خاص- ثقافات
*عمر ح الدريسي
بالرّغم من ضبابية المَشْهد وقتامة المَشَاهد المُكونة له، إلا أنه لا يمكننا أبدا إلا، “أن نشد على الحياة بكل ما نملك من قوة وصبر. حتى عندما نفقد الأمل في كل ما يحيط بنا، علينا إعادة خلق الحياة وابتداعها.”، كتبها العبقري والأديب سيرفانتس وهو في مغارة منفاه بعيدا عن موطنه الأندلس، قالها على لسان دون كيخوتي وهو يحادث سانشو في مواجهة طواحين الهواء. في عصرنا، بتنا نسمع كثرة الهجيع لأنواع شتى من الطّواحين دون أن نرى طحينا، ويا عجبا، كم نسأم من رعد يعلو سماءا من السحب، ونحن نترقب، فإذا هو بلا مطر… !!
تُعد الأُطر التدريسية والمؤسسات التعليمية وأعداد المتمدرسين والمتكونين من مختلف المستويات في جميع البلدان، أهم ما يُفتخر به بين الأمم. بواسطتها تُربي وتُكون أجيال الغد، عن طريق روادها تَبني نَشْئا يحمل هويتها، لغتها، تاريخها، ، ثقافتها، عقائدها، نَشْئا يحمي كينونتها، فهي مشتل المبادئ والأخلاق والقيم والرقي والتطور والتقدم، فإما أن تكون نبعا صافيا يرتوي منه الجميع ماءا زلالا، أو تكون غير ذالك، مما ينعكس على تكوين الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة والإنسانية جمعاء، يقول الشافعي “ومن لم يذق مُرَّ التعلمِ ساعــةً **** تجرّع ذُلَّ الجهلِ طول حياتهِ”.
يقول الشاعر الروسي جوزيف برودسكي، أمامك خيارين، أن تمضي قُدماً نحو النمو والتعلم أو تتراجع للخلف حيث الأمان وعدم المجازفة. أنْ تتكلم عن التربية والتعليم والتكوين، وكأنك تتكلم عن عرف من أعراف الجاهلية أو مرسوم من مراسيم “حمو رابي”. أما أن تتكلم عن التّمدرس، فتلك من أهم المشاكل التي يتحدث عنها الجميع، أفرادا، عائلات، مؤسسات قطاعية وحتى البرامج “الإنتخابوية” مع الأسف، وكفى! أما وإن تكلمت، وقلت على أن لغة التدريس، يجب أن تكون مُوحدة كسائر لغات الدول المتقدمة العظمى، فأنت حتما مخبول، ومخبول إن قلت في بلد، ولغته الرسمية والدستورية الأولى، يجب أن تكون هي لغة التدريس مع مصاحبتها بتعلم أهم اللغات الحية.. !؟
بات الكل يريد الثمار، دون النظر للأسس؛ الكُل في غِنًى عن تساؤلات تحرق الرأس أكثر من شيء آخر، الجميع في سباق محموم نحو ما يظنه أقرب الطُّرق لِ “المادة=الشغل”، طبعا، يظن أولها المؤسسات الخاصة، وحتى ذات الاستقطاب المحدود أو إلى خارج الوطن، وهذا ما يضرب مبدأ “المساواة في التعليم” ومبدأ “تكافؤ الفرص” ويضرب في مبدأ “الحق في التعليم للجميع”، وبالكاد بات الرضا، بل أصبح آفلا عن المؤسسات العمومية ذات الاستقطاب العام، بالرغم مما لها من قيمة تأطيرية، تربوية، وطنية وأكاديمية عليا، وما لأطرها العلمية التكوينية المحترمة من عظيم وزن… !؟
الفيلسوف وعالم النفس الألماني إيريك فروم يرى أن الإنسان في عصرنا أصبح آلة مسيرة من وحوش الرأسمالية ومن العقائد والأيديولوجيات والأديان. لم يوفر المجتمع أي فسحة للإنسان، لإظهار جوهره الروحي وكينونته التي يجب أن تحتفي بالقيم الجمالية في هذه الحياة، وكثير من الناس يدرك أهمية ذاته الحقيقية، لكنه يفضل أن يبقى مستعبداً من قبل هذه الأوهام، يوضح ذالك فروم أكثر مع العولمة وتحطيم الحدود وازدياد شراهة الفرد وهيمنة المؤسسات عليه، يقول فروم: “إن إشباع كل ما يَعْن للناس من رغبات بغير قيود، لا يُوصل إلى الحياة الطيبة، وليس هو السبيل إلى السعادة ولا حتى إلى المتعة القصوى. إن حلمنا بأن نكون السادة الأحرار لحياتنا قد انتهى، وذلك عندما بدأنا ننتبه إلى أننا جميعاً قد أصبحنا مجرد تروس في الآلة البيروقراطية، وأن الصناعة والحكومة وأجهزتهما الإعلامية هي التي تشكل مشاعرنا وأفكارنا وأذواقنا وتتلاعب بها كما تريد.”… !!
إذن فغموض التعويض على مستوى الشهادة بحسب سنوات الدراسة والأقدمية بين القطاعات وبحسب التخصصات رجح من كفة خريجي المؤسسات الخاصة والخارجية، لما لهم من حظوة في التوظيف والمكانة الاجتماعية وسبل طرق أبواب النخبة. بالطبع كل ذالك يضمن لهم تعويض مقبول ومكانة ووجاهة إجتماعية متقدمة؟ لأن الجميع اتفق على معضلة تقض المضاجع اسمها “التعليم”، والتعليم براء، براءة الذئب من دم يوسف..! فأسقطوا عليه غُبن يوسف بحيث ما فتؤوا ينكَّسُون من قيمة الشواهد العلمية، بإلزاميتها بعدم الأقدمية (عقبة التسجيل في الجامعات والإنقلاب على مبدأ “الحق في التعليم مدى الحياة”، أو “حق التقدم للمباريات”، وبإلزامية المعدلات والعلامات المرتفعة ومن بعدها انتظار الإنتقاء وجوبا، ومن بعدها اجتياز المباريات ذات الطلب القليل جدا و بتَـقدُم أعداد كبيرة من المتبارين لها، وبعد الإنتطار القهري الطويل، المحظوظ جدا، هو من يُوظف، وبأي تعويض..؟ وفي أي ظروف عمل؟
هذا لننبه إلى أن المجتمع الحديث المتمثل بالتطور الحضاري والصناعي الذي شهده العالم قد أورث الكثير من البشر أمراضاً نفسية واجتماعية، وحالات من العُصاب والهوس التدميري. فما بالك مع نشوء المدن والتجمعات السكانية الضخمة في بلد لازال يصارع الفرد فيه ما بين التقليد والحداثة، ما بين مفهوم الحرية ومفهوم المساواة ومابين مفهوم الحق و القانون والعدالة… من دون أن ينفك من ذالك، فرضت عليه لقمة العيش المنافسة دون استعداد قبلي في كيفية التنافس.. !!
فالغول الذي يتهدد، هو قلق الحضارة بعاهات التخلف الفكري وأمراض عدم الرشد العقلي، قلق يهدد الإنسان في طبيعته وعُمقه، ويجعله آلية محكومة بمحرار المردودية المادية الصرفة، ووفرة العمل العيني الصرف، والزواج الفيزيائي والبيولوجي “غير التكامل الروحي العاطفي والقلبي..”، وجمع المال بأية وسيلة، وأن يلبس أقنعة اجتماعية كثيرة، وأن ينسلخ عن ذاته، ويتموقع بوجوه نفاق متعددة، يحسبها تُحقق له أهدافه، في حين، تجعله خائفا من حقيقة ذاته التي بات يتهرب منها، من هول ما وقع فيه دون أن يعلم.. !!
هُنا وَجَب مُساءلة مخططات التربية والتهذيب والتعليم، عن كل ما ذُكِر آنفا في المقال، ما دورها الأساس في ضمان المُستقبل، وبكرامة ومساواة ودون ميز لكل أبناء الوطن، وما دورها في مرونة التضاد ما بين طُغيان المادة وأُفول القيم الإنسانية، وفي تنشئة الفرد عموما داخل هذا المجتمع الذي بدأ يعيش حالة غير مسبوقة من التوحش المادي؟
المجتمع هذا، الذي أصبح حلبة للصراع والإحساس بالتفوق المغلوط، مع الوقوع في فخ المقارنات والرغبات الغير الطبيعية، مما أنتج صراعات داخل الفرد نفسه، وأبرز صراعات الخوف وانفصامات شخصية، تُغذي العُصاب وفوبيا الاضطهاد والواسوس، بينه وبين من حوله، كان من كان.. !!
السؤال الوجيه أكثر، كيف يمكن أن نتخطى العجز التربوي والعلمي والاقتصادي والثقافي المحلي والجهوي والعالمي، وأن ننتشل ما يمكن انتشاله من قاع البئر الجاف والمظلم، وكأننا بشر بقينا من نوع الزواحف، الذي نُمنا فيه طويلا، والسفح الذي لم نعرفه بعد، وأن نتصدى إلى الخوف من هزائم الأمية والجهل والحضارة والوعي بالذات كـ إنسان أولا أخيرا” والوعي بالحياة وبالمستقبل وأن لا نُخطئ عصرنا مرة أخرى بين الأمم.. ؟!
للتواصل مع الكاتب: Email: drissi-omar1@live.fr