ما زال الفيلسوف الألماني كارل ماركس يملأ الدنيا ويشغل الناس رغم مرور 133 عاماً على رحيله في عام 1883، وعلى الرغم من انهيار التجارب التي تمثلت أفكار الرجل في الدول الاشتراكية، بقيادة الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وما تبعه من نعي للفكر الماركسي، وبدء رواج مقولات نهاية التاريخ والأيديولوجيا، إلا أن العالم يشهد عودة قوية لتلك الأفكار وهي عودة بدأت بهذه القوة، منذ عام 2008م، مع أزمة مالية ضربت الاقتصاد العالمي، ما جعل كثيراً من المفكرين يراجعون تلك المواقف التي قضت بموت ماركس وشيعت الماركسية وما أنتجته من مفاهيم.
عاد كارل ماركس للظهور بكثرة مؤخراً، وصار واضحاً بعد أزيد من قرن وثلاثة عقود على وفاته، أنّ الماركسية انتعشت من جديد بعد أن كانت قد تراجعت فعلاً، ليتصدر اسمه وصورته عناوين مقالات صحفية وعناوين بارزة، تعلن عودة ماركس الفيلسوف الكبير، الذي أسهمت أفكاره في صياغة العالم السياسي للقرن العشرين، وأدت إلى بروز الأنظمة الاشتراكية، وألهمت الأحزاب السياسية في العديد من البلدان، فإن كان هناك مفكر واحد ترك تأثيراً كبيراً في القرن العشرين فهو من دون شك كارل ماركس. فهذه العودة بدأت بتأملات فكرية أطلق لها العنان فلاسفة ومفكرين كبار، بل إن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، دعا إلى تشكيل أممية جديدة ضد تلك الأفكار التي أعلنت موت ماركس، ليعود شبح ماركس مكسياً بالإمكانات المعرفية لفهم ما يحدث في العالم، ومن منطلق العداء للرأسمالية، أطلق المثقفون والمفكرون العنان لمفاكراتهم ومناقشاتهم مع ماركس، هذه المناقشات التي تخترق المسلمات المبذولة، وتجلي الصدأ المتراكم بفعل الأفكار التي اختلطت بمياه الماركسية في منابعها، واختلطت حكاياته بحكايات آخرين، فإلى جانب ما بدا أن الفكر الماركسي مازال يكتسب أهميته وشرعيته، فكذلك هنالك نواقص في تلك الأطروحات والتباس حد الغموض في بعض من مفاهيمه، غير أن الحاجة إلى ماركس مازالت ماثلة، ويبقى أن الاقتراب من أطروحات ماركس جهة نقدها والتعرف إليها مباشرة دون تفسيرات قد نالت منها، وهي التفسيرات التي أضرت بها وقدمتها كنظرية مكتملة، عملية مهمة، فالاقتراب من أطروحات ماركس يمنح الاستفزاز اللازم للتعاطي معها على نحو مع فعل هؤلاء المفكرين المعاصرين دونما قدسية تجاه الرجل وتجاه أفكاره، وذلك لأن فكر الفيلسوف الكبير، كما وصفه أحد محاوريه يفكك العلاقات الاجتماعية والحقائق الغامضة، ويقلب عادات التفكير، ولا يعطي قيمة مطلقة نهائية لممارسات الأفراد والجماعات، وهذا صحيح، فماركس هو رجل النقد الهادف إلى تغيير العالم، وكونه كذلك فهو يقف على النقيض مع الإطلاقية الأيديولوجية التي تدعي شرح كل شيء، فالواقع يقول: إن الماركسية شكلت ثورة على كل شيء على طرائق التفكير، فالماركسية التي صفدها تلاميذ ماركس في قوانين ثابتة، إنما هي وعلى النقيض من ذلك، تدل على حركة الفكر أكثر مما تدل على قوانين ثابتة، وتدعو إلى تغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية لا إلى إعادة إنتاجها، وإلى نزع صفة القدسية والتشيؤ عن علاقات العمل، كما أن مهمة تحرر العمال ستظل باقية، طالما أن هنالك علاقات رأسمالية، وبذلك فإن الماركسية تعلي وبشكل كبير من قيمة النقد، وتجعل منه شرط التغيير والتحول، ومعظم هذه الجهود تقترب من ماركس وتناقشه، وتطرح حكايات جديدة عن ماركس والماركسية.
وفي كتاب «كيفية تغيير العالم حكايات عن ماركس والماركسية» يقتفي المؤرخ الماركسي إريك هوبزباوم أثر تلك المحكيات عن ماركس والماركسية، والكتاب صدر في ترجمته العربية في طبعته الأولى عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت، وقام بترجمته حيدر حاج إسماعيل، ويستدعي الكتاب سيرة ماركس والماركسية، ليعلن عن حكايات جديدة، غير أن هوبزباوم يحذر من أن الكتاب ليس تاريخا للماركسية بالمعنى التقليدي، بقدر ما هو دراسة واقع فكر كارل ماركس وفريدريك إنجلس، ويستهدف الكتاب بحسب مؤلفه الرجال والنساء المهتمين بمعرفة إضافية عن الموضوع، ومعظم الفصول استهدفت القراء ذوي الاهتمام الخاص بماركس، والماركسية والتفاعل بين السياق التاريخي وتطور الأفكار وتأثيرها، ويرى هوبزباوم أن دراسة ماركس الماركسية لا يمكن حصرهما في جدل لصالح جهة أو ضدها ولا في البيئة السياسية والأيديولوجية التي تخص الأصناف المتغيرة من الماركسيين ومنازعيهم، فالماركسية كانت في المئة وثلاثين سنة الماضية الموضوع الرئيسي في الموسيقى الفكرية للعالم الجديد، وعبر قدرتها على تحريك القوى الاجتماعية كان لها وجود حاسم وفاصل في بعض الفترات الزمنية، وإلى جانب ذلك فإن الكتاب يدخل في مناطق غير متناولة، ليلقي ضوءاً على مناطق مظلمة من فكر ماركس وأنجلز، وتبرز كذلك تأثيرات ماركس كعدو للرأسمالية، ومكانة الفكر الماركسي اليوم وفي السابق، وتنبع أهمية الكتاب في كون هوبزباوم قد بذل جهداً كبيراً، ومتابعة حصيفة للمنتوج الصادر في هذا المجال، والمتناول لأفكار ماركس وتأثيراتها في كتب، وأبحاث أكاديمية متخصصة، وكذلك في حوارات مفتوحة مع ماركسيين متخصصين في الفكر الماركسي.
الكتاب يحتوي على 16 فصلاً هي عبارة عن تتبع لصيق لأفكار ماركس ومدى راهنيتها ويقول مقدم الترجمة العربية: «نحن بحاجة إلى أن نحسب حساب ماركس، اليوم، وفق ما بحثه إريك هوبزباوم في هذا الكتاب المقنع الذي يستحق القراءة، بمقدار كبير، وفيه يناقش المؤلف أفكار عدو الرأسمالية الأقوى والأفصح التي كانت ولا تزال مصدر تنوير في كل حقبة زمنية، ووضعنا التاريخي الحالي المتّصف بتطرفات السوق الحرّ يوحي بأن قراءة ماركس قد تكون مهمة الآن أكثر من ذي قبل. يبدأ هوبزباوم ببحث الكيفية التي علينا بها أن نفكّر بالماركسية في عصر ما بعد الشيوعية، ملاحظاً أن السمات التي نربطها بالنظام السوفييتي والأنظمة ذات الصلة به – مثل اقتصادات الأورام البيروقراطية المتداخلة والحالة الاقتصادية والسياسية للحرب الدائمة- ليست سمات مستمدة من أفكار ماركس كما أنها ليست فريدة في الدول الاشتراكية. أما الفصول الإضافية فتبحث في الاشتراكيين السابقين للماركسية، والانفصال الراديكالي (الجذري) عنهم الذي قام به ماركس، وفي وسط ماركس السياسي وأثر كتاباته في العقود الزمنية المضادة للفاشية، والحرب الباردة، وفترة ما بعد الحرب الباردة. فكتاب كيفية تغيير العالم الشامل، المثير والمذخر بالرؤى المتألقة يحرّضنا على إعادة النظر بماركس وإعادة تقييم أهميته في تاريخ الأفكار.
الكتاب ومن خلال فصوله لا يبحث فقط في أفكار ماركس فقط، بل في الأفكار التي شكلت إضافة له، وتلك التي شكلت خصما للنص الماركسي، بل وصارت عند الناس جزءاً من النصوص الماركسية، وفي هذا السياق يرى الكتاب إن من أفضل ما حدث لفكر ماركس بعد سقوط الاتحاد السوفييتي هو تحريره من لينين، واستعادة فيلسوف ترك أثراً في القرن العشرين، بل وكأحد أهم مؤرخي الرأسمالية: «بعد سبعين سنة من وفاة ماركس، عاش ثلث البشر في ظل أنظمة تحكمها أحزاب شيوعية ادّعت أنها مثّلت أفكاره».
بات معروفاً الآن أن معظم الجدل الذي خاضه الاشتراكيون لم يكن منبثقاً مباشرة عمّا كتبه ماركس، فماركس نفسه كتب القليل عن الاشتراكية. إذن حين بدأت هذه الأخيرة في تكوين برنامج عمل لها، لم يكن هناك من دليل وضعه ماركس ويمكن الاستدلال من خلاله، ويرى هوبزباوم أن أسوأ ما حدث للماركسية أن الثورة التي اندلعت باسمها وقعت في روسيا، ثورة أكتوبر، وحدثت في ظروف ليست قادرة على استقبالها، أمر كان يدركه أصحابها لكنهم اعتقدوا أن بإمكانهم صناعة الظروف. في الوقت الذي كانت ظروف ألمانيا أكثر خصوبة لمثل هكذا حدث، لكن الثورة لم تقع فيها. بالطبع هذا لا يعني أن الأفعال المخططة والمنظمة لا يمكنها أن تغيّر العالم، لكنه يعني أن أحداً لن يستطيع توقّع النتائج، وقد تكون مخالفة تماماً لما هو مأمول، ويستعرض الكتاب كذلك الماركسية على مدار 130 سنة أعقبت وفاة ماركس، مستعرضاً تجارب ماركسية عديدة على رقعة جغرافية عريضة غير أن المؤلف لم يتعامل مع الماركسية كنظرية مكتملة فهو يرى أن الكثير مما كتبه صار قديما، وبعضه لم يعد مقبولا، والواضح أيضا هو أن كتابته أي ماركس لا تؤلف مجموعة مكتملة فهو عمل لا متناه ومستمر، فلم يعد هنالك ما يتحول إلى عقيدة جامدة، باستثناء الارثوذوكسية المدعومة بمؤسسات، وبالمقابل يرفض الكتاب فكرة وجود فرق حاد بين ماركسية صائبة وغير صائبة، ويفضل هوبزباوم التعامل مع الماركسية كأداة للتحليل تصلح لتغيير الواقع.
كيفية التفكير بالماركسية في عصر ما بعد الشيوعية، أخذت حيزا كبيرا، فهي تمثل جوهر الكتاب وتقع في فصله الأول الذي يضع الماركسية اليوم في محك الاختبار بتبيان العلاقة بينها وبين ما يقع في الراهن، من خلال استحضار سياق تنامي تطرفات السوق الحرّة الحالية، وتناولها الكتاب بشكل يسعى إلى إثبات إمكاناتها، أي راهنية الماركسية فالمؤلف يؤكد إمكانية ذلك من جهتين، جهة أولى يؤكد فيها ضرورة تحرير فكر ماركس من جبة المفسّرين الأرثوذوكس، وإعادته إلى الساحة العلمية كمفكر وفيلسوف جنباً إلى جنب مع شخصيات من قبيل نيتشه وفرويد، ومن جهة ثانية يؤكد ضرورة تحرير الفكر الماركسي من التأويلات والتعدديات المذهبية التي لحقته، وبالخصوص بعد انهيار تجربة الاتحاد السوفياتي سنة 1991، والتي حررت ماركس من التطابق المشاع بينه وبينها نظرياً، فالكتاب سعى جاهدا لجلاء هذا الصدأ المتراكم على ظهر النظرية الماركسية بفعل الأيديولوجيا وغياب الوعي النقدي، وكذلك من قراءات وتأويلات وتفسيرات متعددة غيبت النصوص والمفاهيم الأساسية للماركسية، وقدمت نفسها على أنها جزء من الفكر الماركسي.
الكتاب يستخلص حكايات جديدة عن ماركس والماركسية، من خلال قراءة جادة وشجاعة، ومؤلف الكتاب يرى بكثير من الإصرار والقوة بل والحماسة، أنّ إعادة قراءة كارل ماركس مهمة أكثر من أي وقت مضى؛ ووجب أن تتمّ بعيداً عن التصنيفات الأيديولوجية التقليدية، إذ أنّ دراسة هذا الفكر الإنساني لا يمكن حصرها إلى الأبد في الجدل التاريخي لصالح جهة ضدّ جهات أخرى، ويرى أن الماركسية قد أفلحت حقاً في تغيير العالم.
الكتاب استطاع أن يطوف بنا لاكتشافات جديدة داخل الفكر الماركسي، وقابلية الماركسية على تصدر المشهد من جديد، فهو قد نقلنا إلى مناقشات مباشرة مع أطروحات ماركس وأنجلس مستجلياً الكثير من الغموض الذي صاحب تلك الأطروحات، وهي مناقشات أجراها الكتاب دون قداسة لتلك الأفكار، وهي القداسة التي أضرت كثيراً بالفكر الماركسي وجعلت منه أفكارا وعقائد ذات ادعاءات شمولية تحول معها ماركس، رجل النقد إلى رجل عقيدة وأفكار مقدسة، فتحول فكره بفضل تلك الاستنتاجات والتأويلات الفاسدة إلى عقيدة وأيديولوجية، تدعي معرفة كل شيء، وبالتالي شرح كل شيء، وهذا بالطبع بعكس أطروحاته نفسها وطرائق تفكيره الرافضة للمسلمات والثائرة على الجمود، والكتاب هو محاولة جديدة في هذا الاتجاه، ومحاولة لتحرير ماركسية ماركس من وصاية أتباعه، ومحاولة كذلك لينفرد الكتاب وفق ما تتبعناه بكتابة حكايات جديدة عن ماركس والماركسية.