نجيب محفوظ بين الفيلم والرواية


*

إن كل دراسة لنص عمل فني، ترتبط بالضرورة بعلاقتين قبلية وبعدية، وبمرتكز منهجي، ونسق السرد يتعلق بمكونات عدة لغوية ونفسية وفلسفية واجتماعية، ويعد عالم السرد الذي نسل من مضامين مطردة من نهج الحكي في جزء منه إطاراً وصفياً ذا بعد منهجي بنيوي وأسلوبي وتفكيكي، وهو تجربة تعتمد وسائل شتى متداخلة شعورية ووجدانية تدخل في قيم جمعية شديد التعقيد والتضافر مع سلوكيات فردية.

وانطلاقاً من هذه المحددات نجد أن عالم نجيب محفوظ مرتبط بمرجعيات زمانية ومكانية تعود الأولى محفوظ منها إلى عمره التسعيني إذا ما ذهبنا معه في التقصي إلى أقاصي رواياته عند إبحار العمر على مقربة من نهابات المرافئ، أما بعد مرجعياته المكانية فهي أرض مصر بكل تداخلات جغرافيتها، فيما ينحصر عالمه الاجتماعي في إطار جماعة ناطقة بالعربية ومن أخلاط هذه المكونات المكتسبة، نتج إبداعه الفني مرتكزاً على عوامل ذاتية الدافع متمثلة في مواهب واستعداده الإرادي للعطاء الفني بتدرج وتماهي مع صرير وقع المتغيرات، فمن روايات متناثرة نشرت له في حقبة الثلاثينيات من القرن المنصرم في بعض الإصدارات مثل مجلة الرسالة، قام بجمعها وأصدرها تحت مسمى “همس الجنون”، وكانت نهاية أقاصيه في تلك الحقبة مجموعة سردية “قشتمر” فقد صدرت هذه المجموعات من وعاء يحتوي على متفرسات قراءة متعمقة ومعرفة مدققة لمفردات واقع بلاد حين نشأ وجدها ترزح تحت نير المستعمر.
ونجيب محفوظ ابن أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة إضافة إلى كونه دارساً للفلسفة فهو حاصل على ليسانس، وهو من مرابع نشأته هذه منطلق غير جامد في قراءات بشكل مستمر متجاوزاً موقع إلى ما يليه، غير غافل عن ملمات الزمن، فقد تفتق وعيه كطفل نابه وهو في الثامنة من عمره فطالع وعيه أحداث ثورة 1919 ومن ثم عاش تداعياتها فكان أول ما التقط من تضاد وثقافة المتغيرات مع مكونات ما التمس خياله من ملاعب الطفولة وما لبث فوسمت رؤى الشاب القاص الحرب العالمية الثانية فمزجت دواته من ضروس معاناتها، فلاح في أفق خيال الفنان فيه ما تساقط من محاذير على أعمدة ربط الإنسانية فكسرت تضامن الذات فيه مع كل ما هو إنساني فافتعلت في دواخله تصادم الأيديولوجيا والمنولوجيا، فانسكب من مداد مدخولها رواياته في حقبة الأربعينيات. وشهدت شباباً فقد ذاته، عبر مستويات عدة، سياسية واقتصادية، واجتماعية، فانفجرت إشراقة ثورة 1952، في شكل حركة عسكرية غطت مساحة الوطن وتداعت تأثيراتها فشملت تطلعات آفاق محيطها العربي وما وراءها من بلدان إفريقية.
غير أن الثورة تعثرت في مسيرتها وأصابها غير قليل من إمارات الخلل كشفت عن نفسها بوضوح في هزيمة 1967 وما عقب حقبة من حقبة ساداتية وما شهدته من انتصار منقوص تبعه من عدد من الممارسات على مستوى السلطة السياسية ألقت بظلال على الجماعات المصرية والعربية معاً، فشكلت مناخات واقع روايات (بداية ونهاية) و(زقاق المدق) و(القاهرة الجديدة) و[الثلاثية (قصر الشوق) و(بين القصرين) و( السكرية)] و(اللص والكلاب) و(السمان والخريف) و(الكرنك) و(يوم قتل الزعيم) و(حديث الصباح والمساء)، وهو في سرده يقدم لنا الواقع الاجتماعي للأسرة المصرية الكبيرة، وهو ما يمكن أن نسميه طبقات من الفكرة وتيارات من السرد المتين التي تطوف في آفاق من المستقبل وهو هنا بعدية مخزون قبلي لما سوف تتطلع إليه دواخل مبدع من قراءة تنبؤية لما سيكون عليه المستقبل.
ومن بين تعاطي نجيب محفوظ مع الإصدارات من روايات أو في مجال الكتب تحت عناوين مختارة بعناية من واقع البئية و/ أو من واقع ما جسمه مضمون النص، إلى تعاطيه مع السينما كواحد من مشاهير الكيف والكم في هذا المجال على هذا الصعيد، حيث كان أول من تعامل مع السينما كقطاع حيوي فبدأ التعامل معه منذ منتصف الأربعينيات.
يقول المؤلف محمود قاسم في كتابه “نجيب محفوظ بين السينما والرواية” أتاحت لي الفترة التي قمت فيها بإعداد هذا الكتاب، أن أعاود قراءة إبداعك الجميل، مرة واحدة، في فترة متقاربة، وأن أشاهد الأفلام المأخوذة عن بعض هذا الإبداع، من روايات وقصص كثيرة مما جعلني أعايش عالم الكاتب البالغ الاتساع، رغم ضيق المكان فيه، وذلك من خلال شخصياته، والأماكن التي يعيشون فيها، والمصائر التي تنتظرهم، بالإضافة إلى مواقفهم من الحياة، والكون والمسائل القدرية.
وجاءت فكرة هذا الكتاب، من خلال اهتمامي بالمقارنة دوماً بين النصوص الأدبية، والأفلام السينمائية المأخوذة عنها، سواء في الآداب العالمية أو المحلية، وهو أمر مهم للغاية، حيث لاحظت دوماً أن الكثيرين من المهتمين بالسينما المصرية، ومنهم نقاد، لا يقرأون الآداب إلا قليلاً، وأن أدباء ينظرون إلى السينما في بعض الأحيان، نظرة دونية فلا يتابعون الجديد منها، وإن كان بعض الأدباء قد صاروا نجوماً في السينما بفضل إبداعاتهم، لذا، فإن الدراسات المقارنة الحقيقية بين الآداب والسينما قليلة للغاية، رغم هذا الكم الكبير من الأفلام الجيدة، والمتميزة المأخوذة في كل أنحاء الكون عن الأدب. مهما قيل أن الفيلم صورة فهو أيضاً، قصة وحوار.
وكم قيل في هذه العلاقة بين الفيلم، والنص الأدبي، وكم نوقشت مسأله الالتزام، أو الخروج عن النص الأدبي، وقد كانت أعمال نجيب محفوظ هي الأكثر جدلاً في هذا الأمر، ليس فقط لأن أعمال الكاتب كانت الأكثر أهمية، ولكن أيضاً لأن محفوظ هو أقدم الروائيين ارتباطاً بالسينما، سواء ككاتب سيناريو منذ بدايته عام 1947، أو منذ أن تم الانتباه إلى إنتاج رواياته عام 1960 وحتى الآن. فليس هناك أديب آخر ظلت له هذه العلاقة بالسينما طوال هذا السنوات الطويلة، بالإضافة إلى أنه تعاون في كتاباته للسيناريو مع أبرز المخرجين، وفي مقدمتهم صلاح أبو سيف، الذي كان يفخر دوماً أنه علّم نجيب محفوظ حرفية كتابة السيناريو؛ لذا فإن مناقشة مسيرة محفوظ في السينما ستظل أمراً متجدداً في مسألة الدراسات والبحوث السينمائية، خاصة المقارنة منها.
وقد لفتت هذه العلاقة الكثير من الباحثين، فقدموا العديد من الدراسات والمقالات في هذا الشأن، ولعلّ الموسوعة التي أعدها الدكتور مدكور ثابت عن نجيب محفوظ والسينما في أكاديمية الفنون، تكشف قوة هذه العلاقة، رغم أنه ليس كل ما كتب عن الكاتب والسينما مرصود في هذه الموسوعة. كما أن الكتب التي تناولت إبداع محفوظ في السينما لم تتوقف إلا عند أفلام بعينها، حيث بدا لى أي حد صار من الصعب على أي باحث أن يرصد هذه العلاقة.
ومن هنا كان هذا الكتاب عن العلاقة بين الفيلم والرواية عند الكاتب، أو بشكل عام بين النص الأدبي، أياً كان رواية أو قصة قصيرة، وبين النص الروائي وبين النص السينمائي، إنه كتاب مقارنة في المقام الأول بين الطرفين: الفيلم، الرواية. وبالعكس. هو قراءة لكلا النصين معاً، أي قراءة النص السينمائي، مع أصله النص الأدبي، ماذا لفت كاتب السيناريو في النص الأدبي، وماذا توقف عنده، وماذا حذف من النص؟ ثم إضافات السيناريو، حيث لوحظ أن هناك كتاب سيناريو تعاملوا مع النص الأدبي بالتزام واضح في أفلام عديدة منها “اللص والكلاب”، و”أهل القمة”، و”الحب فوق هضبة الهرم”، و”بين القصرين”، وبدرجات مختلفة في “السمان والخريف”، و”الطريق”، و”السكرية”، و”الحب تحت المطر”، و”ميرامار”، و”القاهرة 30″، و”الحرافيش”، وراحت أفلام أخرى تأخذ بعض السطور أو الفصول، مثل “الخادمة” و”نور العيون”، و”وصمة عار”، و”ليل وخونة” بينما من الصعب جداً أن نرى أي علاقة بين أفلام كتب في أفيشاتها إنها مأخوذة عن نجيب محفوظ، دون أن تكون مأخوذة حقيقة عن أي من أعمال نجيب محفوظ، مثل “الشريدة” لأشرف فهمي، و”أميرة حبي أنا” لحسن الإمام، و”فتوات بولاق” ليحيى العلمي، و”المذنبون” لسعيد مرزوق.
وإذا توقفنا عند المقارنة بين النص الأدبي والسينمائي، وعندما لا نجد أي شيء لا يستدعي لا المقارنة، أو التحليل، يقول محمود قاسم: تجاهلت الكتابة والمقارنة عن هذه الأفلام، فمثلاً بالبحث عن الأصل الأدبي لفيلم “فتوات بولاق”، فإن معركة مفتعلة قد قيلت في بداية الثمانينيات أن الأصل هو “الشيطان يعظ”، علماً أن هذا الاسم هو للمجموعة، وليس للقصة المأخوذ عنها الفيلم، وقد قيل آنذاك أن القصة بيعت مرتين، كما ادعى البعض أنها مأخوذة من إحدى قصص “أولاد حارتنا”، وهذا ليس صحيحاً، كما أن البعض ذكر، أن الفيلم ماخوذ من الحكاية رقم (22) في رواية “حكايات حارتنا” وبقراءة الحكاية التي لا تزيد عن صفحتين، اتضح أنها لا علاقة لها بقصة الفيلم، والأرجح أنها مأخوذة من “الشيطان يعظ”.
أما “أميرة حبي أنا” فالفيلم مأخوذ عن واحدة من قصص “المرايا”، وهناك تشابه واه للغاية بين بطلة القصة وبين أميرة، كما أن كاتب السيناريو أحمد صالح قد كتب سيناريو مختلفاً تماماً عن أقصوصة “الشريدة”، المنشورة في أول مجموعة قصصية للكاتب باسم “همس الجنون” عام 1939، وقد كتب مقالاً في أخبار اليوم حول هذه الظاهرة، بعد أن كتبت عن الفيلم بمناسبة تكريمه في مهرجان الإسكندرية عام 2009.
إذن، فهذا كتاب قوامه الأساسي هو المقارنة بين النصين دون الرجوع إلى أي مراجع أخرى وبشكل متعمد، سوى النص الأدبي كقراءة، والفيلم كمشاهدة، كما لن نرجع إلى ما كان يردده محفوظ عن عدم تدخله في الفيلم، باعتباره وسيلة مختلفة، ونحن لم نر في العالم كاتباً يتدخل بالمرة في حذف أو لإضافة لفيلم مأخوذ عن رواية أدبية له فالكاتب لم يشارك قط في كتابة أي من الأفلام المأخوذة عن نصوصه الأدبية، ولا نعلم ماذا كان سيؤول إليه النص لو قام بذلك، لكننا نذكر أن كتاباً عديدين تركوا زميلهم محفوظ يكتب لهم سيناريوهات أفلام مأخوذة عن قصصهم. مثل إحسان عبدالقدوس، في “أنا حرة”، و”بئر الحرمان”.
ولعل تدخل أي كاتب في روايته قد تجلى بشكل واضح في تجربة صبري موسى، وهو يقوم بكتابة سيناريو فيلم “حادث النصف متر”، فبدا كأنه يكتب سيناريو لرواية مختلفة تماماً عن روايته. والأمر يحتاج إلى بحوث عديدة عن السينما في كل أنحاء الدنيا.
ومن هنا، كان هذا الكتاب، الذي يعتمد على قراءة ومقارنة النصين معاً. النص الأدبي والنص السينمائي، كنوع من التسجيل، دون اللجوء إلى التأصيل أو التحليل.
وفي آخر فصول الكتاب قدم الكاتب قائمتين لكافة البيانات عن الأفلام التي كتبها نجيب محفوظ مباشرة إلى السينما، وأخرى عن الأفلام المأخوذة مباشرة من نصوصه الأدبية، في أول تجميعة من نوعها.
يذكر أن كتاب “نجيب محفوظ بين الفيلم والرواية” للكاتب محمود قاسم صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة . ويقع في نحو220 صفحة من القطع الكبير.
_______
*وكالة الصحافة العربية

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *