*ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي
أواصل في هذا القسم تكملة الحوار مع الروائية – الفيلسوفة ريبيكا غولدشتاين ، وقد نُشِر الحوار في موقع ( Ploughshares ) الإلكتروني في 23 آذار 2012 وأجرته ( راشيل كاديش Rachil Kadish )
“المترجمة”
________
الحوار
* نعلمُ جميعاً الاتّجاهات السائدة في الثقافة الأمريكيّة الشائعة والمضادّة للتساؤلات الفلسفيّة العميقة الّتي تحتويها أعمالكِ . هل ترين اختلافاً في مدى انتشار أعمالكِ بين القرّاء الأمريكييّن والأوروبيين ؟
– الحقّ أنّ أعمالي لقيت قبولاً باهتاً في القارة الأوروبيّة وربّما لم يلقَ بعضها أيّ اهتمام على الإطلاق . تُرجِم القليل من رواياتي إلى بعض اللغات ولكنّ أيّاً منها لم تُترجَمْ إلى الفرنسيّة رغم أنّ الثقافة الفرنسيّة هي الثقافة الأكثرُ تعاملاً جدّياً مع الرواية الفلسفيّة ، وربّما عليّ الاكتفاء بالقناعة والامتنان لأنّ لديّ الكثيرين ممّن يقرأون أعمالي في الولايات المتّحدة والعالم الناطق بالإنكليزيّة حسب .
* في كتابكِ “خيانة سبينوزا: الفيلسوف المتمرّد الّذي منَحَنا الحداثة” تمتحنين حياة فيلسوفِ التنوير الأوروبي بكثيرٍ من الصرامة والتعاطف في الوقت ذاته ، وعندما تقتربين من خاتمة حكايته ينزلق الكتاب في اتّجاه روائيّ محض . أعلمُ أنّكِ سعيتِ إلى استكشاف حياة سبينوزا بعين فيلسوف متمرّس ولكنّك صوّرتِ موته بعين روائيّ مسكون بعاطفة جيّاشة : سالت الدموعُ على وجنتَيَّ بغزارة وانا أقرأ عن موت سبينوزا في كتابك رغم أنّني كنت أستبعدُ حصول هذا تحت أيّ ظرف عند قراءتي لأيّة سيرة تحكي عن سبينوزا !! و يمكنني اليوم أن أتفهّم انّ رقّتكِ المفرطة في تصوير خاتمة حياة الفيلسوف كانت الثمرة الكاملة لدراستك المدقّقة لحياته والضغوط المجتمعيّة الّتي انصبّت على رأسه عندما حاول إثبات فرادة صوته الفلسفيّ ، و قلّما عرفتُ كُتّاباً مثلكِ ممّن يحصل لديهم انزياحٌ عند كتابة السيرة باتّجاه تشكيلها كعمل روائيّ . هل كان هذا الانزياحُ لديكِ خياراً حاسماً منذ البدء في العمل أم أنّه تسبّب لك في الكثير من المساءلة والامتحان قبل المضيّ إلى آخر شوط الكتابة ، كما أودّ السؤال عن كيفيّة استقبال المجتمع الفلسفيّ لهذا العمل المتفرّد في شكله الأدبيّ ؟
– كم أنا سعيدةٌ لمعرفة أنّكِ بكيتِ عند قراءة هذا الكتاب فقد بكيتُ انا أيضاً عندما أكملتُ كتابته !! . درّستُ لعقود طويلةٍ عمل سبينوزا المهم والموسوم ( الأخلاقيّات Ethics ) ولطالما غمرتني قناعة مؤكّدة أنّني فهمتُ منظومته الفكريّة بدقّة ، ولكنّ ما حصل هو أنّني أنهيتُ كتابة كتابي عن سيرته وأنا لديّ فهمٌ جديدٌ له وكانت تلك لحظة عاطفيّة مؤثّرة للغاية بالنسبة لي ولحبّي له كمفكّر وفيلسوفٍ عظيم . جاءت معرفتي المستجدّة بـ ( سبينوزا ) بعد ان اقتربتُ كثيراً من شخصيّته وسمحتُ لنفسي أن أتخيّل ما الّذي سيحدثُ لو كنتُ أنا وُضِعتُ بدلاً عنه في المواقف الكثيرة الّتي مرّت بحياته الثريّة وهكذا تعمّقت معرفتي الفلسفيّة به بعد خيانتي له عندما حاولت تخيّل حياته مستخدمةً وسائلي الشخصيّة . كنتُ فعلاً مندهشة للغاية لمعرفتي أن لا أحد من مُراجعي الكتاب جاء على ذكر هذا الانزياح من الشّكل غير الروائيّ إلى الشكل الروائيّ في ذات العمل وما الّذي يمكن أن يعنيه هذا الشّكل الأدبيّ المستحدثُ عند كتابة كتاب يحكي عن سيرة سبينوزا بخاصّة ، وأقول لكِ بكلّ وضوح ، راشيل ، أنّكِ أوّلُ شخصٍ ألتقيه و يأتي على ذكر حقيقة هذا الانزياح في كتابي !! و لطالما ظننتُ أنّ هذا الانزياح سيكون علامة فارقةً حول سبينوزا وحول التقاليد الفلسفيّة الّتي مثّلها في حياته وتضاعفت دهشتي كثيراً عندما علمتُ أنّ من كتب مراجعة نقديّة للكتاب في النيويورك تايمز هو ( هارولد بلووم )* بذاته والّذي عُرف عنه على الدوام بأنّه قارئ متمرّس وذو خبرة ممتازة ، وكان أمراً صادماً أنه لم يترك أيّة ملاحظة تشير إلى طبيعة العمل الّذي يحكي عنه الكتاب ولو في شكل إشارة سطحيّة عابرة كما أنّ ( بلووم ) لم يُلقِ بالاً إلى المحاذير الأسلوبيّة فضلاً عن الأجناس الادبيّة المشتبكة في الكتاب كما أهمل تماماً ما يمكن أن تعنيه كلّ هذه الملاحظات وبخاصّة عند كتابة كتابٍ أدبيّ مؤسّسٍ على قاعدة فلسفيّة . على العكس من المجتمع الادبيّ دهشتُ كثيراً للحفاوة البالغة التي استقبل بها المجتمع الفلسفيّ كتابي وبالتحديد عندما كتب ( هيلاري بُتنام ) ** أحد أعظم الفلاسفة الأحياء مراجعة شاملة أطرى فيها كثيراً على كتابي ، وعلى الرغم من أنّ الفلاسفة أهملوا هم الآخرون ملاحظة الانزياح نحو الشكل الروائي كلّما اقتربنا من خاتمة الكتاب ولكنّهم في أقلّ التقادير تعاملوا بجدّية – لا يمكن إغفالها – مع كتابي .
* مع منْ تشعرين بصلةٍ أكثـر قرابةً : الروائييّن أم الفلاسفة ؟
– أحبّ الطريقة الّتي تعمل بها العقول الفلسفيّة حيث الدقّة والانضباط والصرامة التحليليّة وأنّه لأمرٌ في غاية الإمتاع لي أن أكون محسوبةً على المجتمع الفلسفيّ أكثر من أيّة جماعة بشريّة أخرى ، ولطالما رأيتُ في المساءلات الفلسفيّة نمطاً شبيهاً بمدىً من التردّدات الصوتيّة الّتي لا يستطيع التقاطها سوى قلّةٍ من الناس ، وبالنسبة لي فإنّ سماع فيلسوفٍ مرموقٍ يتكلّم هو بمثابة الاستماع إلى موسيقى رائعة . بعد أن نشرتُ روايتي الأولى راودني شعورٌ أنّني أصبحتُ منفيّةً خارج المجتمع الفلسفيّ وكنتُ حينها شابّة للغاية عندما نُشر كتابي “معضلة العقل – الجسد” ولم أكن حينها متدرّبةً بما يكفي للتعامل مع الاهتمام الّذي حازه العمل أو مع الإشكاليّة الّتي أثارها : لم أكن أعي حينها أنّ بعض المنتمين إلى المجتمع الفلسفيّ سيتعاملون مع هذا الأمر على أنّه مؤشّرٌ حاسم لعدم استحقاقي أن أكون فرداً في المجتمع الفلسفيّ !! ، وما ساهم في تعقيد المشهد أكثر أنّ تخصّصي الفلسفي كان في ميدان فلسفة العلم الّذي لا يضمّ سوى القليل جدّاً من أسماء فلسفيّة نسائيّة – ولم يزل الامر هكذا حتّى يومنا هذا – لذا يمكن تصوّر طبيعة الرحلة السيزيفيّة التي بدأتها عندما اخترتُ هذا التخصّص الفلسفيّ، ثمّ حصل أنّني مضيت ونشرتُ رواية !!! تصوّروا وقع هذا الأمر حتّى على هؤلاء الّذين تعاملوا مع إنجازي الفلسفيّ بغاية الجدّية قبل أن أنشر روايتي ثمّ باتوا يتعاملون معي بعد نشرها و كأنّ ذلك الجزء المسؤول في دماغي عن معالجة الأفكار الفلسفيّة قد استحال عصيدةً !! . كنتُ أنا من جانبي صغيرةً للغاية لكي أدركَ سخف هذا التصوّر واندفعتُ بالمقابل في ردّة فعلٍ طائشة انسحبتُ بسببها من المجتمع الفلسفيّ ولم أعُد أحضر اللقاءات الفلسفيّة أو أكتب ذلك النوع من الأوراق البحثيّة الّتي كنتُ معتادةً على كتابتها ، وأعترفُ بأنّ هذا الفعل تسبّب لي بأكثر أشكال الألم قسوةً لأنّه وضعني في دائرة العزلة عن هؤلاء الأشخاص الّذين لطالما أحببتُ التعامل وتبادل الأحاديث الفلسفية معهم . حصل في السنوات الأخيرة وبعد أن نشرتُ عمليّ : ( عدم الاكتمال : برهان ومتناقضة كورت غودل ) و ( خيانة سبينوزا : الفيلسوف المتمرّد الّذي منحنا الحداثة ) أن مررْتُ بفترة نقاهةٍ وإعادة تأهيل فلسفيّة – ولو أنّ الامر جاء على نحوٍ تدريجيّ – بغية إعادة إندماجي في العالم الفلسفيّ ، ثمّ نشرتُ روايتي الأخيرة *** ( 36 دليلاً على وجود الله : عملٌ روائيّ ) الّتي لاقت نقاشاً ومراجعات مستفيضة من قبل كثرةٍ من الفلاسفة المرموقين .
ثمّة برنامجٌ إذاعيٌ ذائع الصيت يدعى ( حديثٌ فلسفيّ Philosophical Talk ) يُذاعُ من ستانفورد ويدير حواراته اثنان من ألمع الفلاسفة : ( جون بيرّي John Perry ) و ( كين تايلور Ken Taylor ) ، وحصل ذات يومٍ وبعد أن نشرتُ كتابي الأخير أن دعاني هذان الفيلسوفان لحوارٍ لذيذ يتمحور حول الوسائل الّتي يمكن لها أن تلقي أضواءً كاشفة على الأفكار الفلسفيّة وما زلتُ أذكرُ الدعابة اللطيفة الّتي أطلقها جون بيري عندما عدّ عملي صفقةً رابحةً ودعا القرّاء إلى اقتنائه لانّهم بهذا يوفّرون على أنفسهم المال عندما يقتنون عملين في كتابٍ واحد : رواية وعملاً فلسفيّاً معاً !! ، وعند تلك اللحظة بالذات أحسستُ بالدهشة الّتي أعادتني إلى ذات المجتمع الفلسفيّ الّذي كنت نُفيتُ عنه قبل ما يقاربُ العشرين سنة ، وأذكرُ أيضاً أنّني عدتُ بعد الحوار إلى منزلي واخبرتُ زوجي :”هذه لحظةٌ مثاليّةٌ لي لأموت فيها لأنّني لا أحسبُ أنّ ثمّة سعادةٌ تنتظرني أكثر من السعادة الّتي غمرتني هذا اليوم ” .
هوامش المترجمة
* هارولد بلووم Harold Bloom : ناقد أدبي أمريكيّ مولود عام 1930 وعمل لفترة طويلة أستاذاً للإنسانيّات في جامعة ييل Yale الأمريكيّة . بدأ النشر منذ عام 1959 و نشر منذ ذلك الحين أكثر من عشرين كتاباً في النقد الادبيّ بالإضافة إلى رواية وبضعة كتب تختصّ بالموضوعات الدينيّة كما عمل كبير محرّرين لمئاتٍ من الأنثولوجيّات الصادرة عن دار نشر ( Chelsea House ) والتي تختصّ بالشخصيات الأدبية و الفلسفيّة .
** هيلاري بتنام Hilary Putnam : فيلسوف ورياضيّاتي وعالم كومبيوتر أمريكيّ المولد ، ولد عام 1926 وتوفي مطلع عام 2016 يعدّ الشخصيّة الفلسفيّة الاهمّ في حقل الفلسفة التحليليّة الّتي كتب في أغلب فروعها : الفلسفة العقليّة ، فلسفة اللغة ، الفلسفة الرياضيّاتيّة ، وفلسفة العلم بعامّة . عمل أستاذاً متمرّساً في جامعة هارفرد وقد ألّف و ساهم في تحرير العشرات من المؤلّفات نذكر منها :
– فلسفة الرياضيات : قراءات منتخبة ، 1983
– الأوجه المتعدّدة للواقعيّة ، 1987
– تجديد الفلسفة ، 1992
*** لا بدّ من الإشارة هنا أنّ الكاتبة نشرت آخر عمل لها في آذار 2014 تحت عنوان ( أفلاطون في عصر غوغل : الأسباب الكامنة وراء عدم موت الفلسفة ) كما نوّهنا لذلك في المقدّمة التعريفيّة بالكاتبة .