المنفى متعدد الوجوه

*محمد الأسعد

مررتُ في ستينات القرن الماضي برواية لا تُنسى مترجمة إلى العربية تحت عنوان «الحقيقة ولدت في المنفى» (دار العلم للملايين، 1963)، للروائي الروماني «فينتيلا هوريا» (1915-1992)، الذي فاز كاتبها بجائزة غونكور، إلا أنه رفض تسلم الجائزة بسبب ضجة ثارت حول تهمة انتمائه إلى ما يطلق عليه «الحرس الحديدي» في رومانيا، وهي تسمية لحزب سياسي قومي صعد هناك وتمت تصفيته في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية.

بالطبع ليس هذا ما يجعل هذه الرواية لا تنسى، فسواء تدخل المترجم العربي، إبراهيم الحلو، وألحق بالعنوان ما ليس فيه، أو أخذت رومانيا الاشتراكية آنذاك على كاتبها الانتماء، في فترة من حياته، إلى حرس حديدي أو قصديري، تظل هذه الرواية من روايات القرن الماضي المهمة، رواية يمكن أن ندرجها في عداد الأعمال المعنية بالمنفى ومعانيه المتعددة، الموضوع الذي سيصبح في السنوات اللاحقة شبه آلة موسيقية يعزف عليها أكثر من كاتب، وتقدم على تداولها أكثر من ثقافة، وتتبادر إلى ذهني حين أفكر وألح على أن الرواية هي إيقاع ثقافة قبل أن تكون إيقاع فرد من الأفراد.

ما يعنيني هنا بالدرجة الأولى هو إيقاع المنفى كما ظهر على يد هذا الكاتب الروماني، ثم إيقاعه لدى كاتب آخر، أسترالي هذه المرة من أسرة لبنانية مهاجرة يدعى «ديفيد معلوف» مولود في أستراليا في العام 1935، تناول موضوعة المنفى في روايتين، الأولى «حياة متخيلة» (1978)، والثانية «استذكار بابل» (1993).

اللافت للنظر مبدئياً هو أن «معلوف» في رواية «حياة متخيلة» يتخذ من رواية «فينتيلا» وشخصيتها الرئيسية، الشاعر الروماني «أوفيد»، وسردها القائم على تسجيل اليوميات، وموضوعتها عن المنفى، أدوات يمسك بها، إلا أنه يتجه وجهة أخرى، وكأنه استبدل آلة النفخ الأسترالية المسماة «ديدجيريدو» بقيثارة «فينتيلا»، فأصدر بها نغماتٍ مختلفة.

الشاعر «أوفيد»، ومنفاه وغربته عن لغة وثقافة مختلفة على شاطئ البحر الأسود بين شعب الجيتيين، وعكوفه على تسجيل يومياته، هي مشتركات بين الكاتبين، إلا أن المنفى الروحي لدى «فينتيلا»، يتمثل في الوقوف على الحافة بين عصرين؛ عصر الوثنية الرومانية التي قدست الإمبراطور «أغسطس»، وعصر بزوغ المسيحية، بينما يمنح «معلوف» هذا المنفى طابعاً مختلفاً؛ إنه نفي الإنسان عن الطبيعة وكائناتها.

لدى الأول يتسع المنظور ليشمل صعود عصر جديد صاخب بتياراته الفكرية والسياسية والاجتماعية الآخذة في تشكيل عالم مجتمعات ما بعد العصور الوثنية، بينما يضيق المنظور لدى الثاني، وتتحول تجربة المنفى إلى تجربة فردية.

هنا نلمس الفرق بين ثقافتين، وحضارتين، الثقافة الغربية وثقافة سكان أستراليا الأصليين الذين يبدو أن «معلوف» يستمد من ثقافتهم إيقاعه الفكري في روايته. فهؤلاء هم أصحاب أقدم حضارة على وجه الأرض، ولديهم أقدم أشكال القص المسمى «وقت الأحلام»، النابع من اعتقادهم أنهم من نسل كائنات أسطورية، إضافة إلى الموضوعة الأكثر أهمية وهي اعتقادهم أن المعرفة تنبع من الارتباط بالأرض والطبيعة. ولهذا نجده يختلق لقاءً بين «أوفيد» في منفاه وبين طفل متوحش عاش وتربى في الأدغال بين الذئاب، ويحدث هذا اللقاء بين وليد حضارة وبين وليد طبيعة توصف بالتوحش تغييراً حاسماً في شخصية الشاعر؛ وبدلاً من أن يمارس سلطته على الطفل، فيعلمه اللغة وتقاليد العيش بين البشر، يصبح الطفل هو المعلم والقائد والمرشد.

وبعد تجارب مرة يمرّ بها الشاعر والطفل مع من يحيط بهم من أناس يشعرون بأن الطفل المتوحش يهدد حياتهم، يفرّ معه إلى البرية، شاعراً بأنه يحقق ما حلم به، أنه في وطنه:«.. هذا المكان هو المصير الحقيقي الذي كنت أسعى إليه.. حياتي هنا مهما كانت مؤلمة هي قدري الحقيقي الذي أمضيتُ وجودي كله محاولاً الإفلات منه.. أخيراً سأصبح الشخص الذي قصدتُ أن أكونه».

الطفل المتوحش هو من كشف المنفى الحقيقي للشاعر «أوفيد» في هذه الرواية، أي وجوده السابق في حضارة زائفة خاضعاً لمقتضياتها، أو مستلباً ومغترباً بتعبير فلاسفة الاغتراب. ويتبين «أوفيد» خلال جولاته مع هذا الطفل وهو مندهش «.. أن الطبيعة كلها هي العالم الحيّ لديه، وهذا العالم هو منطلق معرفته. إنه نوع من مكتبة أشكال لاحظها واختزنها في ذاكرته؛ لغة أخرى يعرف أن يفسر رموزها ويقرأها.. وعيه هو الذي كان يقودني في جولاتنا».

وستلازم هذا الكاتب الأسترالي، ثقافة ورؤية، موضوعة المنفى على حافة الأشياء مرة أخرى، فيعود إليها في رواية «استذكار بابل»، وهي أيضاً عودة إلى شخصية الطفل ابن الطبيعة الخارج من الأدغال إلى أرض الحضارة والمدنية، ولكن أحداثها تقع هذه المرة في أستراليا وليس على شواطئ البحر الأسود. المنفي هنا هو رجل أسود / أبيض يخرج من الأدغال، رجل يطلق على نفسه تسمية «شيء إنجليزي». وكما كانت الطبيعة هناك هي الشخصية الرئيسية في رواية «حياة متخيلة»، تصبح جوهر الرواية هنا لا شخصيات المستوطنين التي يرسلها الكاتب إلى الهامش.

ويصل هذا الرجل المسمى «جيمي» إلى عصبة من المستعمرين الأوروبيين أقامت لها بيتاً في دغل أسترالي، تشعر بانعدام الاتجاه والضعف وهشاشة هويتها. إنها جماعة منعزلة عما حولها، تقبع على نهاية الخط، أو الحافة كما يقول الكاتب، في بلد وعر وملتهب، ذي اتساع هائل و«ليل لا حدود له»، وليس لديها من مرشد روحي سوى رجل دين شارد الذهن، ومدير مدرسة مستورد مراهق وممتعض.

ومن بضع كلمات إنجليزية يمكن أن يتذكرها «جيمي»، تحاول العصبة تكوين فكرة عن نشأته، فتعرف أنه عاش لمدة 16 عاماً مع قبيلة من السكان الأصليين، أو الأبورجنيز ،كما يطلق عليهم، اكتشفته طفلاً قذفته الأمواج إلى الشاطئ وحسبته روحاً، كما ستظن عصبة المستعمرين. ونتيجة لهذا المنفى بالمصادفة، يتحول الطفلُ إلى شيء غامض ومهدِّد، خليط من غرابة وحشية وشبيه غير مرحب به، لاهو بالأوروبي ولا هو بالأبورجنيزي، بل هو إلى خيال الظل الذي يرعب الطيور أقرب، مرتبك ومشدوه، يبتسم، أخرق وخجول.

إنه «محاكاة ساخرة لرجل أبيض»، و«جيمي» هذا نفسه لا يستطيع تحديد من هو، ولا يتبين إلا أنه يتشارك بأحلامه مع كائن آخر طفا على سطح وجوده حين التقى المستعمرين. والمفارقة هو تعريفه لنفسه بأنه «شيء بريطاني» أولاً، وهو تعبير يطفو قادماً من ماضيه المعتم. هو شيء فعلاً، يثير ذهولهم في البداية ثم يصبح مسلياً، وبعد ذلك يتحول إلى قلق وشك، ثم إلى شيء عدواني مرعب. بالطبع ما يمثله «جيمي» هو «أنفسهم وقد تعرضت للمبالغة»، و«محاكاة أخطأت الطريق»، وهكذا يستحضر وجوده مشروعهم ويضعه موضع تساؤل: هل يذيب انغماسهم في هذا المكان الوحشي هوياتهم أيضاً؟ ويسألون أنفسهم ناظرين إلى «جيمي»: هل يمكن أن نفقدها؟ ليس اللغة فحسب، ولكن «تلك»؟! حتى ليس لديهم كلمة تسمي ما يخشون ضياعه ما دامت «تلك» تشير إلى لبّ ذواتهم، الروح الإنسانية، الحد الوحيد بينهم وبين الظلمات التي لا يمكن سبرها المحيطة بالدغل.

وتدريجياً يصبح «جيمي» متعدد الوجوه، ويعتمد تحوله إلى إنسان، أو إلى متوحش على من يفتش وجهه، ولأي سبب.

يقول «ديفيد معلوف» عن كتابه هذا: «أكثر الأمور صعوبة كانت أن أحصل على ما أردتُ من دون ادعاء، ومن دون تظاهر بمعرفة شيء لا أعرفه؛ لا يوجد رجل أبيض هنا يفهم عالم الأبورجنيز فهماً يكفي ليكتب عنه». ويضيف: «في الماضي، ضلل الأبورجنيز علماء وصحافيين وآخرين، لأن هؤلاء السكان الأصليين، جزئياً، وجدوا البيض «مفرطي السذاجة»، وفي الغالب الأعم لأنهم آمنوا بأنهم لا يستطيعون الحفاظ على ثقافتهم إلا بالإبقاء على الكثير منها سراً».

في هذه الرواية، يقوم الكاتب بتصفية وتنقية تصوره لثقافة سكان أستراليا الأصليين عبر «جيمي» الطفل المتوحش، وعبر عودته إلى فحص فكرة العلاقة بين المنفى والطبيعة الحقة للإنسان، تلك التي سجلها في يوميات «أوفيد» المتخيلة، وجعل أوفيد الشاعر يشرد وراءها، ويتخذ من صبي الأدغال الوحشي مرشده، وهكذا شهد المنفى ولادته وكان مكانها، كما أشار الروماني «فينتيلا هوريا» قبل نصف قرن تقريباً.

______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *