احتضنت العاصمة البحرينية (المنامة) على مدار أربعة أيام متواصلة سلسلة من المحاضرات حول مولانا جلال الدين الرومي وشمس تبريزي، حاضر فيها الأستاذ خالد محمد عبده، الباحث في الإسلاميات والتصوف ومدير مركز طواسين. ركّزت المحاضرات على التعريف بالرومي معتمدة على المصادر العربية والفارسية من أجل تصحيح معارفنا اليوم حول هذه الشخصية الشهيرة، مهّدت المحاضرات بالحديث عن التصوف والروحانيات والاهتمام بها في العصر الحديث، وصور الاهتمام بالتصوف، المعرفي والسلوكي والاستشراقي، كما حاول المحاضر أن يلفت النظر إلى الهوة الشاسعة بين ما كان بالأمس من حضور حقيقي للتصوف وما وصلت إليه بعض البلدان اليوم، ومن أمثلة ذلك تركيزه على حضور الروحانيات في بلخ (أفغانستان) واشتهارها بالأمس بعلماء وأولياء من أمثال إبراهيم بن أدهم وشقيق البلخي وغيره من الزهاد.
رحلةٌ من الله وفي الله وإلى الله، في هذه الرحلة طاف الحاضرون مع المدرسة الكبروية، التي كان على رأسها صانع الأولياء نجم الدّين كبرى، صاحب فوائح الجمال وفواتح الجلال، ورأوا كيف انتقل بهاء الدين ولد سلطان العلماء وغارس بذرة مولانا بأسرته هربًا من المغول مارًّا بمكة وبغداد وسوريا وغيرها من البلدان، ليرى الرومي وهو طفل كيف يفرّ الإنسان بالله ليعود به أقوى، ويتنبأ البعض للرومي بمستقبل عظيم، فيُنسب إلى الشيخ الأكبر ابن عربي أنه قال حينما رأى الرومي يسير وراء والده (سُبحان الله محيطٌ يمشي خلف بُحيرة) ويتحدث الرواة أن عطّار نيشابور أهدى كتابه (أسرار نامه) للرومي.
آباءٌ روحانيون عدّة للرومي، تحدثت المحاضرة الثانية عن هؤلاء الآباء، شيوخ الرومي غير المباشرين من حظوا بالتبجيل في كتابات الرومي وتأثّر بهم، لم يقتصر الحديث عن سنائي صاحب حديقة الحقيقة أو فريد الدين العطار صاحب منطق الطير، بل تناول الحديث الإمام القشيري والغزالي، والحلاج وبايزيد البسطامي، وكيف استفاد الرومي من هذه الشخصيات، واستفاد من غيرهم عبر مطالعته واستمداده من التراث الإنساني بشكل عام، وقدّمت المحاضرة شرحًا لقصة من القصص استفاد الرومي في صياغته من التراث اليوناني والبوذي كما استفاد من قصص كليلة ودمنة، وعرضها في صورة من النادر أن نحصل على مثلها عند غيره.
“كنتُ ثلجًا وتحت أشعتك ذُبت..” كتب الرومي على باب غرفة شمس تبريزي هذه الجملة، كان وجود الرومي غليانا وحينما يمم شطر شمس تبريزي نضج وأثمر ثمارا عدّة، تناولت المحاضرات عرض هذه الثمار وشرح بعضها، فُشرحت عدّة قصص من قصص المثنوي، وفصول من كتابه البديع (فيه ما فيه)، وكشفت عن الجانب الاجتماعي في رسائل الرومي، وكيف أنه تخلّق بالخلق المحمدي الرفيع وعاش (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). واهتم بالعلاقات الإنسانية وعمل الخير لعيال الله جميعًا..
“رأيتُ نفسي مُرًّا فتعلّقتُ بالسُّكّرِ، كنتُ كأسًا ملآى بالسُّمِّ فلجأت إلى المسيح المحيي”. كان شمس تبريزي طبيب الرومي ومؤدبه الروحي، ونور الحق بالنسبة له، لم تحظ هذه العلاقة بفهم جيّد من المريدين في عصر الرومي، وكذلك اليوم في عصرنا الحديث، وتحدث الناس عن شمس تبريزي حديثًا يبتعد كثيرًا عن الحقيقة والصواب، واعتمدوا في معارفهم اليوم على ما يُقال عنه في الروايات الأدبية، متغافلين عن المصادر الموثّقة التي تتحدث عن هذه الشخصية، وعن أثرها الهام الذي لم يُعرف عربيًا حتى اليوم نظرًا لأنه لم يُنقل عن الفارسية بعد، وهو “مقالات شمس” الذي حُقق ونُشر بالفارسية نشرات عدّة وتُرجم إلى عدة لغات غير العربية.
حقيقة شمس تبريزي، حاولت المحاضرات أن تقاربها عبر الاستناد إلى أثره (المقالات) التي قُدّمت مختارات منها في المحاضرات، وتم شرحها، من أجل التعرّف بشكل حقيقي على هذه الشخصية.
ومن الجوانب التي لم تغفلها المحاضرات كيفية التلقي السلفي للرومي والمولوية، إذ نوقشت بعض الأعمال الصادرة حديثًا في هذا السياق موضحة خطأ كثير من التصورات المطروحة فيها.