هل التاريخ مجرد أحداث دونت أم مرآة تعكس صور الشعوب؟

القاهرة – يحاول الباحث شوقي الجمل في كتابه “علم التاريخ” أن يعالج موضوعين مترابطين ومتكاملين يصعب فصل أحدهما عن الآخر، الموضوع الأول عن نشأة علم التاريخ منذ بدئه على شكل قصص وروايات، ثم تطور مع تطور المعرفة الإنسانية، وتعرّض الكاتب لدور العرب في هذا المجال والشوط الذي قطعوه فيه، فخصص فصلا كاملا لذلك.

أما الموضوع الثاني، فهو متعلق بالمنهج الذي يجب أن يلتزم به الباحث في هذا الميدان، حيث بدأ الكتاب مع الباحث منذ اختياره لموضوع بحثه وحتى تنسيق المادة التاريخية تمهيدا لعرضها على هيئة موضوع متكامل متجانس ومترابط، معتمدا في كل ذلك على القواعد المتعارف عليها والتي أصبحت الأسس الرئيسية التي يقوم عليها البحث التاريخي. كما يعرض الجمل في كتابه، الصادر عن المكتب المصري للمطبوعات، آراء وأفكار العديد من المؤرخين الذين برزوا في هذا الميدان واهتموا بهذه الدراسة ودراسة منهج البحث التاريخي.

التاريخ والحقيقة

ينقسم الكتاب إلى عدة فصول، حيث عرّف المؤلف في الفصل الأول التاريخ ووصفه بأنه التوقيت، أي تحديد زمن الأحداث، ثم استعرض نشأة التاريخ في صورة قصصية، ودور التوراة في تدوين الأحداث، ثم تطرق إلى اهتمام الإنسان بالتاريخ منذ فجر الخليقة ووضّح أهمية الدين في تكييف حياة الإنسان ونظرته إلى هذه الحياة، وكانت أقدم المحاولات لتدوين التاريخ تلك التي قام بها الكاهن المصري مانيتون ثم الكاهن البابلي بيروسوس، ثم بيّن دور الآشوريين والعبرانيين والإغريق في كتابة التاريخ، ومن هؤلاء تحدث عن المؤرخين الإغريقيين هيكتوس وهيرودوت وثوكوديريس، الذين تميزت كتاباتهم بالبعد عن الخرافات، ثمّ جاء الرومان أمثال بوليبوس الإغريقي ويوليوس قيصر ثم ليفي وتاسييت وكان اهتمامهم بكتابة تاريخهم لتوضيح عظمة روما في الأزمنة الأولى، وعند الاعتراف بالديانة المسيحية أصبح التاريخ في يد القساوسة والرهبان وقد نظروا إلى الأحداث على أنها نتيجة لتصرف الإنسان لكنها مرتبطة بإرادة الله أيضا.

وفي العصور الوسطى بدأ التاريخ بالتدقيق وسار على تدوين الأحداث المعاصرة، أما في عصر النهضة، فقد اتسمت كتابة التاريخ بروح النقد والتحليل والتمحيص، وكان على رأس كتاب التاريخ حينذاك لورانزوفالا ونيكولا مكيافيلي، وعند حدوث حركة الإصلاح الديني التي بدأها مارتن لوثر أصبحت للتاريخ قيمة خاصة عند ظهور الصراع بين الإصلاحيين والكاثوليكيين، فأخذ التاريخ يهدف للوصول إلى الحقيقة.

Untitled-12613112113441312

يتطرق الفصل الثاني إلى موضوع التاريخ عند العرب، حيث كان العرب قبل الإسلام يؤرخون للأحداث العظيمة والوقائع المشهورة كعام الفيل وبناء الكعبة، حتى جاء الخليفة عمر بن الخطاب وأمر بأن تتخذ الهجرة النبوية بداية للتاريخ العربي.

أما بالنسبة إلى تاريخ العرب قبل الإسلام، فلا يوجد إلا في بعض النقوش المدونة على المباني القديمة، وكذلك في بعض الأبيات من الشعر التي يتفاخرون من خلالها بأنسابهم ويتذكرون أيامهم، كداحس والغبراء وحرب البسوس، ولما جاء الإسلام أصبحت هناك حاجة ملحة لتدوين التاريخ وذلك لعدة أسباب، تتلخص أولا في السيرة والمغازي، وثانيا في رغبة المسلمين في فهم ما جاء في القرآن والسنة من قصص اليهود والأنبياء السابقين، وثالثا في رغبة الخلفاء في الاطلاع على سياسة الملوك ليعرفوا كيف يسوسون شعوبهم، ورابعا لتقدير الجزية والخراج، فكان الولاة يريدون معرفة أحوال الأقطار عن طريق مؤرخي هذه البلدان، وخامسا بسبب نظام العطاء والجند، فقد كانت المرتبات تصرف بحسب الأنساب والأسبقية في الإسلام فظهرت كتب الطبقات، وسادسا احتكاك العرب بشعوب لها حضارات أيضا، وسابعا ازدهار حركة الترجمة والتأليف بتشجيع من الخلفاء، وأخيرا بسبب حوادث الخلاف بين المسلمين.

ويذكر الكاتب شوقي الجمل في هذا الفصل مدارس الحركة التاريخية عند المسلمين مثل المدرسة اليمنية التي تعتبر استمرارا للتيار الجاهلي، ومن روادها وهب بن منبه، فقد كانت هذه المدرسة تعتمد على الروايات اليمنية في طابع أسطوري، أما المدرسة الثانية فكانت بالمدينة ومكة وهي مدرسة كتّاب السيرة والمغازي الذين اعتمدوا على ما كان دائرا بين العرب من أخبار الجاهلية وأحاديث رواها الصحابة، ومن أبرز هؤلاء عروة بن الزبير، الذي تعرض في كتاباته لفترة الخلفاء الراشدين، وكان يتميز بالصراحة والبساطة، وهناك المدرسة العراقية في الكوفة والبصرة وبغداد، ويعتبر الإخباريون هم المؤرخون الأوائل في العراق وكان لهم دور في تطوير التاريخ بالعراق وكانوا يعتمدون على الوثائق الرسمية وأخبار الساعة، وهناك مدرسة التاريخ في مصر والشام وكان أول أساتذتها من الصحابة الذين رحلوا إلى هذه الأقطار، ويعتبر عبدالله بن عمرو بن العاص مؤسس مدرسة التاريخ الإسلامي بمصر، أما الشام فنزل بها الصحابة وحدثوا عن الرسول، ويعدّ الإمام الأوزاعي من أشهر علماء ومؤرخي الشام.

صفات المؤرخ

يحاول الكاتب ضمن الفصل الثالث، في معرض حديثه عن مكانة التاريخ بين العلوم الأخرى، أن يفند ما كان يدور في ذهن بعض العلماء من رأي خاطئ بأن التاريخ ليس بعلم لأنه لا يمكن استخلاص قوانين علمية يقينية ثابتة، كما في علم الكيمياء. فالبعض يرى التاريخ على أنه فن والبعض يراه إنشاء أدبيا، لكن الكاتب يؤكد على أن التاريخ علم من خلال عرض آراء بعض المفكرين أمثال كونت وهرنشو وأن علم التاريخ قد تطور وأصبح علم نقد وتحليل يتبع تطور المجتمع ويهدف للوصول إلى الحقيقة من خلال حكم قائم على النقد، ويستعرض شوقي الفائدة من دراسة التاريخ، ويذكّر بأنها تنشّط الفكر وتزيد الإنسان الفضائل وترفع من مستوى الأخلاق، فالتاريخ عبارة عن أستاذ يزودنا بنصائح تفيد السلوك لتقويمها.

ويذكر الكاتب في الفصل الرابع البعض من علوم الوثائق في علم التاريخ، مثل علم الجغرافيا ودوره في بيان مناخ المنطقة وطبيعتها الجغرافية من أنهار وجبال، وتأثير هذه الطبيعة على نشاط الإنسان وأخلاقه وطبائعه، وأيضا علم الاقتصاد ومعرفة مدى استغلال ما تقدمه البيئة من إمكانيات، كما ذكر ما لعلم الآثار من صلة بالتاريخ وماله من قيمة خاصة تلقي الضوء على حياة الإنسان الأول وعاداته وتقاليده، وهناك أيضا علم الوثائق التي تعتبر المصدر الأصلي للباحث.

ويختم المؤلف كتابه بعرض الصفات التي يجب أن تتوفر في المؤرخ مثل الجدّ والصبر، فهو يحتاج إلى سعي وراء المعرفة وبذل الجهد لتوفير المصادر، ويجب أن يتحلى المؤرخ بالدقة والأمانة في عرض وجهات النظر وأن تتوفر فيه النزاهة التامة، كما يؤكد الجمل على أن المؤرخ مطالب باليقظة والتحليل الجيد للوثائق والقدرة على التفسير والوصف والربط بين الأحداث المتعددة مثلما كانت في زمنها، ولا بدّ أن يتقبل آراء الآخرين ويحسن تنظيم المعلومات وتصنيفها لكي يقوم بعد ذلك بعرض أفكاره بأسلوب علمي سهل وعبارات واضحة.
_____
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *