العقل والوقائع: كيف نفهم ما يجري؟

*سعيد ناشيد

عندما يقع حدث غير متوقع، لا سيما في هذا الشّرق الأوسط الكبير، الذي يُعدّ المنطقة الأكثر تأثّرا والأشدّ خطورة في العالم، فإنّك على الأرجح قد تجد نفسك أمام أسلوبين مختلفين:

* الأسلوب الأول، وهو الأسلوب الأكثر ذيعا وشيوعا، أن تتّخذ الموقف الذي يحافظ على نظام المعلومات كما هو مرتّب في ذهنك، مثلما يفعل عدد من الباحثين، وقد لا تتورّع عن إصدار الأحكام تبعا لحالتك الانفعالية، أو بحسب اصطفافك الديني أو المذهبي كما هي عادة عموم النّاس، ثم تحاول بعد ذلك أن تجد مبررات لمواقفك، وحيثيات لأحكامك، وهذا أسهل ما يكون في كل الأحوال، فلن تعوزك المسوغات كيفما كانت مواقفك أو أحكامك، طالما بوسعك استغلال كل شاردة وواردة، فيكفي تصريح هنا، ووثيقة هناك، وتسريب غريب، أو تأويل مريب للبعض من الإشارات المتناثرة هنا أو هناك. أثناء ذلك قد تصبح بعض المصادفات دلائل، وبعض اللقاءات قرائن، وبعض الاحتمالات حقائق، وبعض الإرهاصات خلاصات ونتائج، وهكذا دواليك.

وللمزيد من الجاذبية يحسن بك تقديم الرّؤية في شكل رواية. وبلا شكّ تُعتبر الحكايات حججا دامغة لدى شعوب تعتمد على حاسّة الأُذن، حاسة السّمع والطاعة والتصديق.

هذا الأسلوب سهل يسير، لا يتطلب أيّ ميزة أو مزيّة، لا يتطلب غير تجميع المعطيات المثيرة، وإعادة توليفها بشيء من الحبكة والإثارة والتشويق، تماما مثلما يفعل البعض من المثقفين الحكواتيين باحترافية. هذا الأسلوب، بقدر ما يبدو مغريا موافقا للمتخيل الأنتروبولوجي للناس، فإنه ضال ومدمر.

أمامك: * الأسلوب الثاني.. قبل عرضه، علينا البدء بالسؤال، ما الحدث؟

ثمة ملاحظتان:

أوّلا، لا يوجد حدث بسيط وأولي، بل كل حدث إلا ويتألف من مجموعة من الوقائع الجزئية والمتشابكة. على سبيل الاستدلال، إذا أخذنا أي تفجير إرهابي في العالم كنموذج للحدث، فإننا متى أمعنّا النظر فيه سنراه بدوره مؤلفا من أحداث صغرى متداخلة لها خطوط إمداد متعددة ومتشابكة، ما يستوجب إعمال آليات التفكيك. والحال أن المكونات الجزئية للحدث الإرهابي قد تشمل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ومناطق التوتر في العالم، لا سيما في الشرق الأوسط، والمفاهيم الأساسية للمؤسسات والحركات الدينية بمختلف تقاطعاتها، واللاوعي الجمعي، وعودة المكبوت، وسياسة الهجرة، وسياسة المدينة، إلخ.

ثانيا، لا توجد أحداث تتسلسل على نفس الخط المستقيم بحيث يكون بعضها سببا مباشرا لبعضها الآخر. يجب علينا استحضار أن الأحداث لا تنتظم بنحو تسلسلي على مسار زمني مستقيم كما يغلب الظن. إن الحدث نقطة تقاطع بين خطوط متداخلة، ورهانات متشابكة، وحسابات متعددة، وأزمنة مختلطة. ولنأخذ ظهور التنظيم الإرهابي داعش كنموذج: هنا لا يتعلق الأمر بمسار زمني خطي يمتدّ بسلاسة من غزو الكويت أو احتلال العراق على سبيل المثال، وإنما ثمّة مركب هائل من الأزمنة الأيديولوجية المتشابكة مثلما الحال في زمن اللاّوعي، ولا غرابة أن يماثل الزّمن الأيديولوجي زمن اللاّوعي أحيانا. إننا في هذا المضمار نرى قدرا كبيرا من التشابك بين مسارات النزعة القطبية في مصر، ومسارات النزعة الخمينية في إيران، ومسارات التيار السروري في الخليج، ومآلات خطاب البعث العراقي، ومآلات المقاومة العراقية، ثم مآلات الثورة السورية، إلخ، بحيث تبدو داعش في آخر التحليل نقطة تقاطع لمسارات ومآلات معقدة ومتشابكة، وقد صادفت بيئة ثقافية حاضنة. ويبقى هذا المعطى الأخير في حد ذاته، مستوى آخر من مستويات التحليل.

إجمالا، يستدعي الأسلوب الثاني خمس خطوات:

◄ الخطوة الأولى، تحييد الأحكام المسبقة (وصية ديكارت): عليك أن تمسح ذهنك من كل الأحكام المسبقة. إذ أنها تمثل عائقا كبيرا أمام قدرة الإنسان على الفهم الطبيعي للأمور. طبعا يبقى المجال السياسي مجال الصراع المستمر. وعندما نتحدّث عن الصراع فنحن نتحدث أيضا عن العداوات والخصومات، بل نتحدّث عن تنامي الأحقاد في بعض الحالات، ما يعني وجود أحكام مسبقة بكل تأكيد. لكن، لا يمكن بناء تصرّف جيد إلاّ على أساس فهم جيد. والفهم الجيد يستدعي ضمن ما يستدعيه تحييد الأحكام المسبقة الناجمة عن الخصومات السياسية كيفما كانت حدّتها وشدّتها.

◄الخطوة الثانية، تحييد الانطباعات الأولية (وصية باشلار): عليك أن تتفادى الانطباعات الأولية فإنها خاطئة ومضللة على الأرجح. لماذا؟ لأنّ القاعدة الأساسية في المعرفة أن الأشياء ليست كما تبدو لنا. بل قد تكون الأشياء أحيانا على النقيض مما تبدو عليه.

◄ الخطوة الثالثة، تحييد المظاهر الحسية (وصية أفلاطون): عليك ألاّ تركن إلى المظاهر الحسية التي يبرزها الإعلام المرئي؛ فإنّ هذا الأخير قد يتفوق في تغطية كل أنواع الضجيج المثارة حول اتفاقية معينة على سبيل المثال، لكنه في غمرة الضجيج لن يمنحك فرصة أن تقرأ الاتفاقية بنفسك، لكي تقيم بنودها بإعمال عقلك الخاص. تذكّر أنّ الأضواء الساطعة تخفي أكثر مما تُظهر. تذكّر أيضا الحكمة التي تقول “اغلق التفاز وافتح عينيك”.

◄ الخطوة الرّابعة، تحييد الانفعالات (وصية الرواقيين): ذلك أنّ التعامل الانفعالي مع الوقائع والأحداث يمنعك من الوقوف على مسافة من الأحداث، وهي المسافة الضرورية لتحقيق أكبر قسط من الفهم.. لقد نجح الرواقيون في وضع مسافة حتى مع الألم والموت والمرض، بحيث نجحوا في استيعاب هذه الأمور كحالات طبيعية موضوعية تخضع للعقل بمعزل عن الانفعالات (الخوف، الغضب، الحزن، الندم، إلخ)، وباعتماد كلي على شجاعة العقل السليم. وهذا هو الدرس الذي عمل الكثير من الفلاسفة على تجديده، من سبينوزا إلى سبونفيل ولوك فيري اليوم.

◄ الخطوة الخامسة، استعمل عقلك بكل جرأة وشجاعة (وصية كانط): وهذه هي المرحلة الحاسمة في التقليل من سوء الفهم. وفعلا يستدعي إعمال العقل الكثير من الجرأة والشجاعة، لأنّ الميل إلى التسليم بأي شيء، وتصديق كل شيء، لا يكون إلا من باب الجبن والكسل والخمول.

في كل الأحوال، يبقى أمامك اختيار أخير، بوسعك دائما تعليق الحكم حتى اكتمال الصورة. وهذا ما يكون من باب النزاهة الفكرية أيضا.
______
*العرب

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *