*غيضان السيد علي
يُعَدّ طه حسين (1889ـ 1973) علامة أساسيّة في المشهد الثقافي والفكري العربي الحديث؛ فهو لا يمثل في حياتنا الفكرية والثقافية مجرد كاتب عبَّر عن وجداننا الأدبي والفكري، ولكنه يُمَثِلُ في أعماق وجودنا نوعاً من المبدعين الذين شكّلوا فكرنا وثقافتنا الجماعية، فقد ألقى حجراً ضخماً في المياه الفكرية العربية الراكدة المستغرقة في سُباتها التراثي التليد، بطرح أسئلته الجريئة التي قاوم من خلالها التخلف والرجعية والجمود والفكر المتزمّت المتحجّر، داعياً إلى التنوير والحداثة وعدم دفن الرأس في الرمال والتغني بـأمجاد الماضي العتيق “أمجاد يا عرب أمجاد”. فطرح سؤال الوجود والذات والحريّة والتقدّم، وتجاوز المناهج المتبعة في قراءة التراث في مقابل تماهي الأنا وسيادة الاستبداد والعيش في غيبوبة الماضي وتقديس التراث، وكان سؤاله الأساسي هو سؤال التنوير بين جدل الوافد والموروث.
حياته وتكوينه الفكري
وُلِدَ طه بن حسين بن علي بن سلامة، الشهير بطه حسين، عميد الأدب العربي(**)، يوم الجمعة في الخامس عشر من نوفمبر عام 1889م في قرية الكيلو بمركز مغاغة إحدى مدن محافظة المنيا في الصعيد الأوسط المصري، ضمن أسرة فقيرة الحال كثيرة العدد. وعندما بلغ الطفل الثالثة من عمره أصيبت عيناه بالرمد فانطفأ النور فيهما نتيجة خطأ في العلاج، وقد سبّبت له هذه الحالة الكثير من المعاناة طيلة حياته، وملأت نفسه بالحسرة والألم.
أدخله أبوه كُتَّاب القرية ليحفظ القرآن الكريم، فحفظه في مدة قصيرة أذهلت شيخه “محمد جاد الرّب” أول أساتذته، كما أذهلت أترابه ووالده، ممّا شجع الأب الذي كان يعمل موظفاً صغيراً في شركة السكرعلى أن يعمل جاهداً لإلحاقه بالأزهر، وقد التحق طه حسين بالأزهر في عام 1902م، فَحصّل فيه ما تيسّر من الثقافة، ونال شهادته التي تخوله التخصص في الجامعة، لكنه ضاق ذرعاً بها، فكانت الأعوام الأربعة التي قضاها فيها، وهذا ما ذكره هو نفسه، كأنها أربعون عاماً؛ لأنها قد طالت عليه من جميع أقطارها، كأنها الليل المظلم([1]). وذلك بالنظر إلى رتابة الدراسة، وعقم المنهج، وعدم تطور الأساتذة والشيوخ، وطرق وأساليب التدريس.
كان ضيقه بما يتلقاه في الأزهر من علم قد أصابه بالملل، وعندما فتحت الجامعة المصرية أبوابها سنة 1908م كان من أوائل المنتسبين إليها، فدرس العلوم العصرية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ والجغرافيا، والفلك، والفلسفة، وعدداً من اللغات الشرقية كالحبشية والعبرية والسريانية، وظلّ يتردد خلال تلك الحقبة على الأزهر لحضور بعض الدروس فيه والمشاركة في ندواته اللغوية والدينية والإسلامية. ودأب على هذا العمل حتى سنة 1914، وهي السنة التي نال فيها شهادة الدكتوراه، وكان موضوع الأطروحة هو “ذكرى أبي العلاء”.
وفي العام نفسه أوفدته الجامعة المصرية إلى جامعة مونپلييه في فرنسا، لمتابعة التخصّص والاستزادة من فروع المعرفة والعلوم العصرية، ومكث هناك قرابة عام واحد، ثم عاد إلى مصر، ثم رجع مرّة أخرى في العام نفسه 1915 إلى باريس ليكمل بعثته، فدرس في جامعتها العديد من الاتجاهات المعرفية في علم الاجتماع والتاريخ اليوناني والروماني والتاريخ الحديث، وأعدّ خلالها أطروحة الدكتوراه الثانية وعنوانها: (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون).
اقترن في 9 أغسطس 1917 بالسيدة “سوزان بريسو” الفرنسية السويسرية التي كان لها أثر ضخم في حياته؛ فقد قرأت له الكثير من المراجع الفرنسية واللاتينية، فتمكّن من الثقافة الغربية إلى حد بعيد، كما أمدّته بالكتب التي تمّت كتابتها بطريقة برايل لكي تساعده على القراءة بنفسه، وكانت الزوجة والصديقة التي دفعته إلى التقدّم دائماً، وقد أحبها طه حسين حباً جمّاً، وممّا قاله فيها إنّه “منذ أن سمع صوتها لم يعرف قلبه الألم”، وقد أنجبت لطه حسين بنتاً وابناً هما: أمينة ومؤنس. وفي سنة 1918 أنجز دبلوم الدراسات العليا في القانون الروماني، ونجح فيه بتقدير ممتاز. وعاد في عام 1919 إلى مصر، وعُيِّن أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني، ثم أستاذاً للأدب العربي، فعميداً لكليّة الآداب عدة مرّات، فمديراً لجامعة الإسكندرية، إضافة إلى عمله الآخر بصفة مستشار فني لوزارة المعارف، ومراقب للثقافة في الوزارة نفسها، وفي عام 1944 ترك الجامعة بعد أن أحيل إلى التقاعد. وفي عام 1950م اختارته حكومة الوفد وزيراً للمعارف فاستمرّ حتى عام 1952م. ثم تمّ اختياره عضواً في المجلس العالي للفنون والآداب، وعضواً محكّماً في الهيئة الأدبية الإيطالية والسويسرية، وعضواً في المجلس الهندي المصري الثقافي، كما قام بالإشراف على معهد الدراسات العربية العليا. وفي سنة 1959 عاد طه حسين إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرغ، كما عاد إلى الصحافة التي عمل فيها فترات من حياته، فتسلم رئاسة تحرير الجمهورية. ورشحته الحكومة المصرية لنيل جائزة نوبل، وفي سنة 1964 منحته جامعة الجزائر الدكتوراه الفخرية، ومثلها فعلت جامعة بالرمو بصقلية الإيطالية سنة 1965. وفي السنة نفسها ظفر طه حسين بقلادة النيل، إضافة إلى رئاسة مجمع اللغة العربية، وفي عام 1968 منحته جامعة مدريد شهادة الدكتوراه الفخرية، وفي سنة 1971 رأس مجلس اتحاد المجامع اللغوية في العالم العربي، ورُشِح من جديد لنيل جائزة نوبل، وقد أقامت له منظمة اليونسكو الدولية في أورجواي حفلاً تكريمياً أدبياً قلّ نظيره. توفي في الثامن والعشرين من أكتوبر عام 1973.
مؤلفاته وإنتاجه الفكري
ترك طه حسين إرثاً كبيراً من المؤلفات التي زادت على الخمسين كتاباً في القصة والأدب والتاريخ وفلسفة التربية وغيرها، والتي تُرجم العديد منها إلى اللغات الأجنبية. ومن أشهر هذه المؤلفات: الفتنة الكبرى “عثمان”، الفتنة الكبرى “علي وبنوه”، في الشعر الجاهلي، الأيام، دعاء الكروان، شجرة البؤس، المعذّبون في الأرض، على هامش السيرة، حديث الأربعاء، من حديث الشعر والنثر، مستقبل الثقافة في مصر، أوديب، مرآة الإسلام، الشيخان، الوعد الحق، جنّة الشوك، مع أبي العلاء في سجنه، ذكرى أبي العلاء، في تجديد ذكرى أبي العلاء، في مرآة الصحفي، من بعيد، فلسفة ابن خلدون، الظاهرة الدينية عند اليونان وتطور الآلهة وأثرها في المدينة، قادة الفكر، من آثار مصطفى عبد الرازق، حافظ وشوقي، ألوان، الحب الضائع، متعلقات من الأدب الغربي، ما وراء النهر….، هذا فضلاً عن ترجماته العديدة لأمّهات الكتب الغربية، والتي جاء على رأسها: نظام الأثينيين ومسرحيات سوفوكليس والواجب لجول سيمون…، ومئات المقالات في الصحف المصرية والعربية.
ماهيّة التنوير عند طه حسين
ربّما كان لغياب الفكر التنويري لفترة طويلة أثره الفعّال على مفهوم التنوير ذاته، حيث أصبح مراوغاً وزئبقياً، لا تستطيع معه أن تضع تعريفاً جامعاً مانعاً يمكن الاهتداء به في مواجهة كلّ الدعوات التي تقلل من شأن العقل في مواجهة الأزمات، وتقلل من شأن الاجتهاد حين يكون ضرورياً، ولذلك كان استحضار جواب التنوير عند طه حسين أمراً ضرورياً.
والتنوير لفظ يستدعي فور سماعه العقل والنور؛ يشير الأول إلى الثاني إشارة السبب إلى النتيجة، ويشير الثاني إلى الأول إشارة المعلول المتعدد الأبعاد إلى العلة الواحدة المتجددة. وهذا الترابط بين العقل والنور موجود في اللغة الإنجليزية التي صاغت من دلالة النور Light صيغة الفعل ينير enlighten. ومصدره التنوير، أو الإنارة enlightment. ولا تختلف هذه الدلالة الاشتقاقية في اللغة الفرنسية عنها في اللغة الإنجليزية أو الألمانية أو غيرها من اللغات الأوروبية. ولكنّ اللغة العربية قد سبقت غيرها في استعارة النور للمعرفة، ووصلت بين فعل المعرفة الإنساني ودلالة النور([2]). وهو في السياق الدلالي عند كانط “خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حقّ نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر. ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل، بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك! ذلك هو شعار التنوير”([3]). وعند مراد وهبة: “التنوير لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه”([4]). بينما يرى جابر عصفور أنّ التنوير “هو منح الأولوية للعقل في إدراك الوجود، وإبداع العالم، والنظر إلى العقل البشري بوصفه النور الذي يهتدي به الإنسان، ويصوغ به عالمه، متحرراً من أشكال الوصاية التي تحجر على العقل أو تقيد انطلاقه…، واقتران نور العقل بحرية الإنسان وحقه في اختيار فعله الخلاق وممارسته، في كلّ مجالات الفعل المعرفي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك في مواجهة طوائف أخرى استبدلت بالعقل النقل، وبالحرية العبودية، وبالاختيار الجبر، وبالعدل الظلم، وبالمعنى العقلاني للتوحيد المعنى القمعي المفروض على الجماعة”([5]).
وحول هذه المعاني لمفهوم التنوير كان معناه عند طه حسين، فقد كانت حياته من بدايتها إلى نهايتها كفاحاً دائباً في سبيل الحريّة والتحرّر والانطلاق، والقدرة على استخدام العقل بعيداً عن كلّ أشكال الوصاية والتبعية. فقد كان دائماً في سعي حثيث دؤوب للابتعاد عن كلّ ما من شأنه أن يحدّ من الحرية والانطلاق والإبداع، في جميع المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية؛ إذ إنّ حرية الفكر والعقل ـ وهما أداتا الإبداع والابتكار ومصدر التنوير- هي الوجه الآخر للحرية السياسية، كما أنّها في الوقت ذاته هي السبيل المُعَبَّد للوصول إلى هذه الحرية السياسية والحفاظ عليها([6]). والكتابة أيّاً كان شكلها وقصدها عند طه حسين هي عملية تنويرية، لأنّها تطرح دائماً سؤال التنوير؛ سؤال الذات والعقل والتاريخ والثقافة والتعليم واللغة والخيال، وهي إذ تطرح فنّ السؤال تخلخل فكرة المعرفة بما هي حد، وتزحزح فكرة الحد بما هو معرفة، فتزعزع الحسّ اللغوي العام الزائف الذي يُدشن جميع صور الحقيقة في الثقافة والمجتمع، ومن ثمّ تخلخل فكرة الواقع بما هو نص، والنص بما هو واقع، فالكتابة مغامرة بانية، وزحزحة أصيلة، وخلخلة مؤسسة مشيدة، والكتابة إذ تطرح أسئلة اللغة والجمال تطرح في الآن نفسه أسئلة الذات والوجود والحريّة والحداثة والحضارة([7]).
ومن ثمّ ينجلي معنى التنوير عند طه حسين في الدعوة إلى العقلانية، وإعمال العقل، والتأكيد على الإبداع الذاتي للعقل في علاقته بالماضي والحاضر، أو في موقفه من “ميراث الأنا” و”إنجاز الآخر”. فالتنوير عند طه حسين عبارة عن وعي نقدي يُمَكِّن صاحبه من التوفيق بين الوافد من لدن الآخر المتقدّم، وبين الموروث الذي يمثل الهويّة الذاتية. ولذلك لا يمكننا القول إنّ طه حسين نسي الموروث الإسلامي ودوره في بناء الحضارة المنشودة، بل عمل على تعديله ونقده ليتخلص من كلّ الشوائب التي لحقت به فجعلته أقرب إلى الخرافات والأساطير.
فإذا كان التنوير في حاجة إلى العقلانية فهو أيضاً في حاجة إلى الحريّة التي هي أهمّ لزوميات التنوير، ولإحداث التنوير المنشود لا بدّ من إعادة النظر من منظور تنويري إلى موقع الحريّة في بلادنا، وحال التعليم، وواقع الثقافة، والعلاقة بين الدين والعلم، وحقيقة الموقف من مدنية الدولة….إلخ. وهذا ما سنلمحه جليّاً عند طه حسين.
الحريّة وسؤال التنوير
اعتبر طه حسين قضية الحريّة مفتاحاً للتنوير، فلا تنوير بلا حريّة، ولا حريّة بلا تنوير، ولذلك كانت الحريّة مسألة أصيلة لديه، ملكت عليه كلّ أموره، ووقف عليها حياته، وصار شغفه بالكتابة مرهوناً بها، فهو القائل: “كلّ الناس يعلمون أنّ الأدب لا قيمة له إذا فقد الحريّة”([8])، فجاءت كتاباته ممارسة للحريّة، وتعميقاً للواقع بحثاً عن أصوله الدفينة، ورمياً إلى تغييره وتجاوز محنه ومشكلاته، فقد حلم بمجتمع سوي يستردّ وجهه الأصيل ممّن شوّهوه، وينتشل قيمه من مستنقع اللاقيم الذي فرض عليه التردي فيه، مجتمع يحيا فيه ويعمل ويأمل ويبدع إنسان سوي، يجد القدر المعقول من الحريّة والعدل، ويؤمن بقيمة العلم وسيادة القانون ويبتعد تماماً عن الجهل والتخلف والهوان والفوضى. ومن ثمّ نجده في جلّ كتاباته يجعل الحرية هدفه ومقصده، فيقول في مقدمة كتابه القيَّم “على هامش السيرة”: “وأحبّ أن يعلم الناس أيضاً أنّي وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار، واختراع الحديث ما لم أجد به بأساً، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي، أو بنحو من أنحاء الدين، فإنّي لم أبح لنفسي في ذلك حرية ولا وسعة، وإنما التزمت ما التزمه المتقدمون من أصحاب السيرة والحديث، ورجال الرواية وعلماء الدين”([9]).
وهكذا هو منهجه في الحرية، ليست هي الحرية الفوضوية، ولكنّها الحرية المسؤولة، والحرية المحدودة بحدود قواعد الدين، وما أثبته الثقات من رواة السيرة والحديث، وما ارتضاه علماء الدين الأكفاء. فإذا كانت الحرية لازمة من لوازم الإبداع فإنها تقف عند حدود ولا يجوز لها أن تتخطاها، حيث يقول: “فإذا اتصل الخبر بشخص النبي فإنّي أردّه إلى مصدره ليستطيع من شاء أن يرجع إليه، لا أحتمل في ذلك تبعةً خاصة، لأنّي لا أذهب فيه مذهباً خاصاً، إلا أن يكون تبسطاً في الشرح والتفسير واستنباط العبرة والوصول بها إلى قلوب الناس”([10]).
فإذا كانت الحرية مقيدة بحدود صحيح الدين فيما يتعلق بعلوم الدين جميعها، فإنّها حرية مطلقة خارج هذه العلوم، فلا يذعن الباحث في أيّ علم من العلوم أو في أيّ فرع من فروع المعارف الأخرى خلاف الدينية إلا لمناهج البحث العلمي السليم، حتى يصل إلى النتائج الموضوعية، غير مكترث بسخط الساخطين أو رضا الراضين، فيقول في كتابه الشعر الجاهلي: “يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العلمي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكلّ مشخصاتها، وأن ننسى ديننا وكلّ ما يتصل به، وأن ننسى ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين، يجب ألا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح. ذلك أننا إذا لم ننسَ قوميتنا وديننا وكلّ ما يتصل بهما فسنضطر إلى محاباة وإرضاء العواطف، وسنغلّ عقولنا بما يلائم هذه القومية وهذا الدين، وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟ كان القدماء عرباً يتعصبون للعرب، أو كانوا عجماً يتعصبون على العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد؛ لأنّ المتعصبين للعرب غلوا في تمجيدهم وإكبارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم، ولأنّ المتعصبين على العرب غلوا في تحقيرهم وإصغارهم فأسرفوا على أنفسهم وعلى العلم أيضاً”([11]).
وكان طه حسين في غاية الإخلاص لمنهجه هذا غير عابئ بويلات هذا الاتجاه الذي لم يتحمله ديكارت في منهجه العقلي الذي لم يخلص له ولم يطبقه على الدين والأخلاق والسياسة، ومالأ رجال الدين ورجال السياسة. فعلى العكس كان طه حسين الذي وقف صامداً في وجه تلك الهجمات التي كادت أن تعصف به وبحياته العلمية، حيث قُدّم للمحاكمة فوقف بشموخ يدافع عن حرية البحث العلمي أمام قضاء مصر، مُدشناً الاتجاه الذي تحتاجه الأمّة، اتجاه الحداثة والوعي والتنوير، لوعيه التام بخطورة القضية التي يواجهها، والتي عبّرت عن مظهرين: مظهر التزمت الفكري ومحاصرة الاجتهاد والبحث العلمي الجاد، وتسلسل مظاهر القمع وإلصاق التهم المجانية: الكفر والردة والحسبة، إذ أصبحت الساحة الثقافية والفكرية تتحكم فيها قوى متطرفة متحجرة ذات طبيعة قرائية تقليدية ترفض ما هو جديد وتعجز عن استيعاب الآراء ووجهات النظر المغايرة. أمّا المظهر الثاني فهو ما عبّر عنه مساندة النائب لطه حسين لوعيه هو الآخر بضرورة التحديث في الحياة الفكرية والثقافية وأسلوب التفكير وإعادة النظر في المعطيات الثابتة من خلال تعميق شرط القراءة وترسيخ انتقال الحداثة من المجال الثقافي إلى الحياة السياسية والاجتماعية والقضائية عبر خلق أدوات جديدة للبحث والمساءلة في القضايا المتعلقة بالفكر والأدب([12]) والإبداع عموماً، فسعى النائب أثناء مناقشة الكاتب والكتاب إلى تبرئة طه حسين من التهم التي وجّهت إليه، وميله إلى حفظ الدعوى إدارياً رغم تأكيده أنّ المؤلف جانب الصواب في كثير من القضايا والمواقف([13]).
السياسة وسؤال التنوير
من الحرية الفكرية والثقافية انتقل طه حسين إلى الحرية السياسية، فقد كانت الأولى هي الوجه الآخر للثانية، وهي السبيل الضرورية لبلوغها، فمن التنظير والنقد للمفاهيم السياسية لكونه مفكراً مهتماً بقضايا وطنه وأمّته إلى ممارسة العمل السياسي المباشر حينما اختارته حكومة الوفد قبيل ثورة يوليو 1952 وزيراً للمعارف (التربية والتعليم)، فغرق في السياسة حتى أذنيه واحترق بنارها، وعلى كثرة ما لقي من أهوال السياسة لم ينكر من سيرته شيئاً، ولم يندم على فعل فعله أو قول قاله.
وقد كانت الديمقراطية هي طريقه الفضلى لتحقيق الحرية المنشودة في المجال السياسي، والدولة الديمقراطية ـ في نظره- هي التي تستند إلى الحياة النيابية، ويكون الشعب فيها هو مصدر السلطات، والدولة التي تطبّق الديمقراطية بشكلها الأمثل هي الدولة الأثيرة عنده، وهذه هي ملامحها العامة التي كان يدعو إليها، بما يتاح فيها من ديمقراطية تحمي الحريات الأساسية للإنسان، ومن ثمّ كان تأكيده على كافة الحريات بما فيها حرية الصحافة.
إنّ النقد الذي وجّهه طه حسين لدستور سنة 1923م (خاصة بسبب المادة 149) هو جزء من المشروع الثقافي لتيار الليبرالية المصرية قبل يوليو 1952م، إذ أنهم امتلكوا شجاعة الإعلان عن آرائهم بوضوح، تلك الآراء التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة: لا يمكن خروج مصر من ثقافة وآليات العصور الوسطى إلا بعد تأسيس دعائم الدولة العصرية. وأوّل هذه الدعائم ضرورة فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية (وليس فصل الدين عن المجتمع كما يروّج دعاة الدولة الدينية)، وإنّ المحك الحقيقي لهذا الفصل هو إعداد دستور يجعل الولاء للوطن سابقاً على أيّ ولاء عقيدي أو مذهبي أو فلسفي، وتتأسس فلسفة هذه الدساتير على أنّ الدولة ـ وفق تعريفها القانوني- شخصية اعتبارية([14]).
وهنا تتعدد وجهات النظر حول موقف طه حسين، فهل انضمّ إلى المعسكر العلماني ونادى بالفصل بين الدين والدولة، والدين والعلم، أم انضمّ إلى معسكر المحافظين التنويريين الذين عملوا على التوفيق الوافد والموروث؟ معظم الباحثين رأوا أنّ طه حسين قد خاض معارك من أجل الاستنارة المصرية جعلت منه رمزاً من رموز الليبرالية، وقد خاض معاركه من أجل الليبرالية عبر عدة أبواب: أوّلها فصل التعليم عن سلطة رجال الدين، وثانيها فصل الدين عن الدولة، وثالثها اعتماد مبدأ الشك الديكارتي في النظر إلى الأشياء والوقائع والمقولات كافة([15]).
بينما ذهب قلة من الباحثين إلى أنّ طه حسين يحمل لواء المحافظين المستنيرين في دعوته للتجديد، وأنّ حبه للقديم لا يمنعه من مجّ جمود شيعته، وأنّ رغبته في التجديد لم تكفه عن رفضه تطير المتعصبين للجديد، وهو الأمر الذي يؤكد أنّه لم يخرج من عباءة محمد عبده ومدرسته، وأنّه من المجددين التوفيقيين أمثال أحمد حسن الزيات ومحمد حسين هيكل وعباس العقاد وتوفيق الحكيم([16]). ومن أجل ذلك آثرنا الرجوع إلى نصوص طه حسين لتحسم هذا الانقسام، فنجده يقول بعد أن يسهب في القول بين الخصومة بين الدين والعلم: “المسألة هي أن نعرف هل كتب على الإنسانية أن تشقى بالعلم والدين أم هل كتب على الإنسانية أن تسعد بالعلم والدين؟ أمّا نحن فنعتقد أنّ الإنسانية تستطيع أن تسعد بهما دون أن تجتهد في ألا تشقى بهما. وسبيل ذلك عندنا واضحة، وهي أن ينزع السلاح كما يقولون من يد العلم والدين، أو قلْ سبيل ذلك أن تُرغم السياسة على أن تقف موقف الحيدة من هذين الخصمين. فالعلم في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، والدين في نفسه لا يريد ولا يستطيع الأذى، ولكنّ السياسة تريد وتستطيع الأذى غالباً”([17]).
ومن ثمّ كان تحييد السياسة هو الحل الأمثل، فقد استطاعت الدول الغربية تحييد السياسة فتقدمت، واستطاعت حكوماتها أن تمشي على قدميها دون أن تعتمد على عصا دينية أو علمية، لأنّ فكرة الوطنية وما يتصل بها من المنافع الاقتصادية والسياسية الخالصة قامت الآن في تكوين الدول وتدبير سياستها مقام فكرة الدين أو مقام النظريات الفلسفية الميتافيزيقية التي كانت تقوم عليها الحكومة من قبل([18]).
ومن ثمّ يكمن التنوير في الجمع بين الدين والعلم مع تحييد السياسة، فنحن محتاجون أن ننتفع بالتكنولوجيا الحديثة ونستغل الطبيعة كلها لحياتنا ومنافعنا، والعلم وحده سبيلنا إلى ذلك، على أن ندرسه كما يدرسه الأوربيون، وويل لنا يوم أن نعدل عن طب باستور وكلود برنار إلى طب ابن سينا وداود الإنطاكي. وهذا العلم الحديث الذي لا نستطيع أن نستغني عنه لا يمكنه أن يعيش ولا أن يثمر إلا في جوٍّ كله حرية وتسامح، فنحن بين اثنتين: إمّا أن نؤثر الحياة وإذاً فلا مندوحة عن الحرية، وإمّا أن نؤثر الموت وإذاً فلنا أن نختار الجمود([19]).
ولا يعني هذا الاعتماد على العلم الحديث والاستغناء عن الدين، وهذا ما يؤكده أحد الباحثين بقوله: “فإذا كان المقصود من التنوير هو الاجتراء على الدين أو عزله أو مصادرته أو هدمه فلم يكن طه حسين تنويرياً قط([20]). وهذا ما يشير إليه طه حسين نفسه في “حديث الأربعاء”، حيث يقول: “بيننا وبين الماضي أسباب ستتصل، فما لنا لا نحتفظ بهذه المكانة التي وضعتنا فيها الطبيعة، فلا نسرف في التأخر؟ لا أمقت القديم ولا آنف من الحديث، وإنما أرى أنّي وسط بين القديم والحديث”([21]).
وهكذا يكون سؤال التنوير للسياسة التي يجب أن تقوم على الديمقراطية وتحافظ على الحرية، التي هي الغاية الأساسية منها، كما يجب تحييد دورها تجاه الدين والعلم، فلا تستغل السياسة الخصومة الطبيعية بين العلم والدين فتعتز برجال العلم وتضطهد رجال الدين، أو العكس.
حال التعليم ومستقبل الثقافة في سؤال التنوير
ومن السياسة وتفعيل الديمقراطية التي تنشد الحرية سبيلاً للتنوير المنشود إلى التعليم الذي لا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية بدونه، يقول: “إنّ العلم كالماء والهواء، يجب أن يكون متاحاً لكلّ أفراد الشعب، ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلم الشعب”([22]). ولذلك يجب أن يتعلم الشعب إلى أقصى حدود التعلم، ففي ذلك وحده الوسيلة الأولى إلى أن يعرف الشعب مواضع الظلم، وإلى أن يحاسب الشعب هؤلاء الذين يظلمونه ويُذِلونه ويستأثرون بثمرات عمله([23]). فقد أولى طه حسين التعليم اهتماماً خاصاً وجعله الوسيلة المثلى لتحقيق النهضة المنشودة، بل ربط بينه وبين الثقافة برباط وثيق، فرأى أنّ آفة الثقافة هي فساد التعليم في المقام الأول.
ولطالما أكد طه حسين على أنّ التعليم هو السبيل الأساسي لكي يكون المصريون أحراراً؛ لأنّ الذي يعرف هو الحر، ولا سبيل لأن تكون مصر حرّة حرية حقيقية إلا بإزالة غشاوة الجهل عن أعين المصريين، ولذلك فلا مندوحة للدولة من أن تقوم بكلّ شؤون التعليم ولا تتركه لعبث العابثين، فتقوم هي بوضع المناهج والبرامج وأن تقوم على تنفيذها حتى لا ينحرف التعليم عن طريقه المرسوم والمنشود، وحتى لا ينتهي إلى غرض مُباين للغرض الذي أُنشئ من أجله([24]). ولذلك عندما تولى مسؤولية التعليم في مصر وتمّ إسناد حقيبة وزارة المعارف إليه قبيل ثورة يوليو بعامين، حاول تطبيق نظرياته وأفكاره؛ فنجح إلى حدٍّ بعيد في تحقيق وتطبيق مجانية التعليم قبل الجامعي. وما أن قامت الثورة حتى تضامن معها، ومنحها لقب “ثورة” في مقاله الشهير بصحيفة الأهرام القاهرية بتاريخ 9 أغسطس 1952 والذي كان عنوانه: “أهداف الثورة” فأطلق لأول مرّة كلمة ثورة بعدما كان اسمها “حركة الجيش” أو “الحركة المباركة”، والجدير بالذكر أنّ مضمون هذا المقال هو التأكيد على التعليم قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، وفوق كلّ شيء، التعليم الذي يجعل المصري إنساناً يحتال للفقر حتى يتخلص منه، ويحتال للعلة حتى يبرأ منها، ويتحدث إلى الناس فيفهمون عنه، ويتحدث إليه الناس فيفهم عنهم، وينهاه المصلحون فينتهي، ويدعوه المصلحون إلى الخير فيجيب([25]). وهكذا كانت مكانة التعليم عند طه حسين قبل كلّ شيء وفوق كلّ شيء، فهو الطريق الأول والأهم على الإطلاق للوصول إلى التنوير المنشود، بل هو الإجابة الأولى على كل سؤال للتنوير في كلّ العصور بلا استثناء.
ولا تقلّ الثقافة أهمية عن التعليم، فهي عند طه حسين أوّل الأشياء وأعظمها خطراً وأبلغها أثراً في توحيد الأمّة العربية، وجمع كلمتها، وتوجيهها إلى الحق والخير والرقي. وإذا أرادت الأمّة العربية أن تجدّد من ثقافتها، فالتجديد الثقافي – عند طه حسين- يقوم على أركان ثلاثة: احتذاء الغرب، وإحياء التراث العربي الإسلامي، وإحياء الشخصية المصرية([26]).
ويعرّف طه حسين المثقف بأنّه ذلك الرجل الذي ذاق ألوان المعرفة على اختلافها حتى ذكا قلبه وصفا ذوقه وهذب طبعه، ونفذت بصيرته، وأصبح عقله قادراً على أن يفهم عنك حين تتحدث إليه في أي لون من ألوان المعرفة، وأصبح عقله قادراً أيضاً على أن ينفي عن نفسه الشعور بالغربة حين يسمع حديث العلماء في علومهم، أو حديث أصحاب الفن في فنونهم، أو حديث الساسة والاقتصاديين في سياستهم واقتصادهم([27]).
ولذلك قام بدور حيوي جداً من أجل إنعاش وتجديد الثقافة في مصر، فحرص على أن تكون المكونات الثلاثة للتحديث الثقافي موجودة وحاضرة، وهي احتذاء الغرب، وإحياء التراث العربي الإسلامي، وإحياء الشخصية المصرية، وقد تمثلت جهوده في إنشائه لـ”مراقبة الثقافة العامة” التابعة لوزارة المعارف التي عنيت بنشر الكتب المترجمة والمؤلفة أيضاً، ومشروع الـ”ألف كتاب” الذي استمر حتى عام 1968، وسلسة “المكتبة العربية”. كما عملت مجلة “الكاتب المصري” التي أنشأها طه حسين عام 1954 وأشرف عليها ورأس تحريرها، على إنعاش الحركة الثقافية بشكل ملحوظ. وقد راعت هذه المجلة منذ عددها الأول أن تجمع بين أصالة القديم ومحاسنه، وحيوية الجديد ومآثره، قديم لا يجحد وجوده، وهو بمثابة أساس للجديد، وجديد لا غنى عنه لمعايشة العصر ومسايرته. وكانت هذه رسالة طه حسين التنويرية التي تجسّدت في معظم كتاباته ووهب لها حياته.
وأهمّ ما يلفت انتباهنا هنا تأكيد ما ذهبنا إليه في أنّ مشروع طه حسين التنويري ليس فيه غلوّ ولا دعوة إلى التغريب التام ومحو التراث، كما في دعوة سلامة موسى بالأمس وهشام جعيط اليوم، فلم يكن العميد أبداً متنصلاً من قيم الإسلام، وقد كتب روائع لعل أهمها “على هامش السيرة، ومرآة الإسلام، والفتنة الكبرى، والوعد الحق، والشيخان”، حتى لو تأملنا مكونات رواياته فسنجدها تجمع بين القديم والجديد، وخذ مثالاً على ذلك روايته الأثيرة” دعاء الكروان” تجد فيها “خديجة، آمنة بجوار هنادي، الجمل والحصان كوسيلة مواصلات بجوار القطار، الكروان بجوار البيانو …وهكذا.
محنة طه حسين وأبعادها التنويرية
لا يمكن أن نختتم هذه الدراسة دون أن نشير إلى محنة “طه حسين” لأنّ لها أبعاداً تنويرية مهمة، كما أنّها تبين لنا أهمّ أسباب ضعف حركة التنوير المصري خاصة، والعربي عامة.
وكانت البداية أنّه بعد نشر كتاب “في الشعر الجاهلي” بعدة أسابيع تلقى النائب العمومي عدة بلاغات تفيد كلها بأنّ “طه حسين” قد تعدّى في كتابه على الدين الإسلامي، وكان أول هذه البلاغات بتاريخ 30 مايو 1926 من “الشيخ حسنين” الطالب بالقسم العالي بالأزهر يتهم فيه الدكتور “طه حسين” بأنه أَلَّفَ كتاباً أسماه “في الشعر الجاهلي” ونشره على الجمهور، وفي الكتاب طعن صريح في القرآن؛ حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم، ثم تبعه بتاريخ 5 يونيو 1926 خطاب من فضيلة شيخ الجامع الأزهر إلى النائب العمومي يتضمن تقريراً رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب “طه حسين” الذي كذَّبَ فيه القرآن صراحة وطعن فيه على نسب النبي الشريف، وأهاج بذلك ثائرة المتدينين وطلب فضيلة الشيخ تقديم “طه حسين” إلى المحاكمة، وبتاريخ 14 سبتمبر سنة 1926، تقدّم حضرة “عبد الحميد البنان أفندي” عضو مجلس النواب ببلاغ آخر ذكر فيه أنّ الأستاذ طه حسين نشر ووزّع وعرض للبيع كتاباً تعدّى فيه على الدين الإسلامي وطعن فيه، ولذلك قام بتقديم استجواب إلى البرلمان المصري يطالب فيه بطرد طه حسين من الجامعة المصرية. كما أنّ مضبطة مجلس النواب المصري في تلك الدورة عام 1926م تقول إنّ الغالبية من المعارضة الوفدية وقفت إلى جانب الاستجواب، وطالبت بطرد طه حسين من التعليم الجامعي، باستثناء علي الشمسي وزير المعارف حينذاك الذي قال: “إننا نطمع في أن تكون الجامعة معهداً طلقاً للبحث العلمي الصحيح”، في حين أمسك الزعيم “سعد زغلول” العصا من المنتصف، وقال: “إنّ مسألة كهذه لا يمكن أن تؤثر في الأمّة المتمسكة بدينها، هبوا أنّ رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق، فهل يضير العقلاء شيء من ذلك؟ إنّ هذا الدين متين، وليس الذي شكّ فيه زعيماً أو إماماً نخشى من شكّه على العامّة، فليشك من شاء، وما علينا إن لم تفهم البقر”، وعلى الرغم من هذا أرغم النائب الوفدي على سحب استجوابه بعد أن هدّد عدلي يكن بالاستقالة من رئاسة الوزراء([28]).
وقد حصر النائب العمومي محمد نور الاتهامات الموجهة ضدّ طه حسين في أربعة: الأول أنه أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل، والثاني أنّ المؤلف يزعم أنّ القراءات السبع، المتفق عليها والثابتة لدى المسلمين، غير مُنزّلة من عند الله كونها نتيجة لاختلاف اللهجات فقد قرأتها العرب بحسب ما استطاعت. والثالث أنّه طعن في حقيقة نسب الرسول الكريم، والرابع أنّه أنكر أنّ للإسلام أولية في بلاد العرب وأنّه دين إبراهيم([29]).
وقد حقق محمد بك نور طويلاً مع طه حسين، وجادله، ثم قرّر حفظ القضية إدارياً؛ ليس لأنّه متفق مع ما جاء في الكتاب، بل رغم اختلافه مع ما جاء في الكتاب ومع طه حسين، ولكن نظراً لعدم وجود القصد الجنائي فيما كتب طه حسين إذاً فلا جريمة ولا عقاب.
وهنا تتضح بعض النقاط التنويرية التي تكمن في عظمة القاضي المستنير الذي لم يقف عقبة أمام البحث العلمي، على الرغم من عدم اتفاقه مع آراء المؤلف. وكيف بدا هذا القاضي مستنيراً ملمّاً إلماماً رائعاً بالتاريخ والفلسفة والأدب، وكيف جاءت أسئلة الاستجواب، وكيف تَقَبَّلَ الإجابات عليها بتفهم وبصدر رحب لا يقف عند مراميها القريبة بل تصل إلى استيعاب مقاصدها البعيدة. كما تعكس هذه المحنة أيضاً بُعداً تنويرياً في الاتجاه المعاكس، حيث إنّ عدم تنوير الشعب والقوى الجماهيرية كان هو المشكلة الرئيسة، فرغم أنّ هذه الجماهير أثبتت مقدرة نادرة في الصمود ومواجهة المحتل، إلا أنّها فشلت في احتواء الحرية الفكرية، التي أصبح لا يدافع عنها إلا النخبة المثقفة وهي نسبة محدودة جداً. ومن ثمّ كان هذا الدافع واحداً من أهمّ الدوافع التي دفعت طه حسين – بعد ذلك- إلى أن يأخذ على عاتقه مهمّة تنوير الجماهير العريضة من أجل تحقيق التقدّم العلمي واللحاق بركب الحضارة، فكان من أهمّ من حملوا مشعل التنوير في بلداننا العربية، من خلال ما تركه لنا من إرث ثمين، تمَثَّلَ في أعماله الأدبية والفكرية والنقدية والتاريخية. فاستحق بجدارة أن يوضع في طليعة روّاد التنوير في العالم العربيّ.
* نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، العدد الثامن، 2016، إصدارات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
(**) عميد الأدب العربي لقب منحته له جماهير الأمّة العربية التي نهلت من علمه، وقرأت أدبه وإبداعه، فعرفت فضله وقدره، فلم تبخل عليه بهذا اللقب الذي لم ينازعه فيه أحد من قبله ولا من بعده في دولة الأدب. انظر: محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر (أربعون عاماً من الحضور رغم الغياب)، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى، 2014، ص 312
[1] طه حسين: الأيام، القاهرة، دار المعارف (طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم) 2007، ص 132
[2] جابر عصفور: أنوار العقل، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996، ص 5
[3]إيمانويل كانط: الإجابة عن سؤال: ما التنوير؟ القاهرة، مجلة أوراق فلسفية، العدد السادس، يوليو، 2002، ص 82
[4] مراد وهبة: المعجم الفلسفي، القاهرة، دار قباء، الطبعة الرابعة، 1998، ص 231 (مادة تنوير).
[5] جابر عصفور: أنوار العقل، ص 6
[6] محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر (أربعون عاماً من الحضور رغم الغياب)، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى، 2014، ص 36
[7] أيمن تعيلب: مقدمة كتاب: الكتب الممنوعة بين الإبداع والمحاكم لوفاء سلاوي، الجزء الأول، القاهرة الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2014، ص 30
[8]نقلاً عن: محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر، ص 35
[9] طه حسين: على هامش السيرة، القاهرة، طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2014، ص 11
[10] المصدر السابق، ص ص 11-12
[11] طه حسين: في الشعر الجاهلي، الطبعة الأولى، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1926، ص 12
[12] وفاء سلاوي: الكتب الممنوعة بين الإبداع والمحاكم (الخطاب والتأويل)، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2014، ص ص 51-52
[13] وفاء سلاوي: المرجع السابق، ص 53
[14]طلعت رضوان: طه حسين نور من عصر التنوير، مقدمة كتاب طه حسين: من بعيد، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012، ص 9
[15] رفعت السعيد: الليبرالية المصرية، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007، ص 205
[16] عصمت نصار: مقال بعنوان: إشكالية العلاقة بين الدين والعلم عند طه حسين، منشور ضمن كتاب: “اتجاهات فلسفية معاصرة في بنية الثقافة الإسلامية”، القاهرة، دار الهداية، الطبعة الأولى، 2003، ص 81
[17] طه حسين: من بعيد، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2012، ص 168
[18] المصدر السابق، ص 169
[19] المصدر السابق، ص 180
[20]عصمت نصار: مرجع سابق، ص 81
[21] طه حسين: حديث الأربعاء، الجزء الثالث، القاهرة، دار المعارف، 1925، ص 12
[22] نقلاً عن: محمد فتحي فرج، طه حسين وقضايا العصر، ص 51
[23]محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر، ص 51
[24] طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، الجزء الأول، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993، ص 60
[25] طه حسين: مقال أهداف الثورة، صحيفة الأهرام القاهرية، بتاريخ 9/8/1952
[26]محمد فتحي فرج: طه حسين وقضايا العصر، ص 67
[27] المرجع السابق، ص 69
[28] عيد عبد الحليم: الحرية وأخوتها، القاهرة، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 2008، ص ص 38-39
[29] وفاء سلاوي: الكتب الممنوعة بين الإبداع والمحاكم، ص 23