هَوايَ هذا اليــوم فـيروزي

*سعيدة تاقي

لا تلمن/تلومـوا هوايَ إن أتمتن/ـم قراءة المقال،
لُمْن/لوموا الأحرف التي أغوتكن/ـم بالمتابعة نحو الأسفل،
حيث توقيعي يعلو بي و بفيروز فوق اللوم بكثير من شدو الكلام.

“أمس.. انْتَـهَـيْنا…”
بالأمس القريب كانت كل الكلمات التي يغصُّ بها القلب تبحث لها عن مُتَنَفَّس ما حَسَب قدرات الإنسان على التنفيس و التنفس. كان الإبداع أو الكتابة شأنا محصورا في قلة تلوك حقها في “أن تكونَ” بما تمتاز به عن الآخرين. و كانت اللغة/النغم/اللون/الطين أداة طيعة تمنح تلك القلة القوةَ و السلطة و الفسحات الممتدة. و كان على السواد الأعظم أن يبدِع مسالكَه في دفع تلك الغُصص عن القلب و الحنجرة و الروح. اليوم تغيَّـر الحال غَدَتِ الجدرانُ الزرقاء (باختيار مارك زوكربيرغ) فسحةً متاحة لا تشملها الضريبة على القيمة المضافة، و لا يلحقها موسم التخفيضات، و لا تكبِّلها تعاريف أو قيود أو جمارك.
“هي رحلة في مدى النسيان” لا تبحث في عمق الذاكرة و إن أصرَّ “صاحبُ الوَعد” على التذكُّر و التذكير، بل تصْنَع ذاكرة مغايرة من كيـبورد وإنـترنت و شاشات و تحديثات و إيقونات لا حد لتحليقها. فعلى تخوم الواقع تُـشيِّد حياةٌ جديدة وجودَها. لكنها لا تكتفي بمفاصل الأمس القديم. إنها تترك ذلك الأمس جانبا و تُحـكِمُ على العُـشّـاق/الكُـتَّـاب الجدد عُرى حاضر يعيش الغـد قبل الـيوم، افـتراضاً و واقعاً.

“الله معـك يا هَوَانا…”
تتعدد سماوات أهل السَّهَر. و لا تسقط النُّجوم، تظل هناك لكي يبقى الكلامُ عطرَ كلامٍ، يغازل الذاكرة و يستجدي الشِّعر و ينبِـتُ بين مَفارق أهل الهوى أسماء عشق جديدة.
تكتب صديقـتي على جدارها:
“كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة
وجدنا غريبين يوما.
و كانت سماء الربيع تؤلف نجما … و نجما
و كنت أؤلف فقرة حب..
لعينيك.. غنيتها!
أتعلم عيناك أني انتظرت طويلا
كما انتظر الصيف طائر
و نمت.. كنوم المهاجر
فعين تنام لتصحو عين.. طويلا
و تبكي على أختها،
حبيبان نحن، إلى أن ينام القمر
و نعلم أن العناق، و أن القبل
طعام ليالي الغزل
و أن الصباح ينادي خطاي لكي تستمرّ
على الدرب يوما جديداً!
صديقان نحن، فسيري بقربي كفا بكف
معا نصنع الخبر و الأغنيات
لماذا نسائل هذا الطريق .. لأي مصير
يسير بنا ؟
و من أين لملم أقدامنا ؟
فحسبي، و حسبك أنا نسير…
معا، للأبد
لماذا نفتش عن أغنيات البكاء
بديوان شعر قديم ؟
و نسأل يا حبنا! هل تدوم ؟
أحبك حب القوافل واحة عشب و ماء
و حب الفقير الرغيف!
كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة
وجدنا غريبين يوما
و نبقى رفيقين دوما”
محمود درويش
فيينشر صديقي إياه، و أنا أعلم المياه التي تجري في الجداول بعيدا عن الجدران الزرقاء:
“أتراها تحبني ميسون … أم توهمت والنساء ظنون”
و يوقع البيت: نزار قباني.

“بَـيْتِي أنا بَـيْتك…”
بالأمس كان النص يأتي دون مواعدة مسبقة مع الجدران الزرقاء. لم يكن يختار عتبات محدَّدة. كان يكتفي بالأوراق بيضاء صافية أو هوامش هنا أو هناك ليعلن حضوره. أحيانا كانت مناديل المَطعم في ذلك الفندق المطل على البحر المتوسط كافية لانتشال قصيدة كانت على وشك الغرق بين تحيات و زكيات اللـقاءات المُفْحِمة. و أحيانا كان الموعد مُـبَـيَّت النية و الخطة سلفاً؛ كان لابد لنقرات الراقصين العشرة على المفاتيح و لنغمات موسيقى ما توشِّح صمت الفضاء كي يُطلَّ النص من حيث تدري الكلماتُ وحدها أصلَ الحكاية و منتهاها.
اليوم قد يأتي النص بسابق موعد و قد لا يأتي.
في زمن بين الأمس و اليوم ترفَّـقْـتُ بالكذب المغموس بالكثير من البياض، وشيَّدْتُ لخطيئة اللقاء بالنص المُنتَظَـر مدونةً أسميتها “في حضرة الغياب”. كانت عتبةً لاحتضانه، لكنه ظل غائبا ذلك النص الذي انتظرتُه. و صار الكذبُ خطيئةَ خيانةِ النص الموعود.. كانت الخيانة قـدرَ الوفاء المُـشتهى للكـتابة. فالكـتابة وحدها أصدق من كل الخُطط الملوَّنة. و عبَـرَتِ المدونةِ نصوصٌ أخرى و لحظات افتتان مارقة من أزمنة أخرى غير الزمن الموكول للقاء النص الموعود.

“تَعَالا و لا تِجي…”
اليوم نص آخر يحضُر، في انتظار ذلك الجمــيل الأنـيـق المتـرَيِّث الذي تـلزَمه مواعيدُ و طقوس و احتفالات للقاء. لا يحتاج النص الآخر استعداداً أو إعدادا مطوَّلا. كبساتُ أزرار سريعة على لوحة مضيئة و رُبَّ نص سريع القذف سريع الانتشاء سريع الاستقبال، جاهز للاستدعاء دون حاجة إلى شبكة أو ربط أو فواتير شهرية، تكفي تطبيقاتُ الهاتف المحمول مشقة التحضيرات المبالغ في سيرتها و سريرتها و مسايراتها.
قد يأتي النص المارق في أي لحظة، لذلك الفضاء الأزرق فضاء ملائم لملاقاته أو لإعلانه، أو لتخزينه قصد استعادته لاحقا و ترويضه و تغييره.
العالم الأزرق ليس للنصوص السريعة فحسب، لكن بين جدرانه و رواده و مراوديه تكمن احتمالات عديدة لاقتناص نصوص/شذرات لم يكن القلم و بياض الورقة على كامل الأهبة لاقتناصها. و لم تكن مفاتيح النقر و خطوات الراقصين العشرة أو السبعة أو الخمسة بقادرة على احتساب توقُّعات المروق النَّافِـر.
بين الجدران الزرق يفي النص بوعده و يأتي دون ارتكاب خطيئة الكذب. يأتي دون سابق إعلان أو موعد أو تحضير. يتفتَّق بين يدي اليوم بلون فيروزي مثل هذا اليوم، أو بألوان أخرى تشذِّب جنوح الجدران إلى الكثير من الزرقة.

“شُو بيْـبَقَى من الرواية…”
كنا نلتقي النصَّ سابقا دون أصداء واسعة، دون أن يتلصَّص على المنشأ أحد. اليوم للنص بداية و مآل. له صدى و للصدى رجعه و آثاره. اللقاء بالنص الموعود لا يمر صامتا. في العالم الأزرق للنص الموعود المقـتَـنَص عنوة ـ بعيدا عن القلم و بياض الورقة و نقرات الراقصين على المفاتيح ـ بدوره عشاق و متابعين و معجبين. لكن مثلما تقدح الجذوة سريعاً ذات اشتعال، تنطفئ بهدوء و تذرو الريح بقايا الرماد. سريعا يأتي النص المَوعود و سريعا يطويه النسيان. “هي رحلة في مدى النسيان” من جديد رغم ذاكرة “صاحب الوعد”. هل من الضروري لما يأتي بسهولة أن يذهب بسهولة، أم في عمق الوفرة و الكثرة تضيع التفاصيل؟

“إذا رجعْـت بجن.. و إذا تركتكَ بشْقى…”
نسق الكتابة تغيَّر اليوم مثلما تغيَّرت الحياة، أو مثلما تحاول الحياة أو تسعى إلى أن تصل في تغيُّرها. لكن “الجديد له جِدة و البالي لا تفرط فيه”. فلا الجديد شمس دائمة لا أفول لها، و لا المعتاد قمر كامن في انتظار ما سيستعيره من ضوء الشمس.
قد تكون الطفرة التي ولَّـدتْـها عوالمُ الـوسائط المـتعددة و انفتاح فضاءات النشر و الكتابة و التدوين، مرتبطة أساسا بفكرة الحـرية و ما تمنحه من قدرة فردية على التحكم و التسيير و التوجيه دون “رقيب” أو استعلاء أشخاص آخرين. بيد أن ذلك لا يعني أن كل ما يُكتَب يستحق القراءة أو قد ينالها بالفعل إن استحقَّها. مثلما لا يعني أن النصوص التي تُنتَج بُذورها بين الجدران الزرقاء لا يتعسَّر مخاضها في هدأة العزلة بعيدا عن أعين الجدران قبل النشر الأزرق أو بعده.
الكتابة كل كتابة هي طور لاحق لامتلاء سابق. و الكتابة  يلين وُسعها أو يصلب وفق ما عركتْـه من امتلاء و تخصيب. لأجل ذلك النص المعرَّف بهوته النصية، في العالَم و ليس بين دفتي كتاب فحسب، لابد له من مسالك دربة و محن اختبار و مدارج تطويع.
النصوص التي نكتبها تكتبنا إذ نكتبها على الجدران الزرق أو بين جدران أخرى بألوان مغايرة. فـالنص بالتأكيد روح الذات الكاتبة و هي “توجَد” على قيد الكتابة. إننا نحـيا الحـياة داخل النـصوص، و تحيا النـصوص كذلك عبْرنا الحياةَ التي نرتضيها لها و نرتضيها لذواتنا الكاتبة و نحن نضعها قيد “الحياة” و “الكتابة” و “الوجود”.
هل بإمكاننا في هذا اليوم الفيروزي أن نكتفي بـالشدو: “أنـا عندي حنين”؟.

ـ روائية من المغرب.

__________
نشر بالقدس العربي.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *