الفكر دواء الإرهاب

*د. سعيد توفيق

الإرهاب ظاهرة قديمة قدم الإنسانية، لأنها مفطورة في طبائع البشر من خلال غريزة الحرب والعدوان، وكلاهما متأصل في طبيعة الأنانية التي تدفع الفرد إلى الحفاظ على مصالحه الذاتية، وإن اقتضى ذلك العدوان على الآخر حينما تتعارض مصالح الآخر مع مصالحه الذاتية. هذا أصل حالة الطبيعة التي هي حالة الأنانية والعدوان التي تحدث عنها كثير من الفلاسفة، وعلى رأسهم توماس هوبز. لا تتوارى غريزة العدوان إلا في حالة تحضر الأفراد والأمم، حيث يتم إعلاؤها من خلال قيم إنسانية سامية.

***

ولكن العدوان والإرهاب تجاوز بمرور الزمان مصالح الأفراد إلى مصالح الدول التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة

لتحقيق تلك المصالح، وهذا أصل نشأة القوى الاستعمارية أو الإمبريالية التي بلغت ذروتها في العصر الحديث. تهيمن قوى وتتضاءل قوى أخرى بفعل تغيرات الزمان والأحوال، فالأيام دول، وهذا من طبائع الوجود. يحدث هذا على مستوى الأفراد مثلما يحدث على مستوى الأمم والشعوب.

***

اختفت الآن من عالمنا الصورة التقليدية للإمبريالية الممثلة في الاستعمار من خلال الحملات العسكرية التي تسعى إلى احتلال دول أخرى، ولكن بقيت حقيقة الإمبريالية متمثلة في صور أخرى لا تتخذ صورة الحملات العسكرية إلا عند الضرورة، ولكنها تُبقي على حقيقة الإمبريالية باعتبارها نزوعًا نحو الهيمنة والسيطرة على مناطق من العالم، بحيث يمكن ضمها إلى نطاق نفوذها من خلال وسائل أقل كلفة من الحرب.

***

لا يمكن لقوة عظمى أن تسعى إلى الهيمنة على مناطق معينة من العالم، ما لم تجد فيها نقاط ضعف تسمح بالهيمنة عليها، تمامًا مثلما حدث مع انهيار الإمبراطورية العثمانية التي سميت من قبل «بالرجل المريض»، وإن كان حال الهيمنة قد اختلف الآن، فإذا كان الحال وقتها قد اقتضى الانقضاض العسكري، فإن الحال المعاصر في انقضاض القوى العظمى على القوى الواهنة أو المريضة، لم يعد يقتضي كُلفة الحروب الباهظة، بل يكفي العمل على تفتيت القوى المريضة من داخلها، باستغلال عناصر ضعفها التي تسمح باختراقها وتصارعها من خلال إثارة النزعات العرقية والطائفية التي تؤدي إلى تناحرها من الداخل أو انتحارها بأيديها.

***

لا تتناحر الدول والقوميات من الداخل إلا حينما تضعف حضارتها، ولا تضعف حضارتها إلا حينما يضعف شأن الإبداع فيها الذي يشكل هويتها وكينونتها، وأوله الإبداع الفكري والفني فيها. فالفكر- كما الفن- يوحد ويربط، ويخلق هوية صلبة غير قابلة للاختراق، فضلًا عن أنه يؤكد ما هو مشترك وإنساني عام بين البشر، وهذا ما يجعله قادرًا على استيعاب وهضم كل ما هو دخيل أو حتى عدواني بحيث يذوب فيه دونما عناء. وكلما صاحب هذا الإبداع الفكري والفني إبداعًا علميًا، زاد ذلك من قوة الدولة وجعلها منيعة مرهوبة الجانب.

اشتغلت قوى العدوان على إذكاء روح العداء بين الطوائف المتصارعة من الداخل من أجل الدفاع عن العرق أو الطائفة أو عن الدين. ومن ثم، فإن الحرب أو العدوان يتخذ الآن صورة مغايرة تمامًا عما مضى، فلا سبيل لمواجهة ذلك كله إلا من خلال تغيير الفكر الذي يجعل الأقوام يقتتلون من أجل لا شيء، ولمصلحة الآخر الذي يتربص بهم ويستغل نقاط ضعفهم من أجل توسيع نطاق نفوذه وهيمنته.

***

ولكن إعادة إنتاج هذه الصورة الإمبريالية في قالب جديد لم تفلح مع ذلك، فلقد انقلب السحر على الساحر، وأصبح المارد الذي خلقته القوى الإمبريالية يعربد فيها باسم الإسلام أو المتأسلمين الذين لا علاقة لهم بالإسلام. ومع ذلك، فقد اقترن هذا الإرهاب باسم الإسلام. تلك حقيقة أصبحت يقينية، حتى إنه شاع الآن ما يُعرَف الآن باسم «الإسلاموفوبيا»! وهي حالة مشروعة في الغرب الذي لا يعرف مواطنوه شيئًا عن حقيقة الإسلام سوى ما يشاهدونه من أن ارتكاب جرائم العنف – بل المجازر- ينفذها أشخاص يزعمون أنهم يدينون بالإسلام!

***

تعبير «الإسلاموفوبيا» إذن تعبير مشروع لدى رجل الشارع العادي في بلدان لا تدين بالإسلام، ومن حق هؤلاء حتى أن يكرهوا الإسلام. ومن ثم، فلا سبيل إلى تغيير هذه الصورة النمطية المبررة التي وقرت في الأذهان عن الإسلام، سوى أن تتغير المجتمعات الإسلامية من داخلها. ولكن كيف يحدث هذا؟! كيف تطلب من الجسد الضعيف أن يقاوم من تلقاء ذاته. لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال الفكر بمعناه الواسع الذي يعني الثقافة التي تشمل الفن والأدب والفلسفة. وربما آن الأوان أيضًا لكي يدرك العالم كله: القوي فيه والضعيف، أنه لا سبيل لمواجهة الإرهاب إلا بالفكر، وان هذا الفكر هو السبيل الأساسي للحفاظ على سلام هذا العالم، وخاصةً سلام تلك الدول التي باتت تشعر بالتهديد وبأن الإرهاب باسم الدين أصبح يطالها في عقر دارها. وهذا ما ينبغي أن تستثمر فيه القوى العظمى جهودها، لكي تنعم بالأمن من خلال العمل على تحقيق معنى العدالة الكونية والقيم الإنسانية العليا التي يجب أن تدافع عنها، لا داخل أوطانها فحسب، وإنما خارج أوطانها أيضًا.

***

هذا هو مناط الأمر في عالمنا الراهن، فلا سبيل أمام هذا العالم كي يبقى سوى أن يدافع عن القيم الإنسانية، ولا بد أن نعترف بأن القيم السائدة في عالمنا الإسلامي هي قيم مشوَّهة، لا علاقة لها بالإسلام ولا بالأخلاق الإنسانية نفسها. إن الأمثلة على ذلك في حياتنا لا حصر لها، بدءًا من القناعات الفكرية المشوهة التي تُنتِج مظاهر سلوكية مشوهة، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر- اعتقادنا في أن هويتنا تكمن في كوننا مسلمين وكفى، وأن صفة «مسلم» التي تُكتب في بطاقة هويتنا كافية لتمييز هويتنا، بل لتمييزنا عن سائر الخلق أجمعين باعتبارنا نمثل «عالم الإيمان» في مقابل «عالم الكفر والضلال»، وكأننا لم نفهم شيئًا عن حقيقة الإسلام باعتباره دعوة إلى قيم إنسانية عامة مشتركة بين البشر، ولم نفهم شيئًا من قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم». ولهذا يعتقد عوام المسلمين في عصرنا الراهن أن الآخرين المختلفين عنهم في الدين هم كفار يجب قتالهم أو على الأقل معاداتهم، لأنهم لا يمكن أن يقيموا العدل وغير ذلك من القيم الإنسانية. في حين أن الواقع يشهد بعكس ذلك تمامًا، بحيث نجد أن القيم الإنسانية المتمثلة في عدالة الحكم وحرية الفكر وتقديس العمل والإتقان وغير ذلك، هي قيم سائدة داخل المجتمعات التي يسميها البعض «دار الكفر».

***

هذا الأصل في تماهي مفهوم «الهوية» مع صفة «إسلامي» هو منبع التيه الذي يعيشه الوعي الديني الضال في عالمنا الإسلامي. بل كان من نتائج ذلك أن هذا الوعي الضال قد أصبح منقسمًا على نفسه من داخله، فتفرق المسلمون شيعًا وطوائفَ، وأصبحت كل طائفة تعتبر نفسها الفرقة الناجية التي تحتكر مفاتيح الجنة والنار وصكوك الغفران بحسب تفسيرها المشوه والمغلوط لنصوص الدين، فراح هؤلاء يقتتلون باسم الدين الذين هم عن معناه غافلون، وعن مراميه ضالون. وهكذا ينتحر «المتأسلمون» من داخلهم من أجل لا شيء.. من أجل هوية مزعومة لا أصل لها إلا في خيال مريض وفكر ضال.

***

مناط الأمر كله يكمن إذن في الفكر أو الوعي بمعناه العام، فالوعي الحق هو الوعي المنفتح على العالم وعلى التجربة الإنسانية المعيشة التي يمكن أن يتعلم منها المرء على الدوام… إنه وعي لا يمكن أن يكون منغلقًا على نفسه أو متقوقعًا داخل تصور أحادي من صنع هلاوس أو خيال مريض لا صلة له بالعالم الواقعي ولو من بعيد… هلاوس تختزل الوجود في الدين، بل في تفسير مشوه للدين بما هو دين… تفسير لا يعي ما هنالك من قيم إنسانية نبيلة في كل دين، مهما تعددت الشعائر وسبل العبادة… تفسير لا يعي أن كل سبل الإيمان تسعى إلى الله أو غاية الوجود التي تتمثل فيها القيم الإنسانية العظمى. وهذا أمر يتعلق بالفكر والثقافة، أي بفهم معنى الدين ومكانته في حياتنا باعتباره ركيزة من ركائز تحقيق القيم الإنسانية، وهي قيم لا تتحقق من خلال الدين وحده، وإنما من خلال الفكر والوعي، ومنه الفلسفة والفن والأدب. إذا فهمنا ذلك حق الفهم، فسوف نفهم أن هويتنا لا يمكن اختزالها في الدين، ومن ثم سوف نعي أن هويتنا لا تعني معاداة أو نبذ الآخر المختلف عنا في العقيدة.

***

أعلم أن هذا الذي نتحدث عنه ربما يبدو بديهيًا في نظر المفكرين والعقلاء في أوطاننا، ولكن ظروف اللحظة الراهنة التي نعيشها تفرض علينا أن نتحدث في البديهيات التي غابت عن حياتنا، فأصبحنا نتحدث عن واقعنا الراهن مثلما كان يتحدث رجالات عصر النهضة الأوروبية في مواجهة حالة التخلف الفكري في العصور الوسطى الأوروبية التي هيمن فيها تفسير خاطئ للدين على الإبداع في العلم والفكر والفن. وبذلك فإننا نعيش نفس اللحظة التي كانت تعيشها أوروبا منذ أكثر من خمسمائة عام، وإن لم نتدارك هذا الأمر، فسوف تتسع المسافة الزمنية بيننا وبين العالم المتحضر، ليس في أوروبا وحدها أو العالم الغربي عمومًا، وإنما أيضًا في العالم الشرقي في اليابان والصين وجنوب شرق آسيا، وسوف نصبح أقوامًا تعيش خارج التاريخ كما ذكر ذلك فوكوياما وغيره من المفكرين المتفلسفين حول تاريخ الحضارات، مهما كان لنا من مآخذ على نظرياتهم وتوجهاتهم.
_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *