون فرصتهم المنشودة لإلقاء أشعارهم غير الطازجة على أناس يتثاءبون من شدة البطالة والإهمال غير المقصود الذي وجدوا أنفسهم فيه)
في اليوم الخامس يعاني كبيرهم الذي لم يعلمهم السحر (أصبحوا واقعيين، فما حاجتهم للسحر إذن؟) من إرهاق مفاجئ، سببه السهر المضني من أجل العثور على صيغة يقبل بها القادمون من كل أطراف الأرض، (لا ننسى بطبيعة الحال ذلك الذي ينام الآن مع مطلقته في غرفة الفندق بعيداً من صخب المجتمعين، منوّهاً بين الحين والآخر وهو يلثم شحمة أذنها الطرية، إلى أنه كلما توغل في متاهات جسدها اكتشف أسراراً ما كان على علم بها من قبل، تزداد تألقاً في لعبة كشف الأسرار، تغتنم الفرصة المواتية للحصول منه على تنازلات ما كان يمكنها إحرازها في غير هذا الموقع) ينقلونه إلى قسم الإنعاش في المستشفى، ولا يعود المجتمعون إلى مواصلة أعمالهم إلا بعد أن اطمأنوا إلى أنه اجتاز مرحلة الخطر، وهو الآن يتماثل للشفاء وسط عناية مشدّدة يمارسها في الليل والنهار أطباء مهرة وممرضات ماهرات.
في اليوم السادس تبادلوا العناوين التي تساعدهم على تحمّل المنافي البعيدة.
في اليوم السابع توصّلوا إلى اتفاق حول الهدف الذي اجتمعوا من أجله. تجمهروا في الصالة التي لا يفصلها عن البحر سوى شارع وعشب على منحدر ورمل على شاطئ نحيل. نصبوا حلقة للرقص كأنهم في واحدة من القرى النائية التي شهدت ليالي مراهقاتهم الشرسة، توجّهوا بالنداء إلى زوجة القائد الذي لم يقتل بعد كي تشاركهم رقصهم (هذه إضافة جديدة لم تشهدها سهرات الأعراس في تلك القرى)، (بطبيعة الحال، فإن للمنفى أحكامه وسننه).
تتقدّم الزوجة إلى مكان الصدارة في أول حلقة الرقص، ترفع ساقها بتؤدة ووقار، يهتزّ الجسد الرصين، يندلع الرقص كأنهم جميعاً في مهرجان. تتوقف الزوجة عن الرقص بعد أن أطلقت شرارته الأولى، تبتعد نحو الركن الذي يقف فيه ( ضاد ) واجماً مشدوهاً، متسائلاً بينه وبين نفسه: إلى أين تمضي بنا السفينة؟ (ما دام البحر قريباً فلا بد من سفن، ولو في الخيال) تبكي زوجة القائد بصمت، يقف الرجل الذي تصالح مع مطلقته مهموماً مفكراً في خطة للتملّص منها، بعد أن التقى قبيل هذا المساء في ردهة الفندق، بامرأة قابلة لكل الاحتمالات، ولا يلبث (ضاد) بعد أن استحال مشهد الرقص إلى فولكلور معاد، أن يغادر الصالة متجهاً إلى البحر، يستحمّ في الموقع الخطر رغم التحذيرات التي تشير إلى ذلك، ثم يعود إلى الفندق الذي يشبه المتاهة، فلا يصل إلى غرفته الشبيهة بآلاف الغرف، إلا بعد الفجر بقليل.
______
*روائي وقاص فلسطيني
من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003