عمّي الحـاج

خاص- ثقافات

*محمود شقير

ركب الكهل سيارة “فورد” واتجه عائداً إلى القدس. العرق ينـزّ من بدنه دون انقطاع، يحاول الابتعاد ما أمكن عن جسد المرأة التي لم يجد له مكاناً إلا لصقها، (ذلك فأل حسن على أية حال) يبتعد قليلاً، لأنه غاطس في العرق، ولا يحب أن تنفر منه المرأة التي تفوح منها رائحة عطر أخّاذة. ينشغل عن المرأة محاولاً تتبع همومه الخاصة، يتمتم بين الحين والآخر ببعض الشتائم التي تطال كثيرين، وتنصبُّ في الأغلب على مدير الحسابات في الشركة، الذي طلب منه الذهاب إلى البنك، لإيداع بعض أموال الشركة هناك.

توقّفت السيارة قبل الوصول إلى حاجز الجيش الجاثم على الشارع الرئيس المارّ من قلب المخيم. هبط الكهل وهبطت وراءه المرأة التي انـزاح فستانها عن فخذيها، فانتعشت نفسه قليلاً لهذا المشهد العفوي الذي انبثق دون مقدّمات. مشى تحت الشمس مسافة غير قليلة، شتم الجيش الذي يجعل حياة الناس جحيماً لا يطاق، (تروقه هذه الجملة الأخيرة، فهي تتردّد على أفواه الكثيرين هذه الأيام، وبالذات على أفواه المتحدّثين عبر الفضائيات).

بحث عن سيارة في منطقة ما بعد الحاجز، لكي يواصل رحلته إلى القدس. رأى سائق سيارة يتجه نحوه وينادي عليه وسط زحمة السيارات التي تبحث عن فرصة للمرور:

_ إلى القدس يا حاج؟

استاء قليلاً، قاده السائق إلى سيارة فورد متوقّفة على الرصيف، حاول الصعود إلى المقعد الأمامي الذي وجده فارغاً.صدَّه السائق:

_ هذا المقعد محجوز يا حاج.

_ محجوز لمن؟

_ لأناس ينتظرون على الطريق يا حاج.

تنغّص من تكرار كلمة “حاج” بهذه السرعة القياسية، كما لو أنها ماركة مسجلة على قياسه بالذات. فكر أن يقول للسائق:

_ لم أذهب لأداء فريضة الحج بعد يا ولدي. (لاحظوا الذوق الرفيع: يا ولدي! لم يفكر بالقول: يا ولد! وشتان ما بين اللفظتين).

غير أنه لم يفه بكلمة واحدة، لأن ثمة سابقة غير سارّة لها علاقة بهذا الأمر، حينما وجد نفسه، قبل أسابيع، في موقف مشابه. كان يركب سيارة فورد مثل هذه، مدّ يده بالنقود إلى السائق، أخذها منه وقال:

_ الله يطوّل عمرك يا حاج.

_ لم أذهب لأداء فريضة الحج بعد.

فلم يظفر إلا بردود غاية في الاستفزاز من السائق ومن بعض ركاب السيارة:

_ الله يطعمك اياها يا حاج! (لاحظوا الذوق الرقيع: كأنها وجبة طعام)

_ ملعون أبو الحاج الذي هو أحسن منك يا حاج!

_ أي دشرنا عاد يا حاج. أي والله إنك حاج وابن حاج. (لا حول الله يا رب)

شعر آنذاك بأنه واقع في ورطة سخيفة لا محالة، فاضطر إلى السكوت. والصحيح أنه ينفر من هذا الأسلوب في المخاطبة، لما فيه من رغبة قد تكون غير مقصودة، في تهميشه، واعتباره نكرة، وتصنيفه في خانة لا تنطبق عليه ولا ينطبق عليها، أو تلبيسه هويّة أخرى ليست له. ولا تحضر كلمة “حاج” إلى ذهنه إلا وهي مقرونة بدشداشة بيضاء، هو لا يحب الدشاديش ولم يفكر يوماً بارتدائها. الكهل رجل عصري على وجه التقريب، (ليس في كل شيء على أية حال) يرتدي ملابس أنيقة باستمرار، وله شيب خفيف في رأسه، يجعله على حدّ وصف إحدى الفتيات شبيهاً بممثل مشهور. (طلب مني ألا أذكر اسم الممثل لسبب ما)، والكهل مدقّق حسابات، ولهذا السبب فهو دقيق، وهو ليس نكرة، بالرغم من عدم ظهوره على شاشات الفضائيات حتى الآن، هو مهذب مع الناس، إذا خاطب شخصاً يعرفه، بادره بالقول: يا أبا فلان. وإذا خاطب شخصاً لا يعرفه بادره بالقول: يا شاب أو يا ولدي ، إذا كان في ميعة الصبا. وبالقول: يا أخي أو يا عزيزي، إذا كان كهلاً مثله، وبالقول: يا عم، إذا كان عجوزاً طاعناً في السن.( لاحظوا الذوق الرفيع)، والكهل لا يحب الحذلقة، وهو يكره ابن خالته الذي لا تفارق الدشداشة بدنه صيف شتاء، يكرهه ليس بسبب الدشداشة وحسب، وإنما لأنه متحذلق، يكرر الفكرة السخيفة مئة مرة ولا يملّ من ذلك. هذه الأيام مثلاً، ما إن يجلس في مجلس بين الرجال، حتى يبادر إلى القول بأسلوب مقيت: أبشّركم يا أخوتي الكرام بأن الله سبحانه وتعالى سوف يغرق جيوش الكفّار في البحر خلال أشهر معدودات. يقولها الغبي بطريقة توحي أنه مندوب العناية الإلهية إلى سكان الحي)

ما إن انطلقت السيارة حتى استقرّت يد على كتفه، التفت فإذا بها يد فتاة شابة، تجلس خلفه تماماً، تأمّلها بطرف عينه فأدهشه جمالها، قالت بصوت خافت وهي تقبض على النقود بين أصابعها الرشيقة:

_ إذا سمحت يا أستاذ. (يا للأدب الجم!)

راقته دقّة ملاحظتها ورهافة حسّها، تناول منها النقود، وسلمها في الحال إلى السائق. شعر بامتنان تجاه الصدفة التي جعلته يجلس في هذا المقعد الذي يقع مباشرة خلف السائق، لكنه بدا متخوّفاً من مفاجأة غير محسوبة، ولكي يقطع الطريق على أي استفزاز، قام بخطوة احترازية، استدار بجذعه نحو بقية الركاب، مدّ يده إليهم، قاصداً جمع النقود منهم، ففعلوا ذلك على الفور، إلا أن كهلاً أشيب في الأربعينات، يجلس في زاوية المقعد الأخير، لم يدع الأمر يمر دون منغّصات، فقد بادر إلى القول بصوت مرتفع طرق أسماع الركاب جميعاً:

_ تسلم يدك يا حاج.

تسمّم بدن “الحاج”، قال في سرّه: الله لا يسلم فيك ولا عظم. فالكهل لا يحب أن يناديه أحد: يا حاج، خصوصاً في حضور النساء الجميلات، الكهل راغب في الزواج من امرأة ثانية. ما الذي يمنعه من ذلك؟ شرع الله يبيح له الزواج مثنى وثلاث ورباع، فلماذا لا يتزوج من امرأة ثانية؟ وهو واثق من أنه سيعدل بين زوجتيه. ابن خالته الكريه متزوّج من ثلاث نساء، لكنه لا يعدل بينهن. سيتزوج من جديد، ولا مانع لديه إذا كانت زوجته المنتظرة من ذوات الشهرة. بعض زملائه يخالفونه الرأي في ذلك، يقولون إن المرأة المشهورة تجعل حياة زوجها جهنم حمراء، وهو غير مقتنع بذلك، ربما لأنه لم يدخل التجربة بعد، وهو حتى هذه اللحظة لم يحظ بامرأة مشهورة تقبل به زوجاً، ولكي يسهّل على نفسه الأمر، فهو لن يدقق كثيراً، يكفيه أنه سيكون زوج امرأة مشهورة، أما حينما يتعلق الأمر بالنساء العاديات اللواتي يراهن في الشارع وفي مكان العمل، فهو متشدّد تجاههن، لذلك، فقد أمضى عدة سنوات حتى الآن، وهو يبحث ويدقق، فلا يعثر على الزوجة المطلوبة بالمواصفات المنشودة.

ذات ليلة، شدّت انتباهه الممثلة أ . س، (الاسم الكامل محفوظ لدينا) وهو متمدّد على الكنبة أمام التلفاز، يشاهد فيلماً تقوم ببطولته أمام ممثل مشهور ( أوصاني بعدم ذكر اسمه، لأنه الممثل الذي يشبهه). كان يعرف مسبقاً أنها انفصلت عن زوجها من خلال تتبعه لأخبار نجوم السينما، فكر جدياً بالسفر إلى القاهرة، لعله يتعرف إليها عن قرب، ولعلها تقبل به زوجاً. ظل يعيش مع هذا الحلم الجميل عدة أسابيع، حتى أسرّ إليه أحد زملائه، بأنها تعيش قصة حب، وأنها على وشك الزواج. صدّق الخبر ثم كذّبه، إذ ربما فبرك زميله هذا الخبر لمجرد التنغيص عليه، ومع ذلك، فقد توقف عن تحرّي أخبار الممثلة النجمة، وغضّ النظر عن موضوع الارتباط بها نهائياً لسبب لا يعرفه أحد سواه.

توقفت السيارة قبيل الوصول إلى حاجز الجيش الثاني، اقتربت منها امرأتان شابتان، الأولى منهما تحمل على صدرها طفلاً، ترتدي فستاناً بلون الكمون، تجدل شعرها على هيئة كعكة فوق رأسها، تضحك بخجل يجعلها أكثر إغراء وفتنة. ألقت بالطفل إلى رفيقتها، وصعدت إلى السيارة، جلست في المقعد الشاغر لصق السائق، (محجوز يا حاج) جلست رفيقتها عن يمينها وفي حضنها الطفل.

راح الكهل يدقّق في المشهد الذي يراه. (تلك هواية يحبها حدّ الهوس، وتُدخله في حرج شديد أحياناً كثيرة) خمّن من ضحكات المرأة أنها زوجة السائق، وأما الفتاة الأخرى فهي دون شك أخته، جاءت مع زوجة أخيها لدواعي السلامة والمراقبة التي لا بدّ منها في مثل هذه الظروف الملتبسة، التي لا أمان فيها ولا اطمئنان. سُرَّ الكهل من قدرته على التدقيق والتخمين، وما جعله واثقاً من تخمينه، تلك السحنة المحايدة التي قابل بها السائق صعود المرأة والفتاة إلى جواره، قال في سره: لا يتصرف بمثل هذا الحياد إلا زوج مثقل بالمسؤوليات، والكهل غبط الشاب على ذوقه في الاختيار. فالمرأة الشابة، زوجة السائق، تبدو على قدر غير قليل من الجمال، وهي تتضاحك على نحو يثير المشاعر في القلوب. (في مثل هذا الزمان الشُرُمْ بُرُمْ، يحتاج المرء إلى امرأة رائعة كي تخفّف من وقع المعاناة على أعصابه ومزاجه) (الكهل لا يعرف ما هو المقصود بالشرم برم، إلا أن أحد زملائه في العمل يمازحه دوماً سائلاً إياه: كيف أنت والزمان شرم برم كعب الفنجان؟ والكهل لا يعرف ما الذي يفعله كعب الفنجان في مثل هذا المقام؟) دقق النظر في السائق، ليرى إن كان جديراً بهذه المرأة، فوجده موفور الصحة، يرتدي قميصاً قطنياً أبيض، بكمّين قصيرين يكشفان عن ساعدين أسمرين مليئين بالشعر، وبدت صفحة وجهه اليمنى وهو يقترب بها من خدّ زوجته، سمراء طافحة بالحيوية، ثم لم يلبث السائق أن أرسل نظرات قوية نحو عيني المرأة، نظرات محمّلة برسائل سبق للمرأة أن قرأتها كما يبدو. ابتهج الكهل وأيقن أن خبرته في تدقيق الحسابات الصماء لم تذهب عبثاً، فهو قادر على التدقيق في سلوك البشر تدقيقاً يقارب ما يفعله المحللون النفسيون أو أكثر قليلا.

قال الكهل لنفسه: إنهما زوجان متفاهمان ومتحابّان. تأكّد من ذلك حينما وجدها بين الحين والآخر ترسل ذراعها الأيسر نحو المقعد الذي يجلس فيه زوجها، فتلمس ظهره وكتفيه كما لو كان ذلك دون قصد، أو تقترب بخدها وعينيها من خده وعينيه، فكأنهما على وشك أن يتبادلا قبلة خاطفة، فيبدو (المقصود السائق وليس الكهل) مستمتعاً، ما ينعكس على مهارته في قيادة السيارة، يقودها بسلاسة، ويجعلها تنطلق مسافة ما دون أن ينظر إلى الأمام، فنظره مشدود إلى زوجته التي تجلس قربه مثل ملاك.

