القاهرة- كل المشاريع التي أطلقت لتكريم «نجيب محفوظ»، منذ رحيله في 30 أغسطس/آب 2006 لم يتحقق منها شيء، هل هناك إهمال أكبر من أن تترك حقوق نشر أعماله لدار نشر خاصة؟ هذه الدار لم تُعد طباعة أعمال الكاتب الكبير، التي نفدت، كما أن الحديث عن المتحف الخاص به أصبح نسياً منسياً، والمسارات الخاصة بالأماكن التي كتب عنها، مثل «السكرية وقصر الشوق وبين القصرين» لم يعد يذكرها أحد.
كل ما يمكن أن يذكرك بأن روائياً كبيراً عاش هنا، هو احتفال الجامعة الأمريكية بالقاهرة في عيد ميلاده في 11 ديسمبر/كانون الأول (1911) بإعلان اسم الفائز بجائزة سنوية تحمل اسمه، إنه النسيان التام فالدورية التي تحمل اسمه، وصدر منها بضعة أعداد عن المجلس الأعلى للثقافة، لا يعرفها أحد، لأنها باهتة، لم تستطع تحقيق المعادلة التي تجمع بين الرصانة الأكاديمية والبساطة، التي تحقق لها رواجاً كبيراً.
كانت كلمة نجيب محفوظ، التي ألقيت في احتفال الأكاديمية السويدية بجائزة نوبل، تكشف عن تكوينه الثقافي، فهو «ابن حضارتين»، وهذا ما تشربه من أمه تلك السيدة الأمية، التي كانت تأخذه معها في زيارة المتحف المصري والكنائس والمساجد التاريخية، وكانت مصر القديمة ملعب طفولته حاضرة في معظم كتاباته، فعندما التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة القاهرة، نقل كتاباً لجيمس بيكي إلى العربية وعنوانه «مصر القديمة» عام 1932 وقد طبعت «المجلة الجديدة» هذا الكتاب هدية مجانية لقرائها مع العدد.
كان رئيس تحرير المجلة هو «سلامة موسى»، الذي التقط موهبة محفوظ، فكان ينشر له مقالاته في الفلسفة، ولما له من دور في حياة الروائي الكبير، فقد كتب عنه في «بين القصرين»، واختار له اسم «عدلي كريم» كان سلامة موسى يظن أنه أمام طالب مجتهد في قسم الفلسفة وكفى، خصوصا أنه كان من الثلاثة الأوائل على القسم، وكان السؤال عما سيفعله بعد التخرج، فقال له محفوظ: «أكتب بعض الحكايات في أوقات الفراغ» فطلب منه نموذجا مما يكتبه، وأحضر له محفوظ مسودة «عبث الأقدار» وكان يسميها «حكمة خوفو» فقال له موسى: «هذا عنوان غير روائي ولن يحبه الناس» واستقر الرأي على «عبث الأقدار».
يكشف غالي شكري في كتابه «نجيب محفوظ من الجمالية إلى نوبل»، أن محفوظ الموظف البيروقراطي قد تعلم الإصغاء عميقاً لنبض الشارع الشعبي منذ كان طفلا في الحارة، وعلمته البيروقراطية الانضباط والنظام والبعد عن وجع الدماغ، وإذا كان سلامة موسى قد تولى تربيته الفكرية والاجتماعية، إلى جانب الجامعة، وشجعه على الكتابة عموماً، وعلى كتابة الرواية خصوصاً، فقد كان طه حسين وعباس محمود العقاد من أهم الذين أسهموا في صياغته العقلية والنفسية، أخذ من طه حسين العقلانية والتفاعل الخصب مع الغرب، ومن العقاد تمرده واعتداده بنفسه ككاتب.
يضم كتاب غالي شكري رسائل كاشفة، وجهها نجيب محفوظ إلى كتاب عصره، ومن الواضح أنه اختار هذا الشكل الأدبي، الذي اندثر الآن، رداً على أسئلة وجهت إليه، وتدور حول أعماله وأفكاره، وأولى هذه الرسائل تلك الرسالة الموجهة إلى الدكتور رشاد رشدي، صاحب دعوة «الفن للفن» التي وقف في مواجهتها نقاد كبار على رأسهم محمد مندور.
«عزيزي الدكتور رشاد رشدي
الأدب وثيقة تسجيلية يمكن الاستئناس بها ولكن من المغامرة غير العلمية الاعتماد عليها، إن أحداث الأدب تقع في التاريخ القديم أو المعاصر، حتى الأدب المجرد لا يخرج كلية عن حدود التاريخ المرنة، ولكن أي تاريخ وأي تسجيل؟ إنه لا يعتمد على المراجع أو الإحصاء بل يعتمد أولا وأخيراً على القلب، العاطفة، الوجدان، فالأدب وثيقة تسجيلية لا للتاريخ ولا للواقع، يخيل إلي أن الأدب ثورة على الواقع لا تصوير له، غاية ما في الأمر أن هذه الثورة قد ترتدي شكلاً صريحاً كما في الأدب الحديث، أو ترتدي لباس الواقع الظاهر، بعد أن تحدث فيه خفية كل تغييراتها، «بين القصرين»، يمكن اعتبارها وثيقة تسجيلية، كذلك رواية الأستاذ أحمد حسين وهي عن الفترة نفسها، اقرأ الروايتين وسوف توقن من أنه لا توجد وثيقة تسجيلية على الإطلاق، والحق أنني لم أكتب «الثلاثية» لأؤرخ لمصر، بل لم أكتب القصص التاريخية الصريحة «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة» لأقدم تاريخاً بأمانة، وما دفعني للكتابة في الحالين إلا حبي لأماكن وأشخاص وقيم، أما الأخلاق فأمرها مختلف في اعتقادي.
أي رواية هي مجموعة من السلوك، وأي سلوك هو حركة أخلاقية، فلا يخلو أدب من أخلاقية معينة، أحياناً يكون الأديب مؤمناً بمجتمعه، فيحكم بالطريقة التي يختارها على شخوصه، تبعاً لأخلاقية جاهزة يؤمن بها، وهناك من يقترب من قيم جديدة، وقد تبدو لذلك روايته غير أخلاقية، أو جمالية بحتة، على حين أنها تبشر ضمنا بأخلاق جديدة، على هذا الأساس فإني أعتبر مؤلفي «صورة دوريان جراي» و«أزهار الشر» و«عشيق الليدي تشاترلي» كتاباً أخلاقيين، حتى المرحوم الشاعر عبدالحميد الديب فهو شاعر أخلاقي».
الرسالة الثانية
«عزيزي الأستاذ أنيس منصور
لقد بدأت حياتي بكتابة المقال، كتبت بصفة متواصلة فيما بين عامي 1928 و1936 مقالات في الفلسفة والأدب في «المجلة الجديدة» و«المعرفة» و«الجهاد» و«كوكب الشرق» ثم اهتديت إلى وسيلتي التعبيرية المفضلة وهي القصة والرواية، ولو كنت صحفياً لواصلت كتابة المقال إلى جانب القصة والرواية، ولكني كنت وما زلت موظفاً، فلم يكن يرجعني شيء إلى المقال إلا ضرورة ملحة، يضيق عنها التعبير القصصي، وأعترف لك بأن هذه الضرورة لم توجد بعد، فأنا لا أعد نفسي من أصحاب الرأي، ولكن من زمرة المنفعلين بالآراء، ولذلك فمجالي هو الفن لا الفكر، وثق بأنه لو أخرجني الله من الظلمات برأي شخصي يمكن أن أنسبه إلى نفسي لما ترددت لحظة في تسجيله في مجاله المفضل، بل الوحيد، وهو المقال، ألا ترى «جرييه» صاحب رأي في الرواية الجديدة؟، وكذلك «يونسكو» بالنسبة للمسرح؟، ولكن ما حيلتي إذا لم يكن عندي رأي جديد؟، قضى ربك أن أكون من أصحاب القلوب لا العقول، ولا مناص من الرضا بقضاء الله».
الرسالة الثالثة
«عزيزي الدكتور لويس عوض
أعتقد أن الازدواج اللغوي ظاهرة عامة في جميع اللغات، فما يقتضيه الفكر من تعبير تحليلي وتفسيري مختلف جداً عما تقتضيه الحياة اليومية من اقتصاد في التعبير وإعداد له، بحيث يعبر تعبيراً عملياً يلبي مطالب الحياة القومية.
وقد كان الأدب يكتب بلغة الشعر، مسرحاً وحكايات وملاحم، وباعد بين اللغتين، وأكد الازدواجية، ولكنه لم يقلل من عبقرية التعبير الفني، ما أكثر الذين يكتبون حوارهم بلغة الحياة اليومية ومنهم من يكتب النص والحوار بها متجاوزاً بذلك مشكلة الازدواج، فهل بلغوا العالمية؟ الحق أنهم فقدوا العالمية»المحلية» التي تتضمنها اللغة الفصحى بين البلاد العربية، ولم يصلوا إلى عالمية العالم.
إني لا أعتبر هذه الازدواجية مشكلة فهي طبيعية بل هي تعبير صادق عن الازدواجية في شخصية الفرد، بل توجد عادة بين حياته اليومية وحياته الروحية».
الرسالة الرابعة
«عزيزي الأستاذ رجاء النقاش
إنني ضعيف الإيمان بالفلسفات، ونظرتي إليها فنية أكثر منها فلسفية، ولعل الإيمان الوحيد الحاضر في قلبي هو إيماني بالعلم والمنهج العلمي، وبقدر شكي في النظرية كفلسفة، فإني مؤمن بالتطبيق في ذاته، بصرف النظر عن أخطاء التجريب ومآسيه، ولكي أكون واضحاً أكثر أعترف لك بأنني أؤمن بتحرير الإنسان من:
الطبقية وما يتبعها من امتيازات كالميراث وغيره.
الاستغلال بكل أنواعه.
أن يتحدد موقع الفرد بمؤهلاته الطبيعية والمكتسبة.
أن يكون أجره قدر حاجته.
أن يتمتع الفرد بحرية الفكر والعقيدة في حماية قانون يخضع له الحاكم والمحكوم.
تحقيق الديمقراطية بأشمل معانيها.
التقليل من سلطة الحكومة المركزية بحيث تقتصر على الأمن والدفاع».
الرسالة الخامسة
«عزيزتي الدكتورة لطيفة الزيات
أعترف لك بأنني لست معاصراً إلا في النطاق المحلي ومع بعض التحفظات، إني قارئ لا بأس به، أتابع خلاصات العلم الحديث والفلسفات الحديثة، ولك قدرة العقل على التكيف تفوق قدرة الشخص ككل، وقد كان عصر الإقطاع يحولنا إلى «أشياء» والصناعة الحديثة بدورها حولت الإنسان العربي فيما يقال إلى شيء أيضا، ولكن ما أبعد الهوة بين هذا الشيء وذاك.
أما قصتي مع الأساليب الحديثة فإنني أرى فيها بعض تجربتي الشخصية، وأختارها أو هي تختارني بحسب الأحوال والمقامات، وأذكر الآن أنني كتبت «زقاق المدق» بالطريقة التي كتبتها بها وأنا على علم بجويس وكافكا وبروست، وكان النقد يوجه إلي في ندوة كازينو أوبرا – من الأستاذين بدر الديب ويوسف الشاروني – بأنني أكتب بأسلوب القرن التاسع عشر، ولكنني وجدت الشجاعة أن أكتب الثلاثية بنفس الأسلوب لشعوري بأنه المناسب للتجربة التي أقدمها.
بعد ذلك تغير ذلك الشعور، لم يعد يهمني الفرد كفرد له خواصه في زمان معين ومكان محدد، ولكني جعلت أبحث فيه عن الإنسان في موقف ما، دون تردد وجدتني أنتقل إلى أسلوب جديد مناسب سواء في القصة القصيرة أو المتوسطة، حققت في عام 1959 وما بعدها ما طالبني به الديب والشاروني في الأربعينات وأبيته، ولكن لأسباب ذاتية جوهرية غير مجرد الاطلاع والثقافة.
ونحن في الأساليب مسبوقون كما تعلمين، ولذلك لم أجد مناسبة للأخذ من الأجيال اللاحقة أو المعاصرة لي، ما دمت أستقي من النبع الذي منه يستقون، والحق أن الحظ لم يسعدني بالتعرف على جيل الشباب إلا قبيل النكسة، بعد أن أنجزت جل أعمالي، ولا أقول ذلك ترفعاً، فإنني على استعداد طيب للإفادة من أي زميل مهما يكن عمره، لو أحدث في الفن جديداً، وجدت فيه إشباعا لحاجة أبحث لها عن شكل مفتقد، وثابت أنني ملت إلى تجربة الأساليب الحديثة بدءاً من عام 1959 قبل أن يشرع أغلب الشباب الجدد في نشر شيء من أعمالهم.
هذه حقيقة لن تقلل من مجهود الشباب الذي أحترمه وأعجب به، كما ينبغي الاعتراف أيضاً بأن كثيرين منهم يجربون أساليب لم أقترب – وربما لن أقترب – منها على الإطلاق».