قيل اذا لم تعرف نساء بلد ما فكأنك لم تعرف شيئا عنه ، وقيل ايضا إذا لم تقرأ شعر مدينة ما فكأنك لم تزرها ، وما لم تتعرف إلى أحلام أهلها في قصائدهم فكأنك تجوب مدينة لا ينتابها عشق ولا يمسها حزن وكأنك لا ترى غير حجارة مصمتة .
سألت أحد موظفي الفندق في نيقوسيا عن أهم شعراء قبرص “كرياكوس كارالامبيدس”، فقال إنه سيسأل أحد زملائه العاملين في الفندق فذاك شاعر ومدمن قراءة ،اختفى برهة ثم جاءني بورقة مكتوب عليها بالإنكليزية “هو شاعري المفضل لأنه حارس الروح القبرصية ومجدد الشعر اليوناني المعاصر،لا أملك كتبه بالإنكليزية وإليك كتابا عنه”.
رفاق الرحلة لا يستيقظون قبل الحادية عشرة ، جلست أحتسي القهوة وأقرأ عن الشاعر الذي يعد الأبرز في الثقافة اليونانية القبرصية وتتردد قصائده في الغرب وهو عاشق للثقافة الغربية دون أن يتخلى عن ينابيع التاريخ الثقافي اليوناني التي تغذي وجوده و ذاكرته وشعره ، يذكر اسمه إلى جانب كافافيس وايليتس وجورج سيفيريس، شرعت أقرأ قصيدة ( موت في الإسكندرية ) لأني لم أجد قصيدة حب سواها وهي عن حب مختلف، ،لعل الشاعر أرادها مرثية لكافافيس أو ليؤبن شاعرا يونانيا آخر عشق الإسكندرية واللغة العربية وفضل أن تكون كلمات تأبينه بالعربية :
“بعد شهر من رحيله ألقيت الكلمات باليونانية والفرنسية والإنكليزية ثم الإيطالية والعربية،الشاعر الميت فضّل العربية ،لأنه كان يحسب أن أبجديات الأمم ستتلاشى وتختفي المدن والقصور و الإمبراطوريات وتنجو قصائده من الفناء محفوظة في نقش نحاس عربي ، سوف تبقى “العربية” بعد الجميع ، فهي تبدو كما ” الإغريقية” التي اتسعت وامتدت حتى تخوم صحارى مصر”.
ما أن أنهيت كتابة القصيدة في دفتر ملاحظاتي حتى حان موعد خروجنا إلى المدينة ، توغلنا في السوق بطرقه الملتوية وواجهات محلاته العتيقة المزحومة بتماثيل تقلد آلهة الأوليمب فهنا الإلهة أثينا وطائر البوم رمز حكمتها وهذا بروميثيوس سارق نار الآلهة تنهش العقبان كبده فتنمو له كبد جديدة كل صباح ، يالقسوة الآلهة ويا لمجازفات البشر التي لن تتوقف مهما توعدتهم الآلهة.
غافلت رفاقي وتسللت إلى مكتبة صغيرة في زاوية الشارع واشتريت الكتاب الوحيد الموجود لديهم باللغة الإنكليزية لكارالامبيدس، كان عنوانه ” جهالة الماء” هل يعرف ماء البحر أو ماء النبع بأنه منذور للجهالة ؟؟ قال الماء إنه يجيد تطهير الأرض من خطايانا وتنقية اللغة والأحلام من سوء أفعال البشر؛ رجل نحيل يعتمر كاسكيتة سوداء يعزف على آلة البوزوكي في مقهى صغير تحتل مقاعده رصيف شارع اوناساغورا، برد كأس الشاي خلال انغمارى بالموسيقى ، تلفعت بالشال من ريح قارسة هبت على ظهيرة نيقوسيا وعندها تناهى إليّ صوت المطربة العظيمة “نانا موسكوري” واستحضرت صورتها الجميلة بنظارتها الطبية وصوتها السماوي وهي تغني “قوة الحب” فازداد الشاي احمرارا في قدحي وتراقصت الشمس على قمم أشجار الدلب التي تظلل الرصيف، وتفتحت أزاهير الجيرانيوم والبتونيا في الشرفات بقوة الحب التي انهمرت من صوت موسكوري وتعالت ضحكات النساء مختلطة بصخب العابرين، في المقهى عشاق يتواعدون لأعياد نبيذ باخوس وسائحون يسألون عن خليج بافوس حيث ولدت أفروديت من زبد البحر ،تقرر مجموعتنا الذهاب معهم لنتبارك بمولد افروديت التي اختارت ان تهبط في جنة قبرص ثم لتختفي ذات ليلة مقمرة ولا تترك في الخليج أثرا سوى تمثالها حزينة و صخور سوداء موحشة تصارع النسيان و موج المتوسط.