سأكشف سراً من أسرار الكهل: منذ أشهر أخذ يبدي إعجابه الشديد بالمذيعة د . ن التي تعمل في إحدى الفضائيات، (اسمها ومكان عملها محفوظان لدينا). إنه معجب بجمالها وبثقافتها، وهو جادّ في البحث هذه الأيام عن كيفية الوصول إلى بريدها الإلكتروني، وذلك لكي يعرض عليها الزواج. هاتفني ذات مساء، وسألني إن كنت أعرف عنوانها على الإنترنت، فلما أخبرته بأنني لا أعرفه، قال إنه سيجد وسيلة للعثور عليه، ولما سألته عن السبب، قال لي دون مواربة إنه يرغب في الزواج منها، قلت له: ربما كانت متزوجة. قال: قلبي يحدثني بأنها غير متزوجة. وأضاف: لا تنس أن الفضائيات ترغب في تشغيل فتيات غير متزوّجات، لإضفاء الجاذبية على نشرات الأخبار. بعد لحظة قال: وإذا تعثر أمر هذا الزواج، فأنا محتاط للأمر، سوف أستعين ببرنامج “يا ليل يا عين” على قناة الإل بي سي! فالبنات الجميلات فيه أكثر من الهمّ على القلب!

تابع الكهل بعينين يقظتين الفتاة التي أنعشت روحه (إذا سمحت يا أستاذ)، وهي تهبط من السيارة متجهة نحو بيتها الذي لا يبعد عن رصيف الشارع سوى بضعة أمتار، هبطت، ومضت دون أن تنظر صوبه ولو للحظة عابرة، اعتبر ذلك سلوكاً طبيعياً من فتاة لا تعرف شيئاً عن سماته وسجاياه. شغّل السائق جهاز التسجيل، الذي راح يبث أغنية : أيوه يا عم ، أيوه يا عم، كلك رقة وخفة دم! تنغّص الكهل قليلاً من هذه الأغنية، ثم انهمك في مراقبة المرأة التي تواصل الكلام والضحك مع السائق، ولم تعد مهتمة بابنها الذي نام في حضن الفتاة الأخرى، التي كانت بدورها تسترق النظر إلى السائق وزميلتها، ثم تبتسم على نحو غامض، حينما ترى زميلتها تخرج من حقيبة يدها قطعة حلوى، تنضو عنها الورق الملوّن بأصابعها الرقيقة، تضعها بين شفتي السائق الذي لا يكتفي بالتقاط قطعة الحلوى من بين إصبعي المرأة، بل إنه يضغط عليهما بكلتا شفتيه.

تسلل شكّ خفيف إلى قلب الكهل. قطعة الحلوى هي السبب، ثم جاءت قطعة أخرى، وثالثة. قال الكهل لنفسه: هذا أمر لا يحدث بين الأزواج، لو أنه يحدث بين الأزواج بمثل هذا الانسجام لكانت الدنيا بألف خير. قال: هذا أمر لا يحدث إلا بين العشاق (الكهل لا يفكر بالبحث عن عشيقة. مكانته بين الناس لا تسمح له بذلك، سمعته أيضاً، هل يضحّي بها؟ لا يمكن) (صديقه الذي يطلعه على كل أسراره يقول له: أنت حمار، وحينما يحدثه عن رغبته في الزواج من امرأة ثانية، يسخر منه: آه منك يا متخلّف).

لام نفسه لأنه لم يكن دقيقاً منذ البداية. ولام نفسه لأنه يتدخل في ما لا يعنيه. عاشق وعاشقة، ليكن، اللهم زدهما عشقاً وسعادة. ولم يخطر بباله أن يسترق السمع إلى ما يقولان، لأن مدقق حسابات محترماً مثله، لا يمكنه أن يتلصص على أحاديث العشّاق. لكنّ كلامهما طفا إلى السطح دون إرادة منهما ومنه، فسمعها تناجيه بكلام، وتذكّره بعهود جعلته يقطع الشك باليقين. سمعه وهو يقول لها: نذهب إلى مكاننا السابق، لن ينتبه إلينا أحد.

حاول ترتيب المشهد على النحو التالي: ثمة زوج فترت حماسته لزوجته، وثمة زوجة أحبت قبل الزواج سائقاً مثل ممثل سينمائي مقدام. اتفقت معه على قطع علاقتهما لأنها ستتزوج من ابن خالتها. السائق متزوّج هو الآخر وإلا لكان تزوجها كما أخبرها مراراً. انقطعت عنه طوال السنة الأولى من زواجها، ثم عادت إليه بعد ذلك. عادت إليه صدفة ذات صباح حينما ركبت سيارة الأجرة التي يقودها. اندلع الماضي مرة واحدة أمام ناظريهما، فقرّرا أن يعودا إلى تكرار اللقاءات. لم يعد خروجها من البيت سهلاً كما كان الحال قبل الزواج. قالت له لا تقلق، أختي تأتي معي كلما قرّرت الخروج معك. (هي أختها وليست أخته) سأقول لهم في البيت إننا ذاهبتان إلى السوق.

لام نفسه من جديد، إذ ربما كانت المرأة هي زوجة السائق بالفعل، وأنه لم يتزوجها إلا بعد قصة حب جامحة، ما زال أوارها مشتعلاً في قلبه وقلبها، ولنفرض، أنه قال لها: نذهب إلى مكاننا السابق، ولن ينتبه لنا أحد. فما الخلل في ذلك؟ قد يكون انتبه إلى أن الكهل يراقبهما، (أيوه يا عم، أيوه يا عم، كلك رقة وخفة دم) وهو بحاجة إلى مكان يقضي فيه مع زوجته وقتاً طيباً، دون أن يكون فيه أمثال هذا الكهل الذي يحصي عليهما كل حركة. قلّب هذا الأمر في ذهنه، قبل به لحظة ثم رفضه في اللحظة التالية، فقد عادت قوالب مهنته تلحّ عليه، لأنه إذا أضاف اثنين إلى أربعة فلن يكون الناتج سبعة وإنما ستة، وهكذا، فإن المشهد الذي رتبه في ذهنه، وحشر السائق والمرأة فيه، أصبحت له قوة مؤثرة لا تغادر ذهنه بتاتاً، وهو الآن واقع تحت تأثير قوة هذا المشهد، يحاول الانفلات منه بين الحين والآخر، فلا ينجح إلا على نحو محدود.

انتبه على صوت السائق وهو يقول له، بعد أن توقّفت السيارة، وبعد أن نـزل منها ركاب المقاعد الخلفية:

_ تفضل يا عمي الحاج، وصلنا.

ارتبك وهو يرى السائق يحدق فيه بعينين فاحصتين، هبط من السيارة، شيّعها بعينيه وهي تمضي مبتعدة، وفيها السائق الشاب والمرأة والفتاة والطفل. قال لنفسه: ربما كانت تلك المرأة الجميلة زوجته. وحينما خطا خطوته الأولى داخل بيته، قال لنفسه: لا يمكن أن تكون زوجته بأي حال. ظل يقلّب الأمر في ذهنه عدة ساعات، فلم يظفر بنتيجة مقنعة، ولم يستقر على حال حتى اتخذ قراراً بالاستفسار من السائق مباشرة عن أمر هذه المرأة التي رآها معه.

في ظهيرة اليوم التالي، انتظر وقتاً طويلاً عند موقف السيارات، وحينما ظهر السائق مقترباً بسيارته، عرفه الكهل، اقترب منه وحيّاه. حدق فيه السائق ورد على تحيته بفتور. هيأ لسؤاله المحدّد بمقدّمة طويلة مملة، جعلت السائق يتساءل بعدم ارتياح:

_ أية امرأة تقصد يا عمي الحاج؟

_ هل نسيت؟ يوم أمس، المرأة بالفستان الكموني.

_ أي فستان كموني يا عمي الحاج؟

_ بمثل هذه البساطة تنسى يا ولدي؟

_ أنا لا أعرف عن أي شيء تتحدث يا عمي الحاج.

استشاط الكهل غضباً:

_ أنا لست عمك الحاج. أنت تتهرّب من الإجابة عن سؤالي.

تجمع عدد من سائقي السيارات حول الكهل، بقي السائق هادئاً:

_ الله يسامحك يا عمي الحاج.

قال سائق آخر وهو يقود الكهل بعيداً:

_ هوّن عليك يا عمي الحاج. الظروف صعبة ملعونة، وأنت أعلم منا بذلك.

ابتعد دون أن يتفوّه بكلمة. شعر بأنه أهان نفسه دون مبرّر، (كيف تقبل به المذيعة د . ن زوجاً لو أنها عرفت بمثل هذا التصرّف البائس!) ابتعد وهو لا يدري إلى أين يمضي، وجد نفسه يدخل موقعاً يُحظر المرور منه بالقرب من حاجز الجيش. صاح فيه أحد الجنود وهو يصوّب نحوه بندقيته:

_ رُح من هون، رح.

شتم الجندي في سرّه وابتعد، (حمد الله لأن أحداً من مصوّري الفضائيات لم يكن موجوداً على الحاجز) مشى مسافة طويلة وهو مجروح من داخله. توقفت بالقرب منه سيارة صغيرة، رأى فيها امرأة متوسّطة الجمال، ترنو إليه وعلى ثغرها ابتسامة. إنها إحدى زميلاته في العمل، ولم يكن يعيرها أي انتباه في ما مضى من أيام:

_ تفضل يا أستاذ، آخذك إلى أيّ مكان تريد.
___

*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *