حبيبة الخضراوي*
عشقت حمامة سراج الحياة، لديها رغبة جامحة في أن تَعيشها ، تنعَم بحُرِّيتها ، تتلذّذ بجمالها وَتُعانقها بحُبّ . هل هي بطلة الرِّواية ؟ أم لا بطل في الرِّواية سِوى الأفكار ؟ فقد قسّمت الأدوار والأحداث بالتّساوي بينها وبين حنين وروحي٠
تُطَوِّح بنا الأفكار بين الواقعي والخيالي ٠تُحلِّق تارةً باحِثةً عن الذّات ” لِمَ الرِّحلة ؟ ٠٠لِمَ هي أصلًا ؟ ولِمَ كلّ هذه المشقّة ؟ عَمَّ تُراني أبحث ؟ ” وطورًا عن رِحلة الإنسان في الكون ” أيُّ عِلمٍ هذا الذي يدعوني الكون لِمعرِفته ؟ “
إنّها رِحلة الذّات تنشد الحُرّية ، الحُبّ والجمال أو هو التّحليق والطّيران ؟
وما الغريب؟ إنّها حمامة سراج ، تُضيء العالم ، تتوغّل في خبايا النّفس بالكتابة والحُبّ والموسيقى ” ما معنى الحياة من دون حُبّ ، موسيقى ، قلم وأمان ؟ “
لِمَ اِختارت حمامة سراج الطّائرة إطارًا مكانِيًّا ؟ رُبّما لِتجمع شخصيّات مُتعدِّدة ، قريبةً منها حدّ التّماهي ، حنين وروحي ٠
حنين أضاعت الواقع فارّةً إلى الماضي ” ابن سيناها ” إدمانها المجنون ” أيُمكن أن يكون فارِسًا كما
تخيّلته ؟ حاذقًا للفلسفة والطِّب ؟ ٠٠ فلسفة الحُبّ ٠٠ وطبّ الأفئدة ”
حُلم رومانسي داعب كيان العديد من الفتيات العربيّات فافترس أعمارهنّ ” عيناه تحملان سحر الشّرق وخيباته وجمال الغرب واِنتصاراته ” رجل يجمع بين الأصالة والتّحضّر ، أسقطت حنين أحلامها عليه
فعانت الخيبة والضّياع .
حلمت برجل إستثنائيّ ” يوقظني صباحًا على باقات الزّهور وترنيمات فيروز ” صادقًا وفيًّا ” يزداد حبّه حتّى بعد أن تشحب بشرتي وتُفارق المياه نضارة جسدي “، ” يهبُني حُضنه مدى الحياة “
والرّومانسي كثيفٌ في الرّواية ، يُخلّصُنا من هموم الواقع فلقاء حمامة سراج مع صديقتيها يكون في البحر ، بحر الشّوق ، بحر العاشقين ” تجلس قُبالة البحر لِتشهد لحظات هيجانه وسُكونه ” ولِتنسى روحي جُروحها ، جُروحٌ كانت بسبب صِراع مُتواصل مع الإدارة ، مُدير العمل الذي اِستغلَّ إخلاصها وتفانيها لِيُحقِق مطامحه الشّخصيّة ٠٠ مُرٌّ تجرّعه العديد من النّاس ” مصير الكثير والكثير يعيشون مظالِمَ لأنّهم صادقون ، مُخلصون في العمل وغير مُنافقين “
صراع مع رئيستها في العمل ، صراع الصّفاء والصِّدق مع الكذب ، القُبح والأنانيّة ٠٠
إنّ الرِّواية تُثير الشّجون ٠٠ آه ٱه ثمّ آه من الإدارة التّونسيّة٠
متى تتخلّص ممّن لا حُلم لهم إلّا الإستغلال؟ ” إنّهم سوس ينخر مستقبل بلادنا الحبيبة”
صداقة حميمة جمعت حمامة سراج ، روحي وحنين لِتكون الواحدة مرآةً للأخرى ٠لكن القارئ يتساءل أليست الشّخصيّات الثّلاث مرآةً للرّاوية؟ فيظنّ أنّ الرّواية سيرة ذاتيّة ، فهاهي قابس تتجلّى بجمالها، بنخيلها بحرها وطيبة سكّانها ٠
فما أجمل صورة الأب الصّامد المناضل ” مُتصالح مع الحياة والأقارب والجلسات والفُسحة والفنّ
نموذج للرّجل التّونسي المُناضل ، المُتسامح ، العاشق للحياة . رحل بنا إلى حرب التّقسيم ، ذكّرنا بحُلم الوحدة العربيّة ٠
أمّا الأمّ فهي نبع الحنان والدّفء ” ضمّتني بذلك الحنان الذي لا يُنسى”
وتتجلّى قابس بهمومها ومآسيها ” كم تحمّلتِ يا بلدتي ويا واحات بلدتي ، ها أنّك تستنشقين السّموم يوميًّا”
لكن روافد الكتابة عديدة فيحتار مُتصفِّحها ، هل هي رمزيّة؟ تُذكِّرنا بالغريب لكامو والسّد للمسعدي أم أنّها مجموعة خواطر ؟ جسّدت آلام إمرأة وأحلامها فأثارت الرّاوية مشكلة العنوسة ” ألم قادم في طبق من الوحشة يُهدّد أمني وسكوني ” وعلاقة الرّجل بالمرأة ” مُتناسيًا أنّ منافذ الأحرار تُجاوَر وتُصادق ولا تخضع للغزو”٠٠٠
أم أنّها واقعيّة ؟ فالثّورة وتداعيّاتها تتخلّل أغلب فُصولها ” الطّريق ما زالت طويلة كي نتعلّم الدّيمقراطيّة ونُعانق معنى الحُرّية ” وما أجمل ذلك البحّار عندما يصدح بصوته دون خوف ” نهار كامل يبلّطوا علينا بنعملوا على من اِتجدّ هاذي ؟ “
أم أنّها خياليّة؟ ترحل بنا إلى عالم الخُرافة حيث متعة الخيال والعبرة في حكاية الأمّ لِروحي ” حبّ اللّؤلؤ في عراجينه “
مزيجٌ غريبٌ من روافد الكتابة يُثير قضايا مُتنوّعة جسّدته شخصيّات تاريخيّة ، ابن سينا ، أرخميدس.
خياليّة اختيرت لها جنسيّات عديدة ، التّونسي ، المصري ، التّركي ، الفرنسي وحّدتهم الرّاوية في شغفهم بالموسيقى ، الكتابة والجمال كأنّها تبحث عمّا يجمع الشّمل بعيدًا عن التّناحر والصّراع ، فقد سئمنا السّبّ والشّتم ٠ مللنا تبادل التُّهم ٠٠
أليست الكتابة انعتاقٌ وحُلم ؟
هذا المزيج اللّذيذ كُتب بلُغة فيها العامّي والفرنسي وجماليّة القُرآني إلّا أنّ اللّغة بعد أن تُحلِّق بعيدًا تشدّها أوتاد تنافر الألفاظ ” أدوات الأحاسيس” ، ضعف الصّورة ” جلبناه معنا يوم وُلِدنا “.
كذلك أثقلت كاهل الرّواية التّفاصيل مثل حادثة اِنتقاء الثّياب في تركيا، لم تُساهم في تطوّر الأحداث بل أكّدت فكرة مبثوثة في الرِّواية ، الشّعور بالتّميّز .
والتّسرّع ، فعندما تصف القارب الصّغير بما يحتويه وهي في الطّائرة يبدو الأمر غير منطقيّ لذلك تستدرك الرّاوية لِتُشبّهه بالحُلم ..
كما أنّ مشهد المصريّين وهم يعزفون ويُغنّون في الطّائرة غير مقبول ، حتّى مدّة الرّحلة طويلة جدًّا لا تنسجم والإطار المكاني . ليت الرّاوية اِنتقت مكانًا آخر غير الطّائرة لِينسجم مع الإطار الزّماني والأحداث مثل الباخرة …
وقعت الكاتبة في التّكرار والإعادة فلقد تعرّضت إلى علاقة حنين بابن سيناها عدّة مرّات لكن يشفع لها أنّها بداية التحليق في عالم الرّواية السّحري .
رغم كلّ هذا تظلُّ الرّواية كوكتيلًا لذيذًا وعطرًا من الغِلال يُقدّم لك في أفخر طبق وأجمل زينة عل ىشاطئ بحر الأحلام .. في رواية “أنا وروحي وحنين “.