دخلت بثوبها الأسود الطويل لكي تعزّي رجال العائلة بفقيد العائلة الكبير.
سلَّمت عليهم واحداً واحداً، قبّلت ذقون بعضهم، وقالت إنهم مثل أولادها. قالت إن موت المرحوم فتح في قلبها جرحاً قديماً. قالت إنه يكبرها بثلاث سنوات، وقد لعبت معه في حوش الدار وفي حقل القمح وتحت شجرة التين. وحينما بلغا سنّ الشباب لم يعد مسموحاً لها أن تتحدث معه أو تجالسه، كان على وشك أن يطلب يدها من والدها، لولا أمه التي أصرّت على أن تزوّجه من ابنة أختها التي تكبره بثلاثة أعوام.
تنهّدت بعد أن طلب منها رجال العائلة الكفّ عن هذا الكلام.
قالت إنها لا تستطيع أن تنسى، تتذكره الآن وهو يمتطي صهوة حصانه كأنه فارس الفرسان. قالت: ما تقول غير هالإشي صار امبارح، ثم تحسّرت على العمر الذي مضى مثل جرعة ماء.
جلست دون أن يطلب منها الرجال الجلوس.
هي المرأة الوحيدة بينهم. قالت إنها كانت جميلة في صباها، إي والله، جمالي كان يأخذ العقل، لكنّ أمّه كانت هي السبب. طلبوا منها أن تسكت وأن تطلب لروحه الرحمة. طلبت لروحه الرحمة ثم ذكرت اسم الله عدة مرات، وعادت تتحدث عنه بإصرار. طلبوا منها أن تغير موضوع الحديث، صلِّ على النبي يا حاجّة، اللهم صلِّ عليك يا نبي، انصاعت لرغبتهم فغيرت الموضوع. تذكرت زوجة ابنها الأصغر التي تتهمها بأن لها رائحة كريهة تفوح منها باستمرار. قالت إنها بنت ممسوسة في عقلها، أنا رائحتي كريهة؟ أنا؟ تذكرت بينها وبين نفسها كيف تعلق بها البائع الذي كان يجيء من المدينة لبيع الحلوى. ينهمك منذ لحظة وصوله في تأمل وجهها الصبوح، ولا يلبث أن يفصح عن مقصده، قال إنه يريدها بالحلال. قالت له إنها متزوّجة، فلم يتوقف عن تأمل وجهها، ظلت تتمنع عليه فلم يقنط من عطف قلبها عليه. أخبرها بصراحة متناهية بأنه يريدها، وأن قلبه متهالك عليها. طلبت منه أن ينساها وإلا فإنها ستخبر رجال العائلة، وآنذاك، لن يتبقى له سوى الترحّم على روحه الضالة.
خاف بائع الحلوى ولم يعد يتردد على المكان.
لم تكن زوجة ابنها قد ولدت آنذاك، لكنها جاءت إلى الدنيا بعد ذلك، وصارت تعيرها بأن لها رائحة كريهة، مع أنها تغتسل مرة كل أسبوع، وفي بعض الأحيان، تغتسل مرة كل ثلاثة أيام.
قالت للرجال الجالسين في بيت العزاء إنها تتألم من كلام الفاجرة الحمقاء.
قالت إن ابنها لا يفعل شيئاً إزاء هذا الكلام. أدرك الرجال أنها لن تكفّ عن الهذيان، اقترحوا عليها الانتقال إلى مجلس النساء. نهضت، سارت على مضض، قالت لنفسها بصوت سمعه كل الرجال: إنها تكرهني، أنا أعرف أنها تكرهني، بس أنا متأكدة أنه لو جاءها بائع الحلوى من المدينة مثلما جاءني وأنا في عزّ الشباب، لاتفقتْ معه دون تردّد على أن يخطفها من زوجها في الحال.
_________
*روائي وقاص فلسطيني
من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